TODAY - November 24, 2010
يضم 130 عملا في متحف تيسين بمدريد
روض الانطباعيين العاطر بالألوان والضوء
أفتتح قبل أيام معرض "حدائق الانطباعيين" في متحف "تيسين" وسيستمر حتى 13 فبراير 2011، ويضم ما يقارب 130 لوحة لكبار رسامي حركة الانطباعيين، مع اضافات رمزية لمن مهد لهم ومن جاء بعدهم.
مدريد
من حسن حظ عاصمة أسبانيا (مدريد) أن أهم متاحفها الفنية قريب بعضها من الآخر، وكلها تحلق في محيط متحف "البرادو" الذي يعتبر واحدا من أهم المتاحف في العالم، فعلى يساره يوجد متحف "الملكة صوفيا" الذي يعنى بالفن الحديث في مجموعته الدائمة، ومعارضه الدورية، وخلفه بناية قاعة “بوين ريتيرو” الذي أحتضن لوحة بيكاسو “غيرنيكا” أولا بعد عودتها من نيويورك في بداية الثمانينات بعد مفاوضات صعبة مع متحف الفن الحديث لهذه المدينة، التي كان عليها تنفيذ وصية الفنان العظيم، وهي يجب ان لا تعود اللوحة الى اسبانيا الا بعد ترسيخ الديموقراطية فيها. وعلى يمين المتحف العريق، أسس قبل سنوات متحف “تيسين” الخاص من قبل البارون الالماني “فون تيسين” مليونير المصاعد والسلالم الكهربائية، ابن وحفيد أهم العوائل الاوربية التي تملك أكبر مجموعة من الاعمال الفنية الحديثة على مدى القرن الماضي، ويحتوي مئات اللوحات الكلاسيكية والحديثة النادرة، وباستمرار يقيم معارضا دورية مهمة جدا، والان يخوض مغامرة رائعة في عرضه الاخير، حيث يقيم معرضا شاملا لـ"حدائق الانطباعين" بدءا من 12 نوفمبر الى 13 فبراير2011، ويضم أولا، أبرز لوحات الانطباعيين مع إضافات رمزية لمن سبقهم، ومن جاء بعدهم.
المعرض هو تواصل لفكرة جريئة بدأها “الناشنال غاليري” في “أدنبره” الصيف الماضي، وتكمن في عرض لوحات الحدائق والغابات والريف بين منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ويمثل جهدا رائعا من قبل منظمي المعرض “الاسكتلندي” أولا وثانيا من قبل مسئولي متحف
“تيسين” الذي يحتفظ بأكثر من 20 لوحة لابرز الانطباعيين، والجميل هو العرض بتسلسل تأريخي، فالمعرض يبدأ بلوحات ما يسمى ما “قبل الانطباعيين” مثل “كوروت” 1796-1875 الذي اول من مهد للانطباعيين في لوحاته مثل “منظر فلورنسا من حدائق بوبولي” و”منظر التيفولي” بألوان فضية رائعة، و”ميليت” 1814-1875 الذي كان موضوعه الرئيسي في معظم أعماله، هو المنظر الطبيعي والفلاحين وأشهر لوحاته هي “ملتقطات فضلات الحصاد” و”المزارع” وهناك لوحات الرسام الخالد “ديلاكروا” 1798-1863 الذي كان محسوبا على “المدرسة الرومانتيكية” هؤلاء وضعوا في المعرض لتقديم أول بدايات “الانطباعية” التي ستزدهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الى بداية القرن العشرين.
وهذه الفكرة في تقديم المعرض الذي يحتوي 130 لوحة كانت رائعة لتضع المشاهد أمام تطور الحركة منذ لحظاتها الاولى، الى حد انصراف اكبر قادتها “بول سيزان” 1839-1906 ليضع أسس “التكعيبية” التي رسخها كمدرسة “بابلو بيكاسو” و”براك” بعد وفاة هذا. ولوحاته في هذا المعرض تنتمي للمرحلة الاولى، حيث تخصص في رسم المناظر الريفية.
قبل ان أدخل في تفاصيل المعرض، أود الاشارة الى ما كتبه “أرنيست فيشر” في كتابه المشهور “ضرورة الفن” الذي ترجمه “أسعد حليم” في 1971، ويبدأ هكذا “الشعر ضرورة... و آه لو أعرف لماذا؟ بهذه العبارة الرقيقة عبر “جان كوكتو” عن ضرورة الفن، وعبر في الوقت نفسه عن الحيرة إزاء دور الفن في العالم البرجوازي المعاصر وفي تحليله للحركة الانطباعية يقول فيشر “ومع ذالك، كانت الانطباعية ايضا ظاهرة ذات طابع مزدوج، وكان “سيزان” الذي لا يقل ذكاؤه عن موهبته، والذي سار بهذه الحركة الجديدة الى ذروتها، وفي الوقت نفسه الى نهايتها، كان على وعي بهذا التناقض الداخلي، فهو يقول عن الاساتذة القدامى، أنهم قادرون على تأمل التفاصيل، وكافة، وكافة أجزاء الصورة تبقى دائما حاضرة معك، لا لغيب عنك، كأنما يدور النغم كله في رأسك، بغض النظر عن التفصيل المحدد الذي تدرسه، انك لاتستطيع أن تنتزع شيئا من هذا الكل... فهم لم يكونوا يشتغلون بأسلوب الترقيع كما نفعل “وعندما تطلع سيزان في لوحة “ديلاكروا” المسماة “نساء الجزائر” صاح، اننا جميعا موجودون في هذا الرجل، كل شئ مترابط، مشغول من زاوية اللوحة كلها”.
يبدأ المعرض بأعمال الانطباعيين في لوحاتهم التي ركزت على “الطبيعة الميتة” والمناظر الداخلية في البيوت، مثل المزهريات، وأطباق الفوكه، ليتقدم الى رسم الحدائق العامة، والبساتين، ثم لوحات الريف بفلاحيه و مزارعيه، في انفجار لوني رائع، حيث الطبيعة التي كانت تمثل الرمز الاساسي لموضوعهم، وزيارة المعرض الكبير هذا، بتسلسله التأريخي يترك المشاهد بدون شك أكتشاف أن “التجريدية” في الواقع خرجت من جعبة الانطباعيين و “الباليتات” التي أستخدموها، والشاهد على ذالك هو تطور أسلوب “سيزان” شيئا فشيئا، لينتهي الى وضع أسس “التكعيبية” التي بدورها فتحت الطريق واسعا أمام التجريدية وما ظهر بعدها من حركات مثل “الدادائية” و“السوريالية “و”التعبيرية” وبالتالي فالانطباعيون، قلبوا المشهد الفني والثقافي، وحتى الاجتماعي، رأسا على عقب. فطريقة رسمهم، وأساليبهم كانت تلقائية وسريعة الخلط اللوني، وارتجالية مما جعل بعضهم يكتشف هذه المحاكاة بين الالوان وسرعة التصاقها اللاطوعية على قماش اللوحة، أو على “الباليت” وبالتالي كان امعانا في “تجرد” اللون، وتناسقه، وجماله لوحده، مجردا من أي موضوع.
أكثرهم عرضا هنا هو “كامبل بيسارو” 1830-1903 وهذا كان أكثرهم تأثرا بأعمال “كوروتو“ وميليت” وأقدرهم بزهاء الوانه، وهو الذي قدم “سيزان” للحركة في بداية شبابه في معرض المرفوضين، وبعد ذالك حمى “غوغان” من اللغط الذي أثاره هذا الاخير داخل وخارج الحركة. وبيسارو كان ايضا متخصصا في العمل الغرافيكي والليتوغراف، وله لوحات جميلة مثل “شابة مع عصا” و”نهر السين في بويتيفال” والثاني والمهم جدا في هذا المعرض هو “كلود مونيه” 1840-1926 الذي صار دون أن يدري، روح الحركة الانطباعية، فلوحته التي رسمها في 1874، ”أنطباع” أو “شروق الشمس” هي التي عمدت أسم الحركة لاحقا، وفي المعرض له لوحات رائعة مثل “طوابير الحصاد” و“مساء في الحديقة” وعدد أخر من اللوحات التي لا أستطيع التوقف على جميعها، فالمتحف يعرض، 130 لوحة، منفذة من قبل ما يقارب 15 فنان، ونرى ايضا أحد اهم رسامي الالوان المائية من الانطباعيين، وهو “بيرث موريسوت” 1841- 1895، الذي كان متخصصا في الرسم التوضيحي، والليتوغراف، وكان رسام مواضيع ومشاهد يومية، كما نشاهد في لوحته “نشر الغسيل” و”فتيات في زورق مع البط” وهذه الاخيرة تعتبر من أجمل أعماله، فهنا يعطي للطبيعة الدور الاول في اللوحة.
أما “مانيه” 1832-1883 الذي كان يعتبر من طليعيي الحركة، يساهم في عدد من اللوحات، مثل “ورود في كأس شمبان” و“اوليمبيا” واعمال اخرى، وهذ الاخيرة كانت سببا لفضيحة بين التقليديين من الرسامين، وتأريخيا أعتبرت من الثورات الاولى على الرسم الكلاسيكي... وكما ذكرت سابقا، فهو يبدأ مرحلة ما قبل الانطباعيين لينتهي في لوحات من جاء بعدهم، مثل “غوغان” و“رينوار” ويضيف ايضا العديد من الفنانين الالمان والاسكندينافيين ك“ماكس أرنست” و“كلمت” و”مونخ” و”نولد” وفي الصالة الاخيرة تعرض أعمال بعض الفنانين الاسبان، رغم عدم اعتبارهم انطباعيين، وإنما فقط بسبب معاصرتهم للحركة مثل “سورويا” و“ريغوييس” و“انجلادا كاماراسا” الذين قدموا بعض الاعمال التي حاولوا فيها مغازلة الحركة الانطباعية الباريسية.
المعرض في الاخير يمثل فرادة في تأريخ العرض الشامل والمتخصص، في احتفال لوني رائع، وزاهي.