"الفقراء والشياطين".. هكذا رافق مارادونا أبناء نابولي إلى الجنّة
علاقة يصعب تفسيرها تجمع بين دييغو أرماندو مارادونا ومدينة نابولي وسكانها، هي علاقة يصعب اختصارها ببضع كلمات. فكيف يمكن تفسيرها؟
نعم، لم يعد الأمر مجرّد حلم يلاحق الصغار والكبار، لأن مدينة نابولي عادت إلى قمة إيطاليا من بوابة كرة القدم، التي لطالما كانت مرآة للمجتمع وثقافته. الخميس 4 أيار/مايو 2023، أصبح "نابولي" بطلاً للدوري الإيطالي، وفرد "قديس المدينة" الراحل دييغو أرماندو مارادونا جناحيه في السماء فوق مدينة الجنوب الإيطالي، ليملأها سعادة.
المشاهد التي خرجت من مدينة نابولي تشي بأن الأمر أبعد بكثير من مجرد انتصار في عالم كرة القدم، وتحقيق لقب "السيري آ"، تلك الصور والفيديوهات التي شاهدها العالم، يصعب وصفها بسهولة.
لكن أغنية "Una Notte a Napoli" التي تغنيها الفرقة الأميركية "Pink Martini"، قد تصف بعضاً مما كان يحدث هناك، إذ تقول كلمات مقطع من الأغنية : "في إحدى الليالي في نابولي، مع القمر والبحر، قابلت ملاكاً، لم يعد بإمكانه الطيران، في إحدى الليالي في نابولي، نسي النجوم، ومن دون جناحين، أخذني إلى الجنة"، وبالنسبة إلى أهالي نابولي فإن هذا الملاك هو دييغو مارادونا، الذي على الرغم من وفاته في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ما زال حاضراً معهم دائماً.
العلاقة بين مارادونا وأهالي نابولي
عندما نتحدث عن العلاقة بين دييغو مارادونا وسكان مدينة نابولي، نقف في حيرة أمام وصفها. مارادونا الذي لعب هناك بين عامي 1984 و1991، ما زال يلعب معهم حتى اليوم، إذ كتبت صحيفة "إل ماتينو" الصادرة في المدينة الجنوبية "نابولي تُغني... في ظل الملك دييغو"، بعد حصد نابولي للقب الدوري الإيطالي رسمياً الخميس.
أثناء الاحتفالات، سأل أحد الصحافيين طفلًا يرتدي قناعاً مثل الذي يرتديه لاعب الفريق وهدافه النيجيري فيكتور أوسيمين الذي سجل هدف التعادل أمام أودينيزي مانحاً نابولي اللقب؛ الصحافي يقول للطفل: "يبدو أن لاعبك المفضل هو أوسيمين"، لكن رد الطفل الذي لم يشاهد دييغو: "لا، مارادونا".
دييغو أرماندو مارادونا ليس مجرد لاعب كرة قدم عابر في مدينة نابولي، بل هو جزء من المدينة، وروحها وقلبها ومعشوقها، يتذكرونه كل يوم، في الصباح والمساء، ومع كل إنجاز، عندما انتقل دييغو إلى فريق الجنوب الإيطالي ذهبت الجماهير إلى المقابر لتوقظ الموتى، رافعين كلمات مثل "استيقظوا انظروا من جاء إلينا". كل هذا يدفعنا إلى التساؤل؛ لماذا؟
مارادونا ونابولي وجهان لعملة واحدة
كان دييغو مارادونا غاضباً، متمرداً، ثائراً وواضحاً، كان بسيطاً ومتواضعاً يحب الحياة والفرح، يخطئ ويعترف، يعيش الحياة بكل جمالها وموبقاتها. دييغو ولد في حي "فيا فيوريتو" في الأرجنتين، وهو حي فقير، كان سكانه يعانون من أجل الطعام والعيش والماء النظيف.
ظهر مارادونا بكل أخلاقه السيئة والجميلة. ظهر بصراخه ومعنوياته العالية. قاتل، شتم، ابتسم، اعترض، وهتف كما الجماهير في المدرجات. وخرج بثيابه المتسخة. رقص في الشارع، في البيت، وفي غرف الملابس، لذلك حورب في إيطاليا، كما حورب أهالي نابولي، لا يمكن أن تكون بسيطاً وبطلاً، فالبطولة لمن يسمّون أنفسهم "النبلاء".
يقول دييغو مارادونا: "كرة القدم كانت أفضل ألعابي، لم تعجبني ألعاب الأطفال الأخرى. كانت خلاصي". وبالفعل، كرة القدم كانت خلاص دييغو وعائلته من الفقر المدقع. كما كانت كرة القدم خلاص سكان نابولي.
من هنا، يمكن أن ننطلق في محاولة تفسير العلاقة الوطيدة بين مارادونا وسكان نابولي، لقد كان دييغو رسالتهم، كان واحداً منهم، فقيراً يبحث عن السعادة بكل بساطة، مستضعفاً خرج من الوحل إلى القمة، فكان خلاصهم وسعادتهم.
سكان نابولي عاشوا الكثير من الاضطهاد تاريخياً، همشوا وكانت هناك محاولات دائمة لشيطنتهم من داخل إيطاليا وخارجها، كانوا وما زالوا ثائرين وغاضبين باحثين عن ما سلب منهم.
في العام 2017، كتبت صحيفة "ذا صن" أن نابولي مدينة خطيرة جنباً إلى جنب مع الرقة ومقديشو، استفاق الإيطاليون ووجدوا مدينتهم نابولي على قائمة المدن الأكثر خطورة في العالم.
أثار هذا التصنيف موجة غضب عارمة في إيطاليا، خصوصاً، ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، وإنما لجأت السفارة الإيطالية لدى لندن إلى حسابها في موقع "تويتر" لتعبّر عن غضبها، متهمة الصحيفة بتبديل الواقع بالخيال.
وذكرت السفارة أن نابولي غير مُدرجة في أي قوائم عالمية لأخطر المدن، ولم يعدها أحد أبداً حتى من المدن الخمسين الأولى من حيث مستوى الخطورة على حياة المواطنين فيها.
بدوره، عدّ عمدة نابولي حينها، لويجي دي ماغيستريس، مقال الصحيفة مثيراً للضحك، ويعتمد على تقييم مختلق وكاذب من شخص ما، "من الواضح أنه لم يقض يوماً واحداً من حياته في نابولي".
نابولي من الجنوب في وجه الشمال
تحقيق لقب الدوري الإيطالي هو انتصار أبعد من "المستطيل الأخضر"، إذ إن فوز نابولي بلقب "السيري آ"، يعني فوز الجنوب الفقير والمسروق منذ عشرات السنوات، على الشمال. لقد تفوّق الفقراء على أبناء الشمال.
سنسافر إلى جنوب إيطاليا حيث مدينة نابولي، عاصمة "إقليم كامبانيا"، وواحدة من أقدم المدن في إيطاليا، مر عليها الكثير من الحكام والجيوش والصراعات، وهو ما منحها ثقافة وتاريخاً، وجعلها محط عيون العاشقين للسياحة.
تميّز مدينة نابولي الجنوبية لم يلق ترحيباً من أبناء الشمال ومن الأوروبيين الذين طمعوا بها، فكانت الحرب معها على طول سنوات، فبات هناك صراع طبقي مع "إقليم بييمونتي" وعاصمته تورينو، مدينة نادي يوفنتوس.
هو صراع امتد إلى أكثر من 150 عاماً، تمثل في صراع سياسي وعنصري، ليُصبح جزءاً من عداوة في كُرة القدم.
نابولي كانت المدينة الأقوى اقتصادياً في إيطاليا ومن الأقوى أوروبياً، في وقت كان أبناء الشمال يعانون مشكلات اقتصادية. بعد مرور عدة سنوات، قرر الشمال الاتفاق والانضمام إلى دول أوروبية، بالتنسيق مع بريطانيا وفرنسا لشن حربٍ على الجنوب.
قاوم أبناء الجنوب وقدموا تضحيات، لكن الوضع تغير، فأصبح سكانه يسمون بـ "فقراء الجنوب" وأصبحت مدينة تورينو مُنتعشة على المستويات كافة.
اتحدت إيطاليا فيما بعد، لكن العداوة لم تتوقف بين الشمال والجنوب، بين أبناء نابولي وأبناء تورينو، لتُصبح كُرة القدم جزءاً من هذا الصراع.
في المباريات رفع أنصار نابولي لافتات تحمل عبارات مثل "أنتَ إيطالي؟ لا، أنتَ نابوليتاني". وأخرى "نحن عاصمة الفخر وأنتم عاصمة الصعوبات" إضافة إلى "أيها البييمونتي - نصف الفرنسي - كنت غارقاً في الديون والنفقات وأصبحت رجلاً صاحب سيادة عبر سرقة أموال نابولي".
هذا ما جعل مدينة نابولي تظهر صخباً بعد تحقيق اللقب، هو نوع من الكتمان والبحث عن الفرح، المجتمع هناك يحب الحياة والفرح لكنه حوصر ليصبح فقيراً وسلب منه الكثير مع السنوات.
نابولي مدينة الفقراء، غنية بأهلها المحبين للحياة، وبحضور اسم دييغو في كل شارع من شوارعها، حتى تجسدت نابولي في مارادونا، ووجد دييغو روحه هناك، فكان مرآة لمجتمع أبناء الجنوب الإيطالي.