«سوق الصفافير» .. يقترب من صافرة النهاية
لا أحد في العراق لا يعرف «سوق الصفافير» الذي يعد من أهم أسواق بغداد، بل «كان» يعد كذلك، ويضاهي في سمعته سوق الشورجة التجاري أو سوق السراي الثقافي، كون الأول متخصصاً بالأدوات المنزلية، وبالتراثيات النحاسية التي عرف بها العراق منذ أقدم الأزمان. والآن، إذ أتى الانترنت على بعض مكنونات سوق السراي ، وإذ انتشرت الأسواق الحديثة هنا وهناك تاركة بعض الأثر على شورجة بغداد، فان سوق الصفافير أخذ يتآكل لعدم استعمال النحاس في الأدوات المنزلية، ولتوقف سوق التراثيات مع توقف وفود السياح والزائرين، امتداداً من الحصار، وحتى الاحتلال والانفلات الأمني.
ومع ذلك، ما زال ثمة خليط غريب من الأصوات يمتزج في سمعك وأنت تدخل إلى «سوق الصفافير» من جهة شارع الرشيد. الأصوات تخفت ثم تزداد شدة. تستقر عيناك على محل حشرت فيه البضاعة حشراً. كان رنين طرقات «الصفار» على الإناء القديم الذي نقشت عليه آثار بابلية يزداد حدة مع انغماره في العمل. وعندما وصلنا إليه بدا منزعجاً من حال السوق الذي آل إليه، وهو يتساءل عما إذا كان هو الآخر سيبيع محله في السنة التالية إلى أحد تجار الأقمشة الذين غزوا «سوق الصفافير». ان مهنته التي ورثها عن آبائه تواجه الكثير من المصاعب ، ولكنه مازال يقاوم عوامل التغيير، ويهمس إلى نفسه: لابد ان يحدث شيء ما يغير هذه الأوضاع.. أم، «هل سيأتي دوري في بيع محل والدي»؟
بدأ رياض حسين الصفار (38 عاماً) خريج كلية العلوم حديثه قائلاً:
ـ ان مهنة الصفّار مهنة راقية ، ونحن نتميز بها ونتوارثها اباً عن جد. واخذ يشير الى بعض المحال: هنا كان محل عمي ومحل جدي غير بعيد عنه. جدّ والدتي كان له محل هنا. لقد رحلوا جميعا. بدا الوضع يزداد سوءا منذ التسعينات وإلى الآن.. وعلى الدولة ان تعرف ان «السياحة نهر من ذهب». لقد ذكر لي أحد الأصدقاء بعد ان زار خان الخليلي في مصر ان «محال الصفافير» هناك تباع بالسنتيمترات وليس بالأمتار، وان عملهم مربح، وكل محل يبيع بما لا يقل عن ألف دولار في اليوم. والمحال تعمل هناك حتى الصباح.
لو كان دعم الدولة لنا متوفراً، ولو تحرك النشاط السياحي، لتحسن وضعنا كثيراً. مازلنا ننتظر استقرار الأوضاع ونتمنى على الدولة ان تهتم بهذه السوق، التي أخذت تتقوض وأصبح عدد الحرفيين فيها على عدد الأصابع.
السوق تجعلك مختصاً في عمل ما. مضى علي 33 عاماً، وقد عملت هنا منذ كان عمري خمس سنوات. ان الوضع الحالي لا يشجع على الاستمرار في المهنة. عملت في وظيفة حكومية لأربع سنوات ثم تركتها. محلنا باسم الوالد منذ 1953 ونحن ثلاثة إخوة. أخي الأصغر نقاش. ترون هنا بضائع محشورة في محلنا، لأن البعض قد أخذ «المخزن» منا بعد ان زايدوا علينا بسعر مرتفع لأحد تجار الأقمشة، وهم يزحفون علينا لأن مصلحتنا «مضروبة»، وإمكانياتهم قوية. لقد أغروا الكثير منا بالمال، ولكننا ما زلنا نقاوم.
كان صوت الصفار منفرداً عن الأصوات البعيدة وهو يقول: « تحدد القطع وتضرب بـ (القلم والسمبة) فيكتمل الهيكل، ونضعها على قطعة من المطاط حتى لا تتأثر بالطرق. نأتي بالقوالب من صور نرسم عليها بقلم من الرصاص أو الجاف وبعد تشكيل الصورة نبدأ بتحديد الملامح.. مثل الآثار العراقية وأسد بابل وحمورابي والثور المجنح، ونأتي بالقالب ونعمله نحن حسب الحاجة. نأخذ النحاس وهو مقطع على شكل دوائر.. النحاس الذي نستخدمه إما مستورد أو نحصل عليه من مصنع الشهيد في مدينة الفلوجة على شكل بكرات ملفوفة ومختلفة الحجم حسب الحاجة المطلوب عملها.
وأشار إلى «صينية» قريبة، وقال: «نحدد أولاً الإطار ونستعمل فيه الأقلام ومطارق خاصة نسميها مطارق النقش وتكون عادة أصغر من مطارق الطرق. أما أقلام النقش فتعمل حسب المواصفات التي نطلبها من الحدادين. لقد أصبحت الكثير من الصناعات التي كنا نقوم بها كتحف للزينة فقط. ما ترونه الآن.. هذه سماورات الشاي عمرها مئة عام. أصبح الطلب على (الانتيكات) قليلاً.. فنحن نعتمد على السياحة أو الشركات أو السفارات، ولكن الوضع الأمني متدهور الآن. بل إننا نأتي بصعوبة إلى أماكن عملنا. نرجو من الدولة ان تلتفت إلى السوق.. فربما بعد عام لن نرى إلا سوق القماش. لقد بقي ممن يمارس مهنتنا نحو 12-13 محلاً وسوف ينخفض هذا العدد أكثر إذا لم تتغير الأوضاع».
وأضاف: في الماضي كان يعمل في كل محل ما لا يقل عن خمسة أشخاص. لأن العوائل العراقية اعتمدت على هذه السوق، فكانت العائلة تشتري جهاز العرس من هنا، كذلك أدوات المطبخ، وكلها مصنوعة من النحاس مثل الطست والصواني والمشربة التي تستعمل لجلب الماء من الشط ، وكذلك الإبريق والمقلاة وحتى الملاعق كانت تصنع من النحاس. وهنالك قدر الحمام أو ما يسمى بـ (البيضة) وكان يستعمل في الخمسينات، وتحول الناس عنه إلى الألمنيوم والنايلون والستيل والتيفال. كما ان النحاس يحتاج إلى تبييض بـ (القلاي) أو القصدير لكي لا يعطي مادة سامة وهذا العمل يكلف مالاً أكثر، لهذا بدأ الابتعاد عن القدور النحاسية شيئاً فشيئاً».
بائع التحفيات فاضل الحديدي (38 عاماً) قال متحدثا: «ان سيد مهدي مختص بصناعة الدلال أما الحاج إبراهيم فمختص بصناعة قدور الولائم. والزبائن يعرفون كلاً بصنعته.. تحفي معمولة بالنقش اليدوي. يشتري مني العراقيون ومن يسافر فيصطحب معه هدية أو من يضعها في بيته للتزيين. هذه الأيام السوق (تعبان) وأغلب الحرفيين هنا من دون عمل.
الحاج عبد الرسول الظاهري تاجر أقمشة، تحدث عن ذكرياته في السوق قائلاً:
هنا تباع النحاسيات والانتيكات، والصناع يعتمدون على السياح أو المسافرين الذين يحملون هدايا إلى أصدقائهم أو الزوار الذين يأتون إلى العراق لغرض السياحة أو من العرب. والأشياء المرغوبة هي المصباح السحري والدلة والجمل والعلب الصغيرة. ان مهنة الصفّار، أصبحت قديمة بسبب الوضع الاقتصادي المتعب في العراق الذي أضعف هذه الصناعة، وأنت إذا أردت ان تبيع النحاسيات فعليك الاعتماد على السياح، وإذا قلت حركة السياحة أو تقلص عدد موظفي الأمم المتحدة أو المسافرين أو القادمين فسوف يضعف عمل هذه المهنة. لقد لعبت الحروب والحصار دوراً سيئاً في تقليص عدد الحرفيين العاملين في هذه المهنة. لقد زرت أصفهان، وتأثرت كثيراً حينما سمعت حجم الطرق على النحاس هناك، قفز إلى ذهني بسرعة سوق الصفافير في بغداد وقلت في نفسي ان هذه هي السوق الحقيقية، لقد شجعتهم دولتهم في جميع المراحل وتعطيهم النحاس بسعر رمزي».
واصل الظاهري حديثه قائلاً: «شيء جميل ان تسمع هذه الترنيمات، فأحدهم معروف بدقته... طاخ طاخ أو ....طق طق وآخر يدق.... طم تك طم تك، فكل حرفي له دقته المعروفة. ان إحدى مشكلات سوق الصفافير هي غزو سوق الأقمشة لنا. ولكن لو كان لديك محل نحاسي ناجح ويأتيك تاجر أقمشة يريد شراءه منك فلماذا تبيعه؟ وإذا كان الصفار ليس لديه نحاس وهو يريد ان يعيش فانه يبيعه. بعض الصفارين تحولوا إلى بيع الأقمشة. وبعضهم انتقل إلى بيع التحفيات على الأجانب في الفنادق الراقية بشكل مباشر. كان والدي يملك محلاً هنا منذ 1937، وأنا أتذكر اليوم الذي جاءت فيه انديرا غاندي ورئيس باكستان ضياء الحق، أو الملك فهد الذي اشترى دلالاً غير موجودة عندهم، وشاهد (دلة سيد مهدي) واشتراها أيضاً.
في السوق لا تجد أية لافتة على المحال. لأن الصناع هنا معروفون بالأسماء. فمنهم أولاد حجي حسين يعملون بالنحاس أو القلاي، وأولاد حجي عمر، وهناك مختصون بصناعة دلال من الفضة، أو يصنعون فوانيس ضخمة للمنازل الراقية.
ذكرت السوق في أحد المصادر على انها درب نافذ يتصل بدروب غير نافذة. مدخله الرئيس من شارع الرشيد إلى سوق باب الأغا وتمتد على شكل قوس وتتقاطع نهايتها بسوق البزازين. جدد بناؤه على الطريقة البغدادية. أما في كتاب الدكتور عماد عبدالسلام «الأصول التاريخية لمحلات بغداد» ....فنقرأ «انها سوق تتصل بسوق باب الأغا الجديدة من جهة ودرب البزازين من جهة أخرى». وكانت في العصر العباسي الأخير محلة قائمة تسمى درب المسعودة أو المسعود، وقد أشير إلى هذا الاسم في عام 1762.
ونحن نغادر المكان، استمرت المطارق القليلة في الخارج ترسل أصواتاً مختلفة لتعبر عن هوية سوق الصفافير. أصوات تقاوم الزمن. ان من المخيف ان يأتي يوم لا نسمع فيه صدى هذه المطارق الجميلة التي تشكل معالم أشياء جميلة ونافعة، تعبر عن بغداد والعراق.