سوق الصفافير... تراثيات بغدادية تهجر سوقها


مَعلَمٌ أسسه التاريخ منذ العهد العباسي في أزقة ضيقة المساحة، كبيرة العطاء بصناعاتها التي أنشأت أبرز وأقدم الأسواق العراقية، "سوق الصفارين أو الصفافير"؛ كما يطلق عليه العراقيون. أخذ السوق تسميته نسبة لمادة الصفر (النحاس)، ففي هذا السوق ومنتجاته تتجسد حضارة العراق وتاريخه بمطارق أمهر الصفارين المحترفين، لتشكل مختلف اللوحات والأشكال النحاسية، والتي أصبحت اليوم تواجه خطر الانقراض.

النحاس أساس هذا السوق
يقول العاملون في سوق الصفافير من أصحاب المهنة، يشكل النحاس المادة الأساسية للصناعات التي يشتهر بها السوق، ويسمى أصحاب المهنة "الصفارين"، وينقسم عملهم بحسب مراحل الإنتاج، فمنهم النحات باستخدام المطرقة والمسمار، ومصمم الزخارف التي ستُنحت على صفائح النحاس، وآخرون يعملون على صقل المنتج بعد زخرفته وتلميعه، أو يلوّن بعض أجزائه لإضفاء لمسات فنية أكثر جمالية على الأواني، كما يمكن ترصيع تلك الأشكال بالأحجار الكريمة وشبه الكريمة، أو طلائها بمادة المينا. وهذه العملية تحتاج إلى خبراء لا يتواجدون إلا في هذا السوق، لأنها مهنة تتطلب الجهد والصبر، ونتائج العمل هي الإبداع الذي زيّن أغلب البيوت البغدادية، وانتقلت مع السواح إلى العالم أجمع في العقود المنصرمة.
وأضاف المهنيون في السوق "أنّ هذا السوق من تراثيات بغداد، وهو عبارة عن مجموعة من الشوارع والأزقة الضيقة الواقعة في منطقة الميدان، والقريبة من شارع الرشيد، وهي منطقة يمكن اعتبارها تراثية لقدمها وأهميتها. وهناك قانون وضعته الحكومة يقضي باعتبار أي بناء مضى عليه أكثر من مائة عام إرثاً تراثيًّا لا يمكن التصرف به، ويجب المحافظة على خصوصيته القديمة، وهذا ما عملت عليه دائرة التراث في بغداد، حين وضعت منطقة الميدان التي يقع فيها سوق الصفافير في مقدمة القائمة، ولكن الأمر تغير بعد عام 2003 ولم يعد سوق الصفافير كما كان في السابق، حيث بيعت المحال لتجار القماش وغيرهم."

عوامل انحسار السوق
يشرح وسام يونس، حرفي في سوق الصفافير، لـ"العربي الجديد"، الأسباب التي طرأت على السوق وغيرت ملامحه العتيقة، والذي يحاول جاهدا الإبقاء على نكهته التراثية ومقاومة عوامل الاندثار المحيطة به، ومن أهم تلك الأسباب، كما يقول يونس، "الإهمال الحكومي وقلة الدعم وانعدامه". ويضيف:" كانت مطارقنا أشبه بنوتة موسيقية وصلت من خلالها بضاعتنا إلى العالم أجمع، حين كان هنالك سياح أجانب يشترون ما تصنعه أنامل الصفارين."
ويتابع يونس قائلاً إنه:" يوما بعد آخر نشهد تضاؤل وانحسار المحال، التي تعنى بصناعة النحاس في سوق الصفافير، فالصفارون اليوم يُعدون على أصابع اليد، حيث استبدل الكثيرون منهم مهنتهم، وعرض آخرون محال عملهم للبيع أو الإيجار، بعد ما كانوا يتفاخرون بها وبسوقهم الذي يرونه أهم أسواق بغداد ولا مثيل له". ويضيف:"أنّ الحروب المستمرة التي خاضها العراق أثرت سلبا على جميع المهن، وعلى تراثيات هذا البلد، ومنها سوق الصفافير، مما أدى إلى هجرة الحرفيين وتركهم عملهم نتيجة التهديد والقتل وانعدام الأمن"، إضافة إلى أنّ "المهنة لم تعد مربحة ولا يوجد من يطلب البضاعة إلا ما ندر"، حيث أصبحت هناك ضروريات في الحياة من الأهم الى المهم، ويرى البعض أنه ليس من المهم اقتناء لوحة أو قطعة نحاسية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرون بها.
ويؤكد يونس على أنّ "عدم نقل المهارة أو توريثها إلى الأجيال، كما كان عليه الأمر في السابق، يؤدي إلى انقراضها وهلاك مهنة الصفارين وسوقهِم". ويشير الى أنّ المهنة لم تسلم من الغش، خاصة مع دخول بعض من أسماهم بالدخلاء، الّذين لا يهمهم غير الربح السريع مهما كانت رداءة المنتج، كما أنهم يعملون بالمستورد الصيني، والذي يكون أقل ثمنا من المنتج المحلي المصنع يدوياً، ويبيّن أنّ لغياب الرقابة دوراً بارزاً في تراجع المهنة، لأن سوق الصفافير يحتاج إلى الكثير من الدقة والصبر والتأني والذوق، وهذه من مميزات السوق: وجود الحرفيين بهذه المواصفات والذين ورثوا المهنة أبًا عن جد، وتوارثوا أيضًا البراعة في الطَّرْقِ على النحاس، وهذا ما لا تحتاجه الأسواق الأخرى التي تشهد بين فترة وأخرى ظهور باعة جدد ليسوا بحاجة إلى الخيال والابتكار والدقة.
أما عن أسعار المصنوعات، فيقول يونس إنه لا يوجد هناك سعر محدد. سابقا كانت الدولة تدعم الصفارين بمادة النحاس الخام، أما اليوم فكل يشتري بضاعته بنفسه، فكل قطعة يحسب سعرها بحسب صعوبة عملها ودقتها وكمية النحاس وجودته، فتبدأ الأسعار من 10 دولارات للقطعة، وقد تصل إلى 300 دولار وأكثر.

المبتاعون في سوق الصفافير
شاكر الرصافي، (55 عاما)، من رواد السوق يقول لـ"العربي الجديد": يعتبر سوق الصفافير معلماً سياحياً لِقِدَمِهِ ومكانته في تاريخ بغداد، خاصة موقعه الحيوي في ساحة الميدان، وهذا ما دفع بعض الصفارين من الحرفيين إلى عدم تخليهم عن مهنتهم، لأن هناك زبائن حريصين على اقتناء التراثيات والتحف المصنوعة يدوياً، والتي تمثل جانباً من المصنوعات الشعبية العراقية، وهذه المنتجات من لوحات وأشكال مختلفة تعتبر أفضل هدية نحاسية يمكن تقديمها لأشخاص يثمّنون هذه المصنوعات، خصوصاً من الأجانب، لتعريفهم بالتراثيات البغدادية العراقية، التي تجسدها مجسمات ولوحات صنعت بمهارة وإتقان.
ويتابع الرصافي: "رغم تغير شكل السوق عما كان عليه في السابق، إلا أنني أحرص كل الحرص على زيارتي له بين الحين والآخر، لأشتري بعض اللوحات والتحفيات، إذ إن هذا السوق، أو بالأحرى المحال المتبقية فيه، هو بقايا الزمن الجميل ويحزنني كثيرا تغيير المحال فيه من صفارين وبيع النحاسيات إلى مهن أخرى، تختلف تماما عن مهنة السوق الحقيقية.
مثل الرصافي، مروة، (36 عاما)، هي من رواد السوق لكنها اليوم جاءت مع المسافرين، الذين يقتنون هذه النحاسيات قبل سفرهم وهجرتهم من العراق، وتعتبر مروة النحاسيات من التراثيات لأن أغلبها منقوش عليها الأسد المجنح وبوابة عشتار وبابل وغيرها من الحضارة العراقية، لذا أشتريها لأن هذه التحفيات وحدها تذكرنا بالعراق بعد أن نهاجر.