TODAY - November 24, 2010
رياضيات عراقية حزينة
فارس عدنان
أتفق مع فيثاغورس بأن الأرقام تحكم العالم وأختلف، قطعاً، مع ديفيد هلبرت (حول العراق وتميزه) حين عرّف الرياضيات بأنها علم لا يعرف الأعراق ولا الحدود الجغرافية، وبها يكون العالم بكل ثقافاته بلداً واحداً. فالتقرير الذي نشرته باربرا سورك مؤخراً في الأسوشيتد برس عن رواتب أعضاء مجلس النواب العراقي الشهرية والمدة الزمنية التي "عملوا" بها في وظائفهم يثبت أن الرياضيات تتحول، حسب التقرير، إلى رياضيات عراقية بامتياز لا تثير غير حزنٍ حقيقي في بلد صدّر، قبل ألف عام، اللوغارتيمات للآخرين واليوم يصدّر رياضيات حزينة تخالف التعريف الكلاسيكي الذي يؤكد حياديتها وتجريديتها. ورغم هذا، فإن الطبعة الجديدة من هذه الرياضيات تتطابق مع سقراط الذي أشار إلى فهم الرياضيات كضرورة للاستيعاب السليم للأخلاق.
في تقريرها المعنون بـ"أعضاء البرلمان العراقي يحصلون على رواتب عالية مقابل عمل قليل" أوضحت سورك بأن الأعضاء يحصلون على 22500 دولار أميركي كراتب شهري لكل عضو منذ اجتماعهم الأول تحت قبة البرلمان والذي دام 20 دقيقة في حزيران الماضي وحتى هذه اللحظة ولا يمكن نسيان أمر الإقامة في أفخم فنادق بغداد مع امتيازات أخرى كثيرة كما أفاد التقرير ذاته. الرياضيات العراقية تخبرنا بلا مواربة أن 36562500 دولار هو مجموع ما دفع من المال العام كرواتب لممثلي الشعب عبر معادلة حسابية بسيطة:
(22500 دولار) (X 325 عدد أعضاء البرلمان (X (5 أشهر)= 36562500 دولار
هذه المعادلة وحدها كافية لإشعال الكثير من الحرائق في الديمقراطيات الحقيقية وكافية لإسقاط حكومات واستقالة الكثير من المسؤولين بينما الأمر في العراق مختلف جداً ويمرٌ بهدوء استثنائي وربما سينتهي، دون ضجة، إلى رفوف النسيان أو أن الذاكرة الجمعية ستتركه، بالتقادم، كما فعلت مع سرقة مصرف الزوية أو الاختلاس الذي جرى في بناية أمانة بغداد ليستقبل ملفات أخرى مثل العيش ليوم آخر بلا مفخخات حتى لو وصل الأمر لشروط معيشية سيئة لا يحسدنا عليها غير مواطني الصومال الذين اعترفوا منذ أكثر من عقد بغياب الدولة وحضور الميليشا كرقم مؤثر في معادلات الموت والحياة.
لغة الأرقام التجريدية المحايدة توضح بدقة رواتب الأعضاء بلا لف ودوران حسب قانون العمل العراقي يوم العمل هو 8 ساعات مضروبة بخمسة أيام عمل في أربعة أسابيع لخمسة أشهر كان على الأعضاء العمل فيها لـ160 ساعة في الشهر و800 ساعة عمل كتحصيل نهائي وتقديم "إنجازات" ملموسة للمواطن الذي انتخبهم؛ أي تعاقد معهم على خدمة متوقعة مقابل الراتب الشهري المعين. لكن العمل الفعلي التي تم تحت قبة البرلمان استغرق فقط مدة الجلسة الأولى (20 دقيقة) التي تؤهل قانونياً مبلغاً من المال العراقي العام للعضو الواحد قدره 46.87 دولار أي 55546 دينارا عراقيا فقط لا غير، وما تبقى من الأموال المسلّمة لكل عضو والذي وصل إلى رقم112453 دولارا استمتع بها عضو البرلمان بلا جهد يذكر وبلا غطاء قانوني ويدخل في أمر سرقة المال العام. لأن "العقد شريعة المتعاقدين" ولأن ساسة اليوم صدّعوا رؤوسنا، عبر الميديا، بأنهم يحاولون تأسيس ممارسات سياسية وقانونية في العراق الجديد تختلف عن عهد الديكتاتورية البائد؛ ولأنهم أيضاً يشيرون بمناسبة وبدونها لدور القانون في البلد ولمؤسسات مثل "هيئة النزاهة"، أجد أن كل مواطن عراقي يهمه المال العام مخول بالاتصال بهيئة النزاهة للإبلاغ عن أمر رواتب الأعضاء خلال الأشهر الماضية كي تقوم الهيئة بترويج الإجراءات القانونية المناسبة لهذا الأمر وكل مواطن عراقي مؤهل أيضاً لرفع دعوة قضائية في أي محكمة عراقية تطالب الأعضاء بإرجاع المبالغ المذكورة لأنها تمت بلا غطاء قانوني وفي قانون العقوبات العراقي أكثر من مادة تحدد نوعية هذا الانتهاك القانوني والعقوبات المحتملة أيضاً.
ألم يلاحق القانون العراقي، هيئة النزاهة تحديداً، زينة سعود لاختلاسها اثني عشر مليارا وخمسمائة مليون دينار عراقي من أمانة بغداد؟ تقديم أعضاء البرلمان للقضاء العراقي واسترجاع الملايين منهم هو صوتنا الذي يجب أن يُسمع اليوم قبل فوات الأوان وقبل تحول القوانين والدستور من نصوص محايدة كما هو مفترض في الديمقراطيات المعروفة إلى نصوص يمكن إلغاؤها بـ"جرّة قلم" كما صرح الدكتاتور المقبور حين كان ماضياً في تأسيس وتأثيث مشهد الخراب الوطني الذي وصل اليوم إلى درجة الحاجة الحقيقية لسياسي جديد يجيد توظيف الرياضيات بكل فروعها لا من أجل منافسة أبراج دبي وشيكاغو بل من أجل إنارة شارع صغير من شوارع البصرة أو بناء مدرسة ثانوية في بعقوبة بمواصفات مدارس عمان.
* كاتب عراقي مقيم في الولايات المتحدة