الفنانة التشكيلية باولا أنزيكا: قبل الحياكة اليدوية أبحث وأتعمق في النصوص والصور


تولّدت الرغبة في الاكتشاف، عند الفنانة التشكيلية الإيطالية باولا أنزيكا، متخصصة في حياكة النسيج في سن مبكرة؛ حيث تشكّل الحرف اليدوية حيّزاً من تراث عائلتها، التي تمتهن كافة الأعمال التي يمكن تنفيذها باليد: بدءاً من الأعمال الحرفية وطهي المعجنات، وصولاً إلى تصليح السيارات القديمة. تتذكر باولا تفاعلها مع الطبيعة وسعيها الدائم إلى خلق تواصلٍ حسّي ملموس معها. فعندما كانت طفلة، اعتادت على صنع ألعابها الخاصة، وحفر الثقوب في تراب الحديقة، والجري في أحضان الغابات والريف. كما أحبت البحر وجذبتها الأمواج إلى أغوارها واجتاحت كيانها. تشارك الفنانة باولا «سيدتي» الحديث عن أعمالها، وطريقة إبداعها.

الفنانة التشكيلية باولا أنزيكا
ضمن برنامج الفنان المقيم في «تشكيل»، شاركت باولا، بإبداعات لوحات رمزية تنطق بلا كلمات، تتواصل معها من خلال حركات يدوية متكرّرة تتمخّض عنها اختلافات لا نهاية لها، تقول باولا: «يصبح ذهني فارغاً، وأكرر حركاتي اليدوية بشكلٍ تلقائي. هناك تكرار أساسي في كلّ خطوة من خطوات عملي، لذلك أميل إليه لتوليد الاختلاف... فالأيدي تقوم بجمع المعلومات من خلال عملية تلاعب مستمرة، وكلما اعتدت على هذه الإيماءات، تحقّقت النتائج بطريقة أسهل. لذلك، أجد نفسي أمام حلقة تغذية مرتدة – تتمثّل في عملية الاكتشاف والتفكير باستخدام اليدين».
الأليافُ النادرةُ

الاهتمام بالجوانب الإيمائية للحياكة
دائماً ما تكون أفكار باولا أسرع من إنتاجها، وعندما تبدأ بمشروع، تراه يكتمل في أبهى حلّته في رأسها؛ ما يؤجج في نفسها الحماسة، وبعد اكتماله، يتوصل المشاهد إلى إدراك أعمق لأهمية العمل وطريقة مبدعته في ابتكاره، تتابع قائلة: «عملت ببرنامج الفنان المقيم لـلورو بيانا في «تشكيل»، فالعلامة كانت تبحث عن فنان يشاركها التقدير نفسه لعالم الألياف الطبيعية النادرة، وتربطه علاقة حقيقية ووثيقة بالطبيعة، وتشكّلت بيننا صلة فورية، من خلال العمل في بيئة الإمارات متعددة الثقافات، فتعرّفت إلى التلي والسدو والسفيفة.. تقاليد الحياكة هذه تشكّل أجزاء من أزياء الرجال والنساء. وهي تستخدم خيوطاً رفيعة جداً، وتُعدّ عملاً شاقاً يتطلّب قدراً كبيراً من الجهد الجسدي. وعندنا في إيطاليا تحتضن جمعيات صغيرة تقنيات الحياكة التقليدية، ولكن للأسف، يتمّ تجاهلها وغضّ الطرف عنها بسبب نقص الدعم».

ثروة من المعلومات

لوحة الألوان المختلفة التي تتولّد من رمال الصحراء
سعت باولا إلى فهم الفروق الدقيقة في الممارسات الحِرَفية التقليدية في دولة الإمارات العربية، وزارت الأماكن الحرفية في كل إمارة، وابتكرت أعمالاً جديدة استوحتها من المناظر والأصوات والروائح والمهارات، تضيف قائلة: «زرت المواقع الأثرية في العين وضواحي دبي، إضافة إلى برنامج »بدوة» للتنمية الاجتماعية، وهو مركز يحمي الممارسات الثقافية المادية القديمة بإدارة «إرثي»، وهو مجلس الحرف اليدوية المعاصرة. فجمعت ثروة من المعلومات التي تكمن في طياتها، بدءاً من الشعاب المرجانية المستخدمة تقليدياً كطوب في مباني قرية الحمرا، في رأس الخيمة، إلى لوحة الألوان المختلفة التي تتولّد من رمال الصحراء، في قلعة الجاهلي في العين، وحديقة الجيولوجيا بالبحيس في الشارقة، إضافة إلى «قشور» الرمل والملح التي تتناثر على سطح السبخات المالحة في الوثبة في أبوظبي».

خلال برنامج الفنان المقيم لـ لورو بيانا في «تشكيل»، تواصلت باولا مع عالم الآثار ساندرو كارانتسانو، المتخصّص في علم التاريخ اليوناني والروماني، وقاد جولات تنقيبية إلى إيران وأجزاء من بلاد الشام وشمال أفريقيا. وعلى الرغم من أن خبرته لم تمتدّ إلى منطقة الخليج العربي، لكنه تبادل معها الأفكار حول هذا المشروع، استنادًا إلى جيولوجية المنطقة، تضيف: «استعنت كذلك بكتب عالم الآثار الإيطالي بييترو لوريانو، الذي قدّم شرحاً قيماً للواحات ونظام الأفلاج في الري، وفهمت من خلالها أسرار عالم الصناعات والتقاليد المحلية، فضلاً عن أهمية هذه الأرض بما هي مفترق طرق تجاري يربط الهند وآسيا بالشرق الأوسط وأوروبا».

كتب عالم الآثار الإيطالي بييترو لوريانو، أفادتني بتقديم شرح قيم للواحات ونظام الأفلاج في الري
أماكن الملاذ الروحي
تتمتّع أعمال باولا بجودةٍ عالية وقدرةٍ كبيرة على إيقاظ حاسة اللمس، واستثارة المشاعر الهادئة؛ ما يُبرز دور الأدوات الطبيعية والذكريات التي تستخدمها، تتابع قائلة: «إثر زيارة قمت بها لأحد المساجد في أذربيجان في عام 2015، هناك أدركت قوة الفراغ، وتحديداً بأنّه يمكن لمساحة الفكر أن تخلو أيضاً من كلّ شيء. من الناحية الثقافية، لدينا فكرة مختلفة عن أماكن الملاذ الروحي. ولكن، في أرجاء هذا الفضاء، سيتبدّى لك اختلاف عميق لا يمكن إنكاره، إن ما يحدث في الخارج هو العالم؛ أما داخل المسجد، فيسود صمت وسكون وفراغ؛ حيث يطغى المكوّن الإدراكي دوماً على كلّ شيء ويتبوأ مركز الصدارة».

ثقافةٌ متشابكةٌ

تحوّل الأفعال وردود الفعل إلى سلسلة من الموجات والحركات
مزجت باولا التوابل مع الخيوط التي حاكتها، وخرجت بمشروع أسمته «قضية متشابكة»، وهو جزءٌ فنيٌّ من عملية التفكير والتحقيق في الثقافة، التي تصفها بـ «الخفية» التي تحيط بدبي وتمتدّ إلى خارجها. ومن خلال حياكة التوابل والملح في ألياف قطع علامة لورو بيانا، أرادت أن تشيد بالعلاقات القديمة وطرق التجارة التي لطالما تقاسمتها الإمارات مع البلدان المجاورة لها، تعلّق قائلة: «هي ثقافة متشابكة تشكّلت عند مفترق الطرق بين الشرق والجنوب وآسيا، فالشمس متوهّجة تزخر بالطاقة والحرارة اللتين أقوم باستخدامهما لتثبيت ألوان التوابل على الألياف. وهكذا تشكّل الشمس الحارقة عنصراً مهماً في عملي؛ نظراً إلى وظيفتها بوصفها «عامل تثبيت»؛ حيث تؤدي دوراً نشطاً في جمع التوابل مع الأقمشة، ومع الملح أيضاً.

استعنت بشمس الإمارات المتوهجة لتثبيت ألوان التوابل على الألياف
بين المتفرّج والمؤدي
تشكّل أعمال باولا الرابطة بين الجسد والعمل، وغالباً ما تختار وضع المُشاهد بالقرب من القطعة كي تتكوّن في ذاكرته تجربة لا تنسى؛ حيث تمكّنه من المرور والتسلّق عليها، والاستناد إليها، ولمسها. تضيف قائلة: «في وقت سابق من مسيرتي المهنية، كنت أحرص بشكل خاص على اجتذاب المشاهد، وحصره داخل أطر تطمس التمييز المعتاد بين المتفرّج والمؤدي؛ للتوصّل إلى فهم العمل. ولكن مع ازدياد عدد المشاركين وبشكل تدريجي، تحوّلت الأفعال وردود الفعل إلى سلسلة من الموجات والحركات؛ ما ولّد إحساساً بالانخراط الجسدي الذي سيبقى محفوراً في أذهان كلّ من شارك في هذه التجربة».

بعد البحث في البيئة الإماراتية، أنتجت باولا مجموعة من الأعمال، وقد أرشدتها، كما تقول، كل مادة إلى طريقة العمل، فيما كانت الرؤية بيدها، واستطاعت أن تحول كلّ مشروع إلى تحفة منحوتة تمّ ابتكارها من خلال مجموعة من التجارب باستخدام تقنيات حياكة وحبكات مختلفة. تختم كلامها موضحة: «يتضمّن التحضير للممارسة اليدوية البحث في النصوص والصور التي باتت، مع مرور الوقت، بمنزلة أرشيف شخصي حقيقي؛ حيث ينبع الاهتمام بالجوانب الإيمائية للحياكة والنسيج من فكرة إعادة إنتاج الحركات التي تتطوّر من وقت إلى آخر عبر إدراك حركة اليدين، وترافق المواد التي يتمّ اختيارها تبعاً لخصائصها الفيزيائية، كما أشار المنسّق والكاتب الأمريكي غلين آدامسون: «دائماً ما تشكّل البراعة اليدوية طريقة عمل ونهجاً عملياً لا يتم التعبير عنه فقط من خلال الكائنات الثابتة (الأعمال)، ولكن أيضاً على مستوى فكري مفاهيمي واسع النطاق وأكثر عمقاً».