الامام الرضا (ع) مكارم أخلاقه وعلمه
الشيخ باقر شريف القرشي

أخلاق الإمام الرضا (عليه السلام) فإنّها نفحة من روح الله، وهي تضارع أخلاق جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وقد حدث إبراهيم بن العباس عن سموّ أخلاقه (عليه السلام) بقوله:
(ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ما جفا أحداً قطّ، ولا قطع على أحد كلامه، ولا ردّ أحداً عن حاجة، وما مدّ رجليه بين جليسه، ولا اتّكى قبله، ولا شتم مواليه ومماليكه، ولا قهقه في ضحكه، وكان يُجلس على مائدته مماليكه ومواليه، قليل النوم بالليل، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى آخرها، كثير المعروف والصدقة في السرِّ، وأكثر ذلك في الليالي المظلمة..). وهذه الأخلاق كأخلاق جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي طوّر حياة الإنسان، وأنقذ الأمم والشعوب من حياة التيه والتأخّر إلى حياة حافلة بالعزة والكرامة.

لقد روى المؤرخون صوراً رائعة من مكارم أخلاقه فقد رووا أنّه لما كان في خراسان وتقلد ولاية العهد، التي هي أرقى منصب في الدولة الإسلامية بعد الخلافة فلم يأمر أحداً من مواليه وخدمه في الكثير من شؤونه وإنما كان يقوم بذاته في خدمة نفسه، وقد احتاج إلى الحمام فكره أن يأمر أحداً بتهيأته، ومضى إلى حمام في البلد لم يكن صاحبه يعرفه فلمّا دخل الحمام كان فيه جندي فأزال الإمام عن موضعه، وأمره أن يصب الماء على رأسه، ودخل الحمام رجل كان يعرف الإمام فصاح بالجندي هلكت، أتستخدم ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فذعر الجندي ووقع على الإمام يقبّل أقدامه، ويقول:
(هلا عصيتني إذ أمرتك..). فتبسّم الإمام في وجهه وقال له برفق ولطف: (إنها لمثوبة، وما أردت أن أعصيك فيما أثاب عليه..) (1).

ومن معالي أخلاقه أنه إذا جلس على مائدة أجلس عليها مماليكه حتى السايس والبوّاب (2) وقد أراد بذلك القضاء على التمايز بين الناس، وإفهام المجتمع أنهم جميعاً على صعيد واحد، وقد اثر عنه من الشعر في ذلك قوله:
لبست بالعفّة ثوب الغنى...... صرت أمشي شامخ الرأس
لست إلى النسناس مستأنساً.............نّني آنس بالناس (3)
إذا رأيت التيه من ذي الغنى.....تهت على التائه باليأس (4)
ما إن تفاخرت على معدم.....ولا تضعضعت لإفلاس (5)

ودلّل الإمام بهذا الشعر على مدى ما يتمتّع به من مكارم الأخلاق التي هي امتداد مشرق لأخلاق آبائه الذين أسّسوا الفضائل والمكارم في دنيا العرب والإسلام.

زهده:
وزهد الإمام الرضا (عليه السلام) في جميع رغائب الحياة، ومباهج الدنيا، واتّجه صوب الله تعالى، وحينما تقلّد ولاية العهد لم يحفل بأي مظهر من مظاهر السلطة ولم يقم لها أي وزن، وقد اعتبر مشي الرجال خلف الرجل فتنة للتابع، ومذلّة للمتبوع فلم يرغب في موكب رسمي وكان من أبغض الأشياء وأشدها كراهية عنده أن يقابل بما يقابل به الملوك والخلفاء من مظاهر العظمة والأبّهة، وقد تحدث عن زهده محمد بن عباد قال: كان جلوس الرضا (عليه السلام) على حصيرة في الصيف وعلى مسح (6) في الشتاء ولباسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيا (7) ويقول الرواة إنّه التقى به سفيان الثوري، وكان الإمام قد لبس ثوبا من خز، فأنكر عليه الثوري ذلك وقال له: لو لبست ثوباً أدنى من هذا؟ فأخذ الإمام يده برفق وأدخلها كمّه، فإذا تحت ذلك الثوب مسح، وقال (عليه السلام) له: (يا سفيان الخز للخلق، والمسح للحقّ..) (8). لقد كان الزهد في الدنيا من أبرز الذاتيّات في خُلق أهل البيت: فقد اتّصلوا بالله، وانقطعوا إليه، ورأوا أن غيره زخرف لا يُوصل إلى الحقّ.

سخاؤه:
ولم يكن في الدنيا شيء أحبّ إلى الإمام الرضا (عليه السلام) من الإحسان إلى الناس والبر بهم، فقد كان السخاء من عناصره ومقوّماته، وقد ذكر المؤرّخون بوادر كثيرة من كرمه وجوده كان منها ما يلي:
1 ـ إنّه أنفق جميع ما عنده على الفقراء حينما كان في خراسان، وصادف ذلك في يوم عرفة فأنكر عليه الفضل بن سهل وقال له: إنّ هذا لمغرم، فأجابه الإمام:
(بل هو المغنم، لا تحدث مغرماً ما ابتغيت به أجراً وكرماً).
إنه ليس من المغرم في شيء صلة الفقير، والإحسان إلى الضعيف ابتغاء مرضاة الله، وإنما المغرم أن ينفق الإنسان أمواله بغير وجه مشروع، خصوصاً الإنفاق على ما لا يعود على المجتمع بفائدة.

2 ـ ومن كرمه أنه وفد عليه رجل فسلّم عليه، وقال له: أنا رجل من محبّيك ومحبي آبائك، مصدري من الحجّ، وقد نفذت نفقتي، وما معي ما أبلغ مرحلة، فإن رأيت أن ترجعني إلى بلدي، فإذا بلغت تصدّقت بالذي تعطيني عنك، فقام (عليه السلام) ودخل حجرة في داره، ولم يلبث أن أخرج يده، وقال له: خذه هذه المائتي دينار، فاستعن بها في أمورك ونفقتك، ولا تتصدّق بها عني، وانصرف الرجل مسروراً قد غمرته نعمة الإمام، والتفت بعض الحاضرين إلى الإمام فقال له: لِمَ سترت نفسك عن الرجل وأخرجت يدك فناولته المال، ولم تره؟ فقال (عليه السلام):
(إنما صنعت ذلك مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه، لقضائي حاجته أما سمعت حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجّة، والمذيع بالسيّئة مخذول، أما سمعت قول الشاعر:
متى آته يوماً لأطلب حاجة.....عت إلى أهلي ووجهي بمائه (9)

3 ـ ومن بوادر سخائه أنّه مرّ به فقير فقال له:
(أعطني على قدر مروّتك)، فأجابه الإمام: (لا يسعني ذلك..).
والتفت الفقير إلى أنّه قد أخطأ في كلامه فقال: (أعطني على قدر مرؤتي..).
وقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً: (إذن نعم..). وأمر له بمائتي دينار (10).
إنّ مروءة الإمام لا تحدّ فلو أعطاه ما في الأرض فليس على قدر مروّته ورحمته التي هي امتداد ذاتي لرحمة الرسول الأعظم. هذه بعض البوادر من كرمه وجوده التي لم يقصد بها إلاّ إدخال السرور على القلوب البائسة الحزينة التي أثقلتها مرارة الحياة وبؤسها.

علمه:
كان الإمام (عليه السلام) أعلم أهل زمانه وأفضلهم، وأدراهم بشؤون الشريعة وأحكام الدين، وقد تحدّث عبد السلام الهروي وهو ممّن رافق الإمام عن سعة علمه (عليه السلام) فقال:
(ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له عدداً من علماء الأديان، وفقهاء الشريعة، والمتكلّمين فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحد إلاّ أقرّ له بالفضل، وأقرّ له على نفسه بالقصور، ولقد سمعته يقول: كنت أجلس في (الروضة) والعلماء بالمدينة متوافرون فإذا دعيّ الواحد منهم عن مسألة أشاروا إليّ بأجمعهم وبعثوا إليّ المسألة فأجيب عنها..) (11).

وقال إبراهيم بن العباس:
(ما رأيت الرضا يسأل عن شيء قطّ إلا علم، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن، وكان يختمه في كلّ ثلاثة أيام ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمته، ولكن ما مررت بآية قطّ إلاّ فكّرت فيها، وفي أي شيء نزلت وفي أي وقت فلذلك صرت أختمه في كلّ ثلاثة أيام..) (12). لقد كان الإمام الرضا (عليه السلام) من عمالقة الفكر والعلم في الإسلام، وهو ممّن صنع للمسلمين حياتهم العلمية والثقافية، والتحدّث عن قدراته العلمية يستدعي دراسة خاصة ومطوّلة عسى أن نوفّق لها إن شاء الله.

عبادته:
وكان الإمام الرضا (عليه السلام) من أعبد الناس، وأخلصهم في طاعته لله، وما ترك نافلة من النوافل ولا مستحباً من المستحبات، وقد فعل كلّ ما يقرّبه إلى الله زلفى، وقد حدّث رجاء بن أبي الضحاك عن مدى عبادته، وكان قد رافق الإمام في سفره من يثرب إلى خراسان، قال: والله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله تعالى منه، ولا أكثر ذكراً لله في جميع أوقاته منه ولا أشدّ خوفاً لله عزّ وجلّ منه...) (13). لقد أخلص الإمام الرضا في عبادته وطاعته لله كأعظم ما يكون الإخلاص فقد خُلِق للطاعة وخُلِق للعبادة، وتجرّد عن مباهج الدنيا وزينتها واتّجه صوب الله تعالى.

هيبته:
أمّا هيبته فكانت تعنو لها الجباه، فقد بدت عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك، وكان من هيبته إنّه إذا جلس للناس أو ركب لم يقدر أحد أن يرفع صوته من عظيم هيبته (14).

آراء وكلمات:
وأدلى فريق من العلماء والمؤلّفين بكلمات عن الإمام الرضا (عليه السلام) وهي تعرب عن إكبارهم وتعظيمهم له وفيما يلي بعضها:

1 ـ المأمون:
وأعرب المأمون في كثير من المناسبات عن إعجابه بشخصيّة الإمام الرضا (عليه السلام) وهذه بعض كلماته:
أ ـ قال المأمون لأسرته حينما لامته على عقده ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام): (أمّا ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن فما بايع له إلاّ مستبصراً في أمره، عالماً بأنّه لم يبق على ظهرها ـ أي ظهر الأرض ـ أبين فضلاً، ولا أطهر عفّة، ولا أورع ورعاً، ولا أزهد زهداً في الدنيا، ولا أطلق نفساً، ولا أرضي في الخاصّة والعامّة، ولا أشدّ في ذات الله منه..) (15).
ب ـ قال المأمون: (الإمام الرضا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم) (16). ولهذه الصفات الرفيعة الماثلة فيه قالت الشيعة بإمامته، وانّه ممّن فرض الله طاعتهم ومودّتهم على الناس.

2 ـ إبراهيم بن العبّاس:
وكان إبراهيم بن العباس ممّن رافق الإمام (عليه السلام) وقد تحدث عن معالي أخلاقه، وكان مما قاله فيه: (وكان كثير المعروف والصدقة في السرِّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنّه رأى مثله فلا تصدّقه) (17).

3 ـ عارف تامر:
قال عارف تامر: (يعتبر الإمام الرضا من الأئمة الذين لعبوا دوراً كبيراً على مسرح الأحداث الإسلامية في عصره..) (18).
وكثير من أمثال هذه الكلمات التي عبّرت عمّا تميّز به الإمام من الصفات الرفيعة التي لم يتّصف بها أحد سوى آبائه الذين رفعوا علم الهداية في الأرض.

مدح الشعراء:
ونظم الشعراء الكثير من الشعر في معالي صفات الإمام الرضا (عليه السلام) ومكارم أخلاقه وفيما يلي بعضهم:
1 ـ الصولي:
وهام الصولي (19) إعجاباً بالإمام فراح يقول:
ألا أنّ خير الناس نفساً ووالداً.....هطاً وأجداداً عليّ المعظّم
أتتنا به للحلم والعلم ثامناً...اماً يؤدّي حجّة الله تكتم (20)

2 ـ أبو نواس:
وتنسب هذه الأبيات الرائعة إلى أبي نواس، وقد قالها حينما عوتب على تركه لمدح الإمام الرضا فقال:
قيل لي أنت أوحد الناس طراً ......فنون من المقال النبيه
لك من جوهر الكلام نظام.........مر الدر في يدي مجتنبه
فعلى ما تركت مدح ابن موسى..لخصال التي تجمعن فيه
قلت: لا أهتدي لمدح إمام...كان جبريل خادماً لأبيه (21)

3 ـ عبد الملك بن المبارك:
قال الشاعر عبد الله بن المبارك في مدح الإمام:
هذا عليّ والهدي يقوده.......من خير فتيان قريش عوده (22)

لقد أجمع المسلمون بجميع طبقاتهم على إكبار الإمام (عليه السلام) وتعظيمه، والاعتراف له بالفضل.
* مقتبس من مقدمة كتاب (حياة الإمام محمّد الجواد عليه السلام دراسة وتحليل) للشيخ باقر شريف القرشي
..................................
1 ـ نور الأبصار: ص 138.
2 ـ المناقب: ج 4 ص 361.
3 ـ النسناس: دابة وهمية على شكل الإنسان.
4 ـ التيه: الكبر.
5 ـ المناقب: ج 4 ص 361.
6 ـ المسح: الكساء من الشعر.
7 ـ عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص178، المناقب: ج 4 ص 360.
8 ـ المناقب: ج 4 ص 360.
9 ـ بحار الأنوار: ج 12 ص 28.
10 ـ المناقب: ج 4 ص 361 ـ 362.
11 ـ كشف الغمة: ج 3 ص 107.
12 ـ عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص 180.
13 ـ عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص 179.
14 ـ عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص 179.
15 ـ حياة الإمام الرضا (عليه السلام): ص 143.
16 ـ عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص 183.
17 ـ حياة الإمام الرضا (عليه السلام): ص 143.
18 ـ الإمامة في الإسلام: ص 125.
19 ـ الصولي: هو أبو إسحاق إبراهيم بن العباس الصولي كان كاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً، ومن شعره:
ولربّ نازلة يضيق بها الفتى
ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتها
فرجت وكان يظنّها لا تفرج
ومن كلامه: مثل أصحاب السلطات مثل قوم علوا جبلاً ثم وقعوا منه فكان أقربهم إلى التلف أبعدهم في الارتقاء.. يروي عن الإمام الرضا (عليه السلام)، توفي بسر من رأى، في منتصف شهر شعبان سنة (243 هـ) جاء ذلك في الكنى والألقاب: ج2 ص 432 ـ 433.
20 ـ مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 332.
21 ـ عيون أخبار الرضا 7: ص 142 ـ 143.
22 ـ المناقب: ج 4 ص 362.