احتفال بتسليم الحكومة الأردنية مدفع الإفطار في باب الساهرة بالقدس عام 1945 (مكتبة الكونغرس)
تحمل شهادة كبار السن من الفلسطينيين حول شهر رمضان المبارك قبل النكبة نوستالجيا خاصة ممزوجة بمرارة إنسانية. وبخلاف تلك الذكريات المتداولة من جيل لآخر، وثقت الصحف الفلسطينية الصادرة إبّان الانتداب البريطاني بين عامي 1917 و1948، صورة "جزئية" عن طبيعة الحياة في رمضان إبّان تلك الحقبة، ورسمت ملامحها عبر العديد من الأخبار والتقارير والتغطيات الصحفية.
ورغم الإشكاليات الكثيرة التي عانت منها صحف تلك الفترة، لكنها وثّقت لنا العديد من الأحداث، وحملت لنا مشاهد يبدو بعضها غريبا، والآخر "مكررا"، كالهمّ الوطني المتمثل في جرائم الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية، وغلاء الأسعار، والشكاوى من "منتهكي حرمة الصيام".
وتعود صور الصحف بالأساس لـ“مركز الأبحاث الفلسطينية” الذي أسسه الأكاديمي الفلسطيني فايز صايغ في فبراير/شباط 1965 بقرار من “اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير“، واستولت إسرائيل على محتوياته في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وضمتها إلى أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية.
الهمّ الوطني وجرائم العصابات
لم يكن الهمّ الوطني، والجرائم التي تنفذها العصابات الصهيونية تحت حماية سلطات الانتداب البريطاني، غائبة عن أجواء شهر رمضان. ففي صدر الصفحة الأولى لصحيفة الشعب الصادرة يوم 16 أغسطس/آب 1947، نقرأ أن عصابات صهيونية أقدمت على ارتكاب جرائم راح ضحيتها 11 فلسطينيا، بينهم 4 كانوا يتناولون طعام السحور.
"جرائم صهيونية في رمضان" عنوان صحيفة الشعب عام 1947 (مواقع إلكترونية)
وفي التفاصيل، قالت الصحيفة إن "الإرهابيين اليهود" هاجموا مزرعة فلسطينية بجوار مدينة بني براك اليهودية (وسط)، وأطلقوا الرصاص على 4 كانوا يتناولون طعام السحور "فسقطوا صرعى وماتوا فورا".
وتابعت الصحيفة أن "الإرهابيين اليهود نسفوا منزلا في نفس المزرعة، مما أدى إلى مقتل 7 أشخاص (عائلة كاملة) بينهم نساء وأطفال".
إعدام في رمضان
وتخبرنا صحيفة "الدفاع" في عددها الصادر يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1936، أن غضبا عارما يجتاح أوساط العرب جراء اعتزام السلطات البريطانية إعدام مسلمَين اثنين، هما: عادل المصري ومحمد الحج أسعد، من مدينة نابلس خلال شهر رمضان.
صحيفة "الدفاع" في عددها الصادر يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1936 (مواقع إلكترونية)
وقالت الصحيفة "لم يسبق في تاريخ الإسلام أن نُفذ حكم الإعدام في مسلم في رمضان وهو صائم".
ولم تورد الصحيفة تفاصيل حول التهم الموجهة للشابين المصري والحج أسعد.
معتقلون
وشأن كل محتل، زجّت السلطات البريطانية بأعداد كبيرة من السكان في السجون.
ومع اقتراب شهر رمضان، طالبت صحيفة الدفاع، في عددها الصادر يوم 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1937، السلطات البريطانية بالإفراج عن المعتقلين قبل حلول شهر الصيام.
وتحت عنوان "رمضان والمعتقلون"، قالت الصحيفة "كثيرون منهم ذوو عائلات تعتمد في معيشها عليهم وحدهم، وكثيرون منهم سيحرمون موسم الزراعة إذا بقوا محكومين".
عنصرية بريطانية تجاه العرب
وتكشف صحف تلك الحقبة أن بريطانيا كانت تتعامل بنوع من العنصرية مع الموظفين العرب في الحكومة، حيث توضح أنها لم تكن تراعي ظروف عملهم خلال شهر الصيام.
وتقول صحيفة "الجامعة الإسلامية" يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 1934، إن الحكومة "مستهترة استهتارا شائنا بشعور المسلمين في هذه البلاد. موظفون ينهون أعمالهم بعد ميعاد الإفطار بنصف ساعة".
وبعد عامين، عادت ذات الصحيفة (عدد 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1936) إلى طرح الموضوع مجددا، حيث قالت "اعتادت الحكومة أن تفرق في المعاملة بين الموظفين العرب وغيرهم من باقي الموظفين".
أصيامٌ إسلامي وإفطار بروتستانتي؟
وتحت العنوان السابق، نشرت مجلة العرب يوم 7 يناير/كانون الثاني 1933، خبرا تكشف خلاله أن المندوب السامي دعا شخصيات عربية إلى "مأدبة عشاء"، تكريما للمستشرق الإنجليزي إدوارد دنيسون روس الذي زار القدس.
عنوان مجلة العرب عام 1933 (مواقع إلكترونية)
لكنّ العشاء كان في الساعة الثامنة ليلا، أي بعد وقت الإفطار بثلاث ساعات.
وسخرت "العرب" من قبول الشخصيات العربية الدعوة التي تُمثّل "إهانة شديدة لهم"، وقالت إنه "لا يهمها سوى التقرب من المندوب السامي ولو على حساب كرامتها والتقاليد الإسلامية".
وفي صفحة 6 من ذات العدد، أعلنت "العرب" عن مسابقة لمن يذكر أسماء المدعوين العرب إلى مأدبة العشاء، جائزتها الاشتراك المجاني في المجلة لمدة سنة.
مجاهرة بالإفطار وانتهاك حرمة الصيام
ومن الأخبار الملفتة والمتكررة التي نشرتها الصحف في تلك الفترة، ما يتعلق بـ"انتهاك حُرمة" شهر الصيام.
"انتهاك حرمة رمضان" عنوان صحيفة الصراط يوم 9 فبراير/شباط 1931 (مواقع إلكترونية)
ولم يقتصر الأمر على الأخبار، بل نشر العديد من مقالات الرأي المُنددة بـ"مجاهرة" البعض بالإفطار.
في هذا الصدد، تقول صحيفة الجامعة الإسلامية في عددها الصادر يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1934، إن مواطنا أقام دعوى على "أحد سماسرة السوء أمام قاضي الشرع، لانتهاكه حرمة رمضان وإفطاره علنا أمام الناس".
وتحت عنوان "عقوبة منتهك حرمة رمضان"، نشرت صحيفة الصراط المستقيم يوم 10 سبتمبر/أيلول 1941، خبرا يقول إن أئمة المساجد والمخاتير والأهالي قدموا "مضبطة" إلى القضاء، تطالب بفرض عقوبة على منتهك حرمة رمضان بالإفطار جهرا.
صحيفة الصراط المستقيم يوم 10 سبتمبر/أيلول 1941 (مواقع إلكترونية)
وكانت صحيفة "الصراط" ذاتها طالبت يوم 9 فبراير/شباط 1931 الحكومة (الانتداب البريطاني) "بمعاقبة منتهكي حرمة الصيام من فسّاق المسلمين بكل صرامة وشدة".
وفي عدد 6 سبتمبر/أيلول 1943، قالت "الصراط" إن السلطات أمرت أصحاب محلات بيع الخمور في المدينة القديمة بالقدس، بضرورة "إقفال محالهم في أوقات معينة من رمضان، لئلا يتعرض السكارى للمارة في الشوارع".
ارتفاع الأسعار
ويبدو أن ارتفاع أسعار السلع مع حلول شهر رمضان ظاهرة قديمة وليست وليدة عصرنا الحالي، حيث نعثر على العديد من الأخبار التي نشرتها الصحف في ذلك الوقت وتشكو من ارتفاع الأسعار وقلة البضائع. فنجد مثلا أن صحيفة "الصراط المستقيم" قد نشرت يوم 6 سبتمبر/أيلول 1943 تقول إن أسعار الخضار ارتفعت في غزة في رمضان بسبب "جشع المُصدّرين".
كما لاحظ مراسل صحيفة اللواء في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1936، رفع أسعار الوقود في غزة "بشكل فاحش، دون سبب واضح".
وأشارت صحيفة "الدفاع" يوم 27 أغسطس/آب 1942، إلى وجود ارتفاع كبير في أسعار السلع الرمضانية.
وفي عدد 2 يوليو/تموز 1947، قالت صحيفة فلسطين إن "جشع التجار رفع أسعار الخضروات والفواكه، حيث ارتفع سعر البندورة (الطماطم) من 4 قروش للكيلو إلى 24".
مدفع رمضان.. هدية بريطانيا للمسلمين
ويتضح من الصحف أن الجيش البريطاني كان يتقرب من سكان المدن، بمنحهم مدافع للإفطار.
جنود بريطانيون يطلقون مدفع الإفطار في القدس، وتعود الصورة لعام 1917 أو 1918 (مكتبة الكونغرس)
فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة الدفاع يوم 7 أكتوبر/تشرين الثاني 1945، خبرا ذكر أن حفلا نُظّم بحضور الجنرال جيه كيه دارسي قائد الجيش البريطاني في فلسطين وشرق الأردن، لتسليم "مدفع رمضان" هدية لمسلمي مدينة القدس.
وفي عكا، نُظم حفل مماثل يوم 2 يوليو/تموز1947 لتسليم الجيش البريطاني مدفع رمضان، بحضور الجنرال ماكميلان قائد الجيش البريطاني في فلسطين وشرق الأردن.
كما يتضح أن غالبية المدن في تلك الفترة، كانت تمتلك مدافع للإفطار.
انفجار مدفع غزة وطبيب يرفض علاج مصاب
وتُخبرنا صحيفة "الجامعة الإسلامية" في عددها الصادر يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 1934 عن حادثة غريبة وقعت في غزة، حينما انفجر مدفع رمضان وتسبب في إصابة العامل المسؤول عنه.
وقالت إن "عبد الرحمن الطباعي أُصيب ببتر في يده اليسرى، بعد أن كان يحاول تعبئة المدفع الخاص ليطلق قنبلة السحور".
وكان الحدث الأغرب في الخبر يتمثل في رفض طبيب الصحة -الذي لم تكشف هويته أو جنسيته- علاج المصاب على الفور (بعد منتصف الليل)، حيث قالت إنه وعد أهله بالحضور إلى المستشفى في الصباح.
وعلّقت الصحيفة على تصرف الطبيب بالقول "هل يتفق هذا مع القسم الذي يقسمه كل طبيب لدى تخرجه من معهد الطب؟".
صحيفة عربية في رسالة عن شهر رمضان المبارك عام 1921 (مواقع إلكترونية)
أبو جلدة يصوم رمضان ويتظاهر
وكان لـ"أبو جلدة"، الثائر الشعبي الفلسطيني في وجه سلطات الاحتلال البريطانية، نصيب من الأخبار "الرمضانية" التي نشرت في تلك الحقبة.
وقالت صحيفة فلسطين في عددها الصادر يوم 19 يناير/كانون الثاني 1934، تحت عنوان "أبو جلدة يصوم رمضان ويتظاهر"، إن الرجل "كان كل هذه المدة منزويا في مغارة بمناسبة شهر رمضان، ومعتكفا على العبادة والصوم (..) وقد قيل إنه نظّم مظاهرة سلمية مع رجاله في أول يوم للعيد".
و"أبو جلدة" هو لقب أحمد المحمود الذي شكّل مع رفيقه صالح مصطفى -الشهير بـ"العرميط"- خلية لمقاومة سلطات الانتداب البريطاني، إلى أن تمكنت الأخيرة من القبض عليهما وإعدامهما في 21 أغسطس/آب 1934.
المسحراتي.. شيطان أم ملاك؟
ونشرت صحيفة "الصراط المستقيم" يوم 6 سبتمبر/أيلول 1943 مقالا أدبيا طريفا، يتحدث فيه كاتب عّرف نفسه بـ"ابن الخيال"، حول ذكرياته الخاصة مع "مُسحّر" رمضان.
ومما جاء في المقال: "يا لهذا الملاك الهابط من السماء، يدعو الناس إلى القيام".
"مسحر رمضان" بصحيفة الصراط عام 1943 و عنصرية بريطانيا تجاه الموظفين المسلمين عام 1936 (مواقع الكترونية)
ويضيف: "من هو؟ إن حُجب الظلام تستر عنا ملامحه، فلا نتبينه".
لكن الكاتب، ينعطف بشكل حاد في نهاية مقاله، حيث يقول "ننتظر أن يأتي، فنراه في النهار يجمع الكعك والأرغفة والنقود، ولكنه حينئذ يكون قد فقد سحره، ومحا ضوء الشمس جاذبيته، وجعله إلحاحه في الطلب شيطانا بعد أن كان ملاكا".