معنى أن يستبدل الله (عزّ وجل) قوماً بقوم آخرين!
النصر الإلهي
المادّة الأصلية لمفهوم "الاستبدال" هي الحروف الثلاثة الآتية: الباء والدال واللام. وهي تعني في اللغة ترجيح شيء على شيء آخر. وقد ورد هذا المفهوم في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم، ومنها ما ورد في سياق الحديث عن بني إسرائيل في قوله تعالى: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾[1]. ومعنى هذه الآية كما هو واضحٌ أتتّخذون الذي هو أدنى وأقلّ قيمةً بديلًا عن الذي هو خيرٌ وأحسن قيمة. وهذا المعنى لمادّة بدل هو حاصل ما يتبنّاه أهل اللغة وعلماء التفسير، يقول المصطفوي: "أنّ الأصل في المادّة هو وقوع شيءٍ مقام غيره"[2]. وقد يوحي هذا التفسير بعدم الفرق بين الاستبدال والتداول، ولكن يكشف التدقيق في الكلمتين عن شيء من الفرق بينهما يتبيّن بعد البحث عن فلسفة الاستبدال.
فلسفة الاستبدال الإلهيّ
تستند فكرة الاستبدال إلى أنّ الإنسان خُلِق على هذه الأرض بإرادة الله سبحانه، ولمّا كان الله منزّهًا عن العبث واللغو: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾[3]، و﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾[4]. وإذا كان الأمر على هذا النحو فمن البديهيّ السؤال عن السبب وعن الحكمة التي اقتضت أن يخلق الله الإنسان على الأرض، بل أن يخلق له الأرض وغيرها من المخلوقات كما تفيده الآيات الدالّة على تسخير كثيرٍ من الأشياء للإنسان: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾[5].
وبالرجوع إلى كتاب الله عزّ وجلّ نجد أنّه يبيّن لنا الهدف من خلق الإنسان على الأرض بعبارات عدّة لا ندّعي أنّها تدلّ على معنًى واحدٍ بالضرورة ولكنّها على أيّ حال تفيد أنّ ثمّة هدفًا يريد الله تحقيقه على يد الإنسان، فمرّة يعبّر عن هذا الهدف باسم الخلافة والاستخلاف، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[6].
وأخرى يعبّر عنه بالعبادة كما في قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[7].
وثالثةً يعبّر عن هذا المعنى بقوله: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾[8].
وهذه الآية وغيرها ممّا يمكن العثور عليه بمزيد من البحث تفيد أنّ لله من وراء خلق الإنسان غرضًا وغايةً. وقد أرسل الله رسله تترى إلى البشريّة ليحفظوا مسيرة الإنسانيّة على هذا الخطّ الإلهيّ وكتب على نفسه أن ينصر رسله وأن يحقّق الأهداف التي أرسلهم من أجلها، كما كتب على نفسه أن يحقّق الأهداف التي من أجلها خلق الإنسان نفسه. فإذا أبى جيلٌ من الأجيال أو قرنٌ من القرون بحسب التعبير القرآنيّ عن تحقيق الأهداف التي يريد الله تحقيقها على يديه، جرت عليه سنّة الاستبدال وأحلّ قومًا آخرين محلّ القوم الذين فشلوا في تحقيق ما يراد منهم تحقيقه. وهذا هو الاستبدال أي هو نقل راية الله من يدٍ إلى يدٍ، وقد حصل هذا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّات عدّة في معاركه. ومن أشهر هذه المرّات إعطاؤه الراية إلى أمير المؤمنين يوم خيبر بعد فشل عدد من أصحابه في فتح الحصن.
[1] سورة البقرة، الآية 61.
[2] التحقيق في كلمات القرآن، ج 1، ص 251.
[3] سورة الأنعام، الآية 73.
[4] سورة الأنبياء، الآية 16.
[5] سورة لقمان، الآية 20.
[6] سورة البقرة، الآية 30.
[7] سورة الذاريات، الآية 56.
[8] سورة هود، الآية 61.