اهتم سلاطين المماليك بمزارع ومعاصر ومطابخ قصب السكر، ويبدو أنها كانت رائجة ومربحة حتى فرضوا عليها ضرائب سنوية. (شترستوك)
اشتهرت مصر تاريخيا بحب الاحتفالات، وعرف أهلوها مظاهر البهجة والسعادة، وما من موسم ديني أو حتى مناسبة قديمة تعود إلى زمن الفراعنة مثل وفاء النيل إلا وترى مصادر التاريخ تشير إلى حب المصريين للأطعمة والحلويات المصنوعة من السُّكر. ومنذ عصر الفاطميين ثم عصر المماليك لم تخلُ طاولة المصريين من السُّكر في طعامهم وشرابهم. وقد ساعد في انتشار هذه الحلويات والأطعمة جودة أرض مصر وانتشار زراعة قصب السُّكر فيها منذ أقدم العصور.
وقد أُثِر عن الإمام الشافعي عشقه لقصب السُّكر المصري حتى كان يقول ممازحا جُلساءه: "ما أقمتُ في مصر إلا حبا بالقصب"، هذا والشافعي دخل مصر أواخر القرن الثاني الهجري، ويبدو من هذا أن زراعة قصب السكر قديمة حتى من قبل دخول الإسلام مصر. على أن ذروة انتعاش زراعة وصناعة السكر والإفراط في استخدامه وإهدائه كان في عصر المماليك الذين حكموا مصر منذ عام 1250م وحتى عام 1517م ومَن جاء بعدهم من العثمانيين. فقد اهتم سلاطين المماليك بمزارع ومعاصر ومطابخ قصب السكر، ويبدو أنها كانت رائجة ومربحة حتى فرضوا عليها -ضمن صناعات وزراعات أخرى- ضرائب سنوية محددة عُرفت باسم المقررات.
الصعيد أرض السُّكر
انتشرت زراعة قصب السكر في مناطق مختلفة من أرض مصر وبلاد الشام، ففي مصر زُرع في مناطق قريبة من الإسكندرية، وكذلك زُرع في الفيوم. (مواقع التواصل)
تخبرنا مصادر تاريخ المماليك عن طرق وآليات زراعة قصب السكر، والأشهُر التي يُزرع ويُحصد فيها، وأجود أنواعه ومَعاصره، فيذكر المقريزي أن زراعته كانت تبدأ في شهر "برمهات" القبطي الذي يكون في 10 مارس/آذار من كل عام وما يليه، ويكون بدء الحصاد في شهر "هاتور" من كل عام أي في خلال شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول. وقال المقريزي: "يحتاج القصب إلى أرض جيدة دمثة قد شملها الريُّ، وعلاها ماء النيل، وقلع ما بها من الحلفاء ونُظفت، ثم بُرشت بالمقلقلات (وهي محاريث كبار) ستة وجوه، وتجرف حتى تتمهد، ثم تبرش ستة وجوه أخرى وتجرَّف، ومعنى البرش: الحرث"، ويتناول المقريزي طرائق زراعة القصب وحرثه ورعايته باستفاضة كبيرة بصورة تؤكد أنه شاهد زراعته وحصاده، وكان لديه خبرة ومشاركة ربما في هذه الزراعة.
وقد انتشرت زراعة قصب السكر في مناطق مختلفة من أرض مصر وبلاد الشام، ففي مصر زُرع في مناطق قريبة من الإسكندرية، وكذلك زُرع في الفيوم. ولكن معقل زراعته الأبرز كان ولا يزال في مناطق صعيد مصر، حيث كثرت زراعة قصب السكر والتجارة فيه ومعاصره أو معامله التي كان يُستخرج منها السُّكر المعروف حينذاك بـ"القُند" أو "الكند"، وهو ما يُطلق على السكر الأبيض سواء كان في شكل القوالب أو المكرر المعروف اليوم. ومن هذه المعاصر أيضا صُنِع العسل الأسود الذي اشتهر بين المصريين آنذاك وحتى يومنا هذا، والمعروف في بلاد الشام باسم "دبس القصب". ويبدو أن زراعة وصناعة السكر كانت تُدر مكاسب هائلة للمشتغلين فيها، فنحن نرى أن السكر قبل عصر المماليك كان صعب المنال للعامة مقارنة بعصرهم الذي انتشرت فيه زراعة وصناعة السكر، الذي شهد كذلك تصديره إلى أوروبا التي كانت محرومة من زراعة القصب بسبب طقسها البارد.
ولهذا نرى أيضا انتشار زراعة القصب من الفيوم شمالا وحتى حدود أسوان جنوبا، فقد ذكر المقريزي أنه كان في "سمهود" الواقعة في الجانب الغربي من النيل "سبعة عشر حجرا لاعتصار قصب السكر"، أما مدينة "ملوي" التي تتبع اليوم محافظة المنيا وسط مصر، فكانت "أرضها معروفة بزراعة قصب السكر، وكان بها عدة أحجار (معاصر) لاعتصاره، وآخر مَن كان بها أولاد فضيل، بلغت زراعتهم في أيام الناصر محمد بن قلاوون ألفا وخمسمائة فدان من القصب في كل سنة، فأوقع النشو، ناظر الخاص الحوطة (المصادرة) على موجودهم (ممتلكاتهم) في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، فوجد من جملة مالهم أربعة عشر ألف قنطار من القند".
يؤكد العديد من المؤرخين أن دمشق وطرابلس كانتا المدينتين الرئيسيتين اللتين صدَّرتا السكر بكثافة إلى أوروبا حتى نهاية العصر الوسيط. (مواقع التواصل)
فهذه عائلة واحدة في مدينة ملوي كانوا يسمون أولاد فضيل تزعَّموا زراعة القصب وعصره والمتاجرة بالسكر والعسل الأسود. وبسبب خلاف وقع بينهم وبين رجال الدولة في عصر المماليك، وُجد ضمن ممتلكاتهم التي صودرت 14 ألف قنطار من السكر، والقنطار المصري نحو 45 كيلوغراما، أي إن أولاد فضيل في عام 738هـ/1338م كانوا يملكون 630 طنا من قوالب السُّكر الذي كان يُباع لعامة الناس وخاصتهم في القاهرة والصعيد، وكانت تُصنع منه أشهر أنواع الحلوى في ذلك الوقت، وكذا كان يُصنع منه العسل الأسود، وهي ثروة ضخمة بلا شك امتلكتها هذه الأسرة التي يمكن أن نصفها بأنها من أباطرة تجارة السكر في ذلك التاريخ. ونفهم من المقريزي أيضا أن هناك مصنعا كبيرا كان ملكا للدولة ومخصصا لعمل "القُند" أو السكر في الفُسطاط جنوب القاهرة، وأُرسلت كميات السكر المصادرة من آل فضيل إليه في ذلك التاريخ.
ونظرا لانتشار زراعة وصناعة قصب السكر في الصعيد، أثَّر ذلك على أغذية وأطعمة أهل الصعيد بالتبعية، إذ يقول المقريزي: "إن أهل الصعيد يغتذون كثيرا بتمر النخل، والحلاوة المعمولة من قصب السكر، ويحملونها إلى الفسطاط وغيرها، فتُباع هناك وتُؤكل". ونحن حتى يومنا هذا نرى أن أكثر باعة العسل الأسود والأنواع التقليدية من الحلويات المُصنَّعة من قصب السكر هم من أهل الصعيد.
ازدهرت صناعة السكر أيضا في بلاد الشام في دمشق وطرابلس الشام خاصة، ففي طرابلس الشام زرع الفلاحون في القرى قصب السكر بكثرة. وقد عرفه الأوروبيون الذين احتلوا هذه المدينة منذ زمن الحروب الصليبية، ويؤكد العديد من المؤرخين أن دمشق وطرابلس كانتا المدينتين الرئيسيتين اللتين صدَّرتا السكر بكثافة إلى أوروبا حتى نهاية العصر الوسيط، وذلك بأشكال مختلفة سواء السكر القوالب أو الناعم الدقيق المكرر أو على شكل حلويات. ومما يؤكد وفرة إنتاج السكر في مدينة طرابلس الشام أن ملك قبرص الصليبي "بطرس لوزجنان" حين قاد غارة بحرية عسكرية على المدينة في عام 1376م واقتحمها وجد بها جفانا مملوءة بالسكر، وأخذ جنوده يكسرونها ويرمونها على المسلمين بدلا من الأحجار، وقد استمرت هذه الصناعة قائمة بطرابلس طوال عصر سلاطين المماليك.
ثروات هائلة.. وعلماء يتاجرون في السكر
ذكر العلامة المقريزي أن سوق صناعة الحلويات الأشهر في القاهرة آنذاك المعروف بـ"سوق الحلاويين" اعتمد اعتمادا مُفرطا على السكر المصري المُستخرج من معاصر قصب السكر الصعيدي. (مواقع التواصل)
ونظرا للثروة الهائلة والأرباح الطائلة التي كانت تُدرّها، طمعت نفس رجال الدولة من السلطان والأمراء المماليك والوزراء وغيرهم في الدخول إلى قطاع صناعة السكر من خلال إنشاء أو الاستحواذ على المعاصر والمطابخ، وهي مصانع أو معامل السُّكر الرئيسية آنذاك. ومن هؤلاء الوزير "علم الدين بن زنبور" الذي اتُّهم بالفساد وقُبض عليه، وحين راجع الأمراء المماليك ممتلكاته وجدوا لديه 25 معصرة (مصنع) سكر، وهذه وحدها كفيلة بتضخيم ثروته، فضلا عن الأراضي والأموال والعقارات غير المنقولة التي وجدوها لديه. ولهذا عذَّبه المماليك تعذيبا شديدا، وعزلوه من وظيفته، ثم نفوه في نهاية الأمر إلى الصعيد.
والحق أن سلاطين المماليك كانوا يُنعِمون بكميات هائلة من السكر على أكابر الأمراء والخاصة في شهر رمضان من كل عام. ففي زمن السلطان الناصر محمد بن قلاوون كانت معاصر ومطابخ السكر التي بلغت بضعا وسبعين في طول البلاد تُنتج كميات كبيرة منه. وكان راتب "الحوائج خاناه"، الجهة التي يُصرف منها اللحم والتوابل والسكر للمطبخ السلطاني والقصور والأمراء والمماليك والجنود، "ألف قنطار، ثم تزايد حتى بلغ في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة ثلاثة آلاف قنطار"، والقنطار المصري يساوي 45-50 كيلوغراما تقريبا كما أسلفنا، أي إن استهلاك رجال السياسة والجيش في الدولة المملوكية بلغ نحو 150 ألف كيلو غرام من السكر سنويا في ذلك التاريخ.
لم تخلُ مناسبة عامة أو خاصة من استهلاك السكر في عمل الحلويات والمشروبات، ففي حفل ختان الأمير الطفل محمد بن قلاوون وابن أخيه الأمير موسى بن الصالح بن قلاوون سنة 692هـ، أمر السلطان خليل بن قلاوون بعمل احتفال كبير وضخم لهذه المناسبة، وكان استعمال السكر بالطبع حاضرا، "حتى صُرف من السكر برسم المشروب ألف قنطار وثمانمائة قنطار (80 طنا)، وبرسم الحلوى مائة وستون قنطارا (8 أطنان)". ونرى في أفراحهم استهلاكا للسكر أعظم من ذلك، ففي عام 732هـ زوَّج الناصر محمد بن قلاوون ابنه الأثير إلى قلبه الأمير آنوك، فكان مما صُرف من السكر لعمل المشروبات والحلويات في هذا العُرس 18 ألف قنطار مصري، أي نحو 800 طن من السكر في حفل واحد فقط.
بالمثل، ذكر العلامة المقريزي أن سوق صناعة الحلويات الأشهر في القاهرة آنذاك المعروف بـ"سوق الحلاويين" اعتمد اعتمادا مُفرطا على السكر المصري المُستخرج من معاصر قصب السكر الصعيدي، وفيه تم تسعير قنطار السكر يوميا وشهريا، كما صُنعت فيه أفخر الحلويات وأغربها شكلا وطعما، فقال: "بهذا السوق ينادى عليه كل قنطار بمائة وسبعين درهما"، كما تطرَّق إلى ما يُصنع فيه من السكر على أشكال خيول وسباع وقطط وغيرها تُسمَّى العلاليق، وإحداها علاقة تُرفع بخيوط على الدكاكين، فمنها ما يزن إلى عشرة أرطال (4.5 كيلوغرامات) إلى رُبع رطل (110 غرامات) تُشترى للأطفال، فلا يبقى غني أو فقير حتى يشتري منها لأهله وأولاده، وتمتلئ أسواق الفسطاط والقاهرة وأريافهما من هذا الصنف، وكانوا يعملون في موسم نصف شهر شعبان.
قصور السلاطين العثمانيين وغيرها من الجهات الرسمية في الدولة ظلت في حاجة دائمة إلى السكر المجلوب من ولاية مصر.
ويبدو أن وفرة السُّكر في مصر جعلت طبقات الناس تتأنق في صُنع الحلويات منه، فقد اشتهر الفاطميون والمماليك من بعدهم بصناعة "تماثيل السُّكر"، وهي عادة لا تزال موجودة حتى يومنا هذا في مصر في مناسبات مثل المولد النبوي الشريف. واللافت أن التجار والمماليك لم يكونوا وحدهم الذين عملوا في قطاع السُّكر عَصْرا واستخراجا وبيعا، وإنما شاركهم فيه ثلة من العلماء والقُضاة ممن امتهنوا زراعة السكر أو البيع فيه بالتجزئة بجانب الإقراء والوعظ والفتيا والتدريس. ومن هؤلاء المُقرئ "شرف الدين محمد بن يوسف السُّكّري المصري" الذي "كان يبيع السكّر بمصر في حانوت، ويعظ الناس بجامع مصر (عمرو بن العاص)". ومثله القاضي الحوراني "علي بن حسن القريري" الذي عمل بصناعة السُّكر أثناء طلبه للعلم، بل وهناك قاضي قُضاة المالكية في مصر "حسام الدين محمد بن أبي بكر المنفلوطي المصري"، الذي اهتم قبل توليه منصب قضاء المالكية وبعده بتنمية أمواله وأراضيه "بمَا يصلح معيشته مِن مزدرع الغلال والقصب وطبع السكر". ولأنه كان من منفلوط في صعيد مصر فقد اهتم بزراعة أراضيه بالقصب ومن ثم صناعة السكر التي أدرَّت عليه أموالا جيدة، ونلاحظ في سيرته الذاتية أنه كان على قدر لافت من الغنى والثراء أعانه على طلب العلوم والمعارف.
ومما لا شك فيه أن صناعة وتجارة السكر والحلويات في ذلك العصر كان لها طائفة (نقابة) خاصة بأهل هذه الحرفة أو الصنعة على غرار الصناعات والحرف الأخرى، ونظام الطوائف (النقابات) عرفه التاريخ الإسلامي والمملوكي، وكان لكل طائفة نظام ثابت يحدد عدد العاملين فيها ومعاملاتهم فيما بينهم وبين بعضهم من جهة، وتعاملاتهم مع الجمهور من جهة أخرى، كما تولت الطوائف مهمة ضبط العلاقات التجارية والإدارية والدفاع عن حقوق منتسبيها أمام سلطة المماليك. وكان لكل طائفة شيخ أو عريف يقوم بالإشراف على أفرادها لمنعهم من الغشِّ ويكون ممثلهم أمام الحكومة، وغالبا ما عُيِّن هؤلاء المشرفون من قِبل القُضاة، وكانت الصناعات والحرف متوارثة ويصعب للغاية أن يدخل أحد إليها دون أن تُفرض عليه شروط قاسية.
وقد استمرت مصر رائدة في زراعة قصب السكر ثم صناعة السُّكر المعروف بـ"القند" حتى بعد زوال دولة المماليك. فقد أصبح السكر المصري أهم الواردات التي يعتمد عليها سكان الأناضول في ظل الدولة العثمانية، بل إن قصور السلاطين العثمانيين وغيرها من الجهات الرسمية في الدولة ظلت في حاجة دائمة إلى السكر المجلوب من ولاية مصر. وبلغت كمية السكر المرسل سنويا نحو 800 قطار من السُّكر (القطار: قافلة من الجمال)، وقد مثلت الرسوم المتحصلة على عمليات الإنتاج والبيع أهمية كبيرة ووفرت عائدات ضخمة.
وهكذا أسهمت مصر بنصيب الأسد في زراعة قصب السكر، وصناعة السكر والعسل الأسود طوال قرون، حتى إن الأوروبيين والأتراك اعتمدوا على استيراد السكر المصري والشامي حتى بدايات العصر الحديث. ويبدو أن إبداع الشوام والمصريين في عمل الحلويات اللذيذة في يومنا هذا يعود إلى ذلك الميراث الطويل القائم على الخبرة في زراعة وصناعة السكر لقرون طويلة.