"النار بالنار" أول عمل درامي مشترك يتصدى لقضايا تمس الواقع الإنساني للشعبين السوري واللبناني (مواقع التواصل الاجتماعي)
خاص- منذ عرض حلقاته الأولى مع بداية الموسم الرمضاني أثار المسلسل العربي المشترك (لبناني سوري) "النار بالنار" جدلا واسعا بين متابعيه، وذلك على خلفية توجه صانعيه إلى إثارة عدد من القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة غير المطروقة سابقا في الدراما المشتركة.
ومن أبرز تلك القضايا الأثر المجتمعي للتدخل العسكري السوري في لبنان عقب الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في أبريل/نيسان 1975، وقضية مفقودي الحرب الذين لم يُعرف مصير بعضهم إلى اليوم، وتصاعد العنصرية ضد اللاجئين السوريين ممن نزحوا إلى لبنان بسبب القمع العسكري للثورة السورية التي اندلعت في مارس/آذار 2011.
و"النار بالنار" من إنتاج شركة "الصباح إخوان"، وتأليف رامي كوسا، وإخراج محمد عبد العزيز، وبطولة نخبة من النجوم السوريين واللبنانيين، أبرزهم عابد فهد وكاريس بشار وجورج خباز.
المقاربة الدرامية بين الجرأة والاختزال
في حي شعبي بالعاصمة بيروت يمشي الشاب اللبناني عزيز (لعب دوره الممثل جورج خباز) الذي خرج لتوه من الحبس بعدما حكم عليه بالسجن إثر تخلفه عن سداد دين لأحد السوريين الأثرياء، يقف عزيز وسط الحي ليعلق لافتة كُتب عليها "يمنع تجول السوريين بعد الثامنة مساء".
من بعيد تظهر اللاجئة السورية مريم (لعبت دورها الممثلة كاريس بشار) وهي مقبلة من أول الحي باتجاه عزيز، تقرأ اللافتة وتكاد لا تصدق ما تراه عيناها، تصرخ في وجه عزيز مستنكرة فعلته، فينشب شجار بينهما.
وفي شجارهما يحمّل عزيز مريم ذنب ما اقترفه الجيش السوري في لبنان من تجاوزات خلال فترة وجوده على الأراضي اللبنانية (1976-2005)، ويقول لها "ماضيكم معنا بشع وحاضركم أبشع، نحنا بعتنا (أرسلنا) وراكم (وراءكم) على أساس قوات ردع عربية، صار بده مين يردعكم (أصبح هناك حاجة إلى من يردعكم)".

يلخص المشهد محور الصراع بين عزيز ومريم ومن خلفهما ما يرى الكاتب أنه ذريعة بعض اللبنانيين لممارسة العنصرية ضد اللاجئين السوريين، صراع وذريعة يعودان بجذورهما إلى الحرب الأهلية اللبنانية.
وهو مشهد من مشاهد عدة حاول العمل التلفزيوني من خلالها الكشف عن الآثار التي خلفتها الصراعات والتوترات السياسية بين نظامي البلدين على العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين أبناء الشعبين حتى بعد مضي 17 عاما على انسحاب الجيش السوري من الأراضي اللبنانية.




واعتبر مشاهدون أن "النار بالنار" هو أول عمل درامي مشترك جريء بما فيه الكفاية ليتصدى لقضايا تمس الواقع الإنساني والاجتماعي للشعبين السوري واللبناني، وهي قضايا ظلت مبعدة عن أعمال الشاشة الصغيرة ومسكوتا عنها لسنوات.
بدوره، يرى المخرج والناقد الفلسطيني السوري فجر يعقوب أن مسلسل "النار بالنار" لم يقدم "مقاربة شجاعة" بما فيه الكفاية لما حدث في البلدين.
ويقول يعقوب إن "أي أحاديث عن العنصرية والبغض لا تأخذ بالاعتبار الأسباب الحقيقية التي أدت إلى انفجارها بهذا الشكل، فإنها لا تعدو كونها استمرارا للحالة ذاتها، فبدلا من تشخيصها وتقديمها بقالب درامي تراها تنقل الواقع كما هو إلى الشاشة الصغيرة".
ويضيف "وبذلك، تصبح الشاشة ناطقا رسميا باسم تلك الحالة، ويصبح هذا التشخيص مريحا للأطراف المستفيدة من نوع هذه العلاقة بين الشعبين وطبيعتها، والتي تتجدد بأشكال مختلفة منذ أكثر من 4 عقود وربما منذ استقلال البلدين حين قرر الاستعمار الفرنسي أن يتركهما في حالة تجاذب وتنافر بعدما تحدث بلغة فوقية وعنجهية عن سوريا الريفية مقارنة بلبنان المتحضر".
ويشير يعقوب في حديثه للجزيرة نت إلى المقاربة الدرامية الأحادية البعد في تشخيص أسباب تصاعد العنصرية والكراهية بين بعض أبناء الشعبين، فكثيرا ما يسكت السيناريو عن الأسباب السياسية العميقة المسببة لهذه العنصرية، ويكتفي بإحالتها إلى ثقافة الشخوص الدرامية وخصائصها.




غلبة الحب على الكراهية
يعيش الثلاثي عمران ومريم وعزيز في حي شعبي من أحياء العاصمة بيروت، مريم مدرّسة سورية نزحت إلى لبنان بعد اختطاف زوجها، تجبرها الظروف على التعامل مع عمران، وهو مرابٍ سوري لبناني يقرض سكان الحي أموالا بالفائدة ويفتعل الشجارات معهم.
يساعدها عمران في تزوير جواز سفر لبناني ويخرجها من مركز الاحتجاز لأنه واقع في حبها، فيما يميل قلب مريم إلى عزيز مدرس الموسيقى الذي ما زال يبحث عن والده المختطف على يد السوريين في الحرب الأهلية.
أراد الكاتب منذ البداية أن تكون شخصيات عمله نموذجية تعكس كل منها وجهة نظر مسبقة ومحددة وتعبر عن شريحة من شرائح المجتمع البيروتي الذي بات المكون السوري جزءا لا يتجزأ منه.
فعمران يستغل جميع جيرانه ولا يميز بين سوري ولبناني إلا بما تقتضي المصلحة، يهددهم ويتوعدهم ويرهن أشياءهم الأثيرة (آلات موسيقية، لوحات تشكيلية، حيوانات أليفة.. وغيرها)، فيما يواظب عزيز على وصم السوريين بألفاظ عنصرية وطائفية مثل "أبو سن ذهب"، ويحملهم جميعا وزر اختطاف والده خلال الحرب قبل نحو 40 سنة.

لكن وصول مريم إلى الحي يحوّل مجرى الأحداث، فالشخصية التي وقعت ضحية الممارسات العنصرية (شجارها مع عزيز تحت اللافتة) والاستغلال (دفع المال لعمران مقابل جواز السفر) ستساهم لاحقا عبر مجموعة العلاقات التي تربطها ببقية الشخوص في الكشف عن جوانب كانت غير متوقعة.
تخضع شخصيات العمل للكثير من التحولات، فعمران الجشع إلى المال والسلطة يقع في حب مريم، وأيضا عزيز العنصري هو الآخر يحبها بعد شجار يتبادلان فيه الضرب واللكمات ينتهي إلى سقوطهما منهكين على الأرض ينظر أحدهما إلى الآخر ويضحكان.
وهكذا، يعكس التحول الدرامي على مستوى السيناريو تحولا رمزيا على صعيد الدلالة، فتزول الحواجز في النهاية، وينتصر الحب والمشتركات الإنسانية والثقافية بين أبناء الشعبين على الكراهية التي أنتجتها وعززتها ممارسات فاسدة للنخب السياسية في البلدين.




التلقي بين الحفاوة والاستنكار
أثار "النار بالنار" منذ حلقاته الأولى جدلا واسعا بين متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي، فهناك من أشاد بما قدمه من أحداث تعكس واقع الأزمات الإنسانية والاجتماعية التي يعيشها السوريون واللبنانيون في بيروت كمحنة اللجوء، وغياب الدولة، واللصوصية، والقهر، وبين من رأى فيه عملا أحادي السرد ينقل معاناة السوريين وآلامهم ويتجاهل مآسي اللبنانيين.
يقول أنس عبد الرحمن في منشور له على فيسبوك إن المسلسل "يفتح الباب بكل هدوء وحزن على مرحلة من العنصرية والكراهية التحريضية التي عاشها السوري في تغريبته القسرية، وتحديدا في لبنان".
ويضيف "شخصياته السورية اللبنانية منسجمة، وتركيبته ونسيجه من دون تنافر، وحواراته صادمة، صداقة تطرح للمرة الأولى في علاقة الأشقاء الأعداء، سوريين ولبنانيين".
ودونت ضياء أحمدية منشورا تعلق فيه على مشهد الصراع بين شخصيتي مريم وعزيز تحت اللافتة بالقول "كلنا متعاطفون مع النازحين السوريين، ونقدر حجم مأساتهم، ولكن من يقدر حجم مأساة اللبناني وكمية الضرر الذي لحق به من الوجود السوري؟".
وعن حديث جمهور المتلقين عن صدق الصراعات التي صورها العمل، يقول فجر يعقوب "مهما قيل عن واقعية ما يحدث في المسلسل فإن الخطورة تكمن هنا، فنحن كمشاهدين لا نريد هذا الواقع كما حدث على مرأى من أعين الأجيال السابقة أو التي تعيش معنا الآن".




ويضيف "المطلوب أن يكشف المسلسل عما لم يكن ممكنا معرفته ويدور في الخفاء، والكشف المطلوب هنا ليس من وظائف الدراما التلفزيونية، لأنها تخضع أيضا لأمزجة الجهات المنتجة وأجندتها".