لا بد أنك سمعت بالأمر، تجدد الجدل حول أصول المصريين القدماء في الآونة الأخيرة بعدما عرضت شبكة "نتفليكس" الترفيهية على منصتها الإعلان الترويجي لفيلم وثائقي يؤرخ لحياة "كليوباترا"، المفاجأة أن الفيلم صوَّر الملكة المصرية ذات الأصول اليونانية ببشرة سوداء، وجاء المصريون في الفيلم نفسه ببشرة سوداء كذلك، ما أشعل جدالا حول الأمر، ليس في مصر فقط بل في العالم أجمع.
اتهم البعض المنصة بتزوير التاريخ لدعم حركة "المركزية الأفريقية" (Afrocentrism)، بينما رأى آخرون أن بطلة الفيلم تشبه المصريين، خاصة أهل الجنوب فعلا، في حين خرجت الصحف اليونانية بعناوين أخبار على شاكلة: "يبدو أن نتفليكس نسيت أن كليوباترا يونانية"، فما الحقيقة إذن بين كل هذه الادعاءات؟
في الواقع، كانت الحضارة المصرية القديمة من أكثر الحضارات إثارة للفضول منذ اكتشاف رموزها وحتى يومنا هذا، ودائما ما كان الأصل الذي انحدر منه المصريون القدماء مسار جدل واسع في أوساط العلماء والكُتّاب والباحثين، ومنذ سبعينيات القرن الماضي ظهر اعتقاد أنهم أفارقة من جنوب الصحراء الكبرى، لكن نتائج الأبحاث الأخيرة في هذا النطاق تتحدى هذه النظرية.

أول حمض نووي لـ"مومياء مصرية"

تميزت مصر منذ القدم بموقع جغرافي مميز؛ إذ تقع عند ملتقى قارات العالم القديم، وهي منطقة مثالية لدراسة الديناميكيات السكانية وتفاعلاتها الموثقة مع الحضارات القديمة في أفريقيا وآسيا وأوروبا. لكن التاريخ السياسي المعقد للإمبراطورية المصرية القديمة كان سببا في اعتقاد العلماء قديما أن الأجانب ربما ساهموا جينيا في تكوين الحمض النووي للسكان المحليين، وذلك نتيجة كثرة الاختلاط عبر العصور.
عانت مصر في الألفية الأولى قبل الميلاد من الهيمنة الأجنبية، وتعرضت للغزو من قِبَل الآشوريين والنوبيين والفرس والإغريق والرومان، ونتج عن ذلك تزايد أعداد الأجانب الذين يعيشون داخل حدودها، الأمر الذي جعل العلماء في حيرة من أمرهم عند تحديد الأصل الجيني للمصري القديم، وعاجزين عن تحديد التأثير الوراثي لكل تلك "الغزوات الأجنبية" على الحمض النووي للمصريين.
للأسف حتى وقت قريب لم تكن مسألة بحث الأصول الجينية للمصريين ممكنة، فالمناخ الصحراوي الحار، والرطوبة العالية داخل المقابر، بالإضافة إلى المواد الكيميائية المستخدمة في التحنيط؛ هي عوامل أدت جميعا إلى تدمير المادة الوراثية للمومياوات المصرية القديمة، مما جعل العلماء لعشرات السنين عاجزين عن تحليل الحمض النووي للعينات، حتى اكتشفوا حقيقة أنه على الرغم من عدم احتواء الأنسجة الرخوة للمومياوات على أي حمض نووي تقريبا، فإن العظام والأسنان كانت تعج بالمواد الوراثية.



تمكَّن فريق علمي في عام 2010 من استخراج الحمض النووي وفحص عينات عظام مومياوات مصرية. (غيتي)

بالفعل تمكَّن فريق علمي في عام 2010 من استخراج الحمض النووي وفحص عينات عظام أربع مومياوات مصرية. وقتها قال ألبرت زينك، أحد مؤلفي الدراسة، وعالم الأنثروبولوجيا البيولوجية في معهد أبحاث يوراك لدراسات المومياوات في بولزانو بإيطاليا، إن هذا الكشف يثبت للجميع أخيرا وجود حمض نووي محفوظ داخل المومياوات المحنطة.
استخدمت الدراسة تحليل تفاعل البوليميراز المتسلسل "PCR"، وهو تحليل يعمل على تضخيم أجزاء صغيرة من الحمض النووي الريبوزي "RNA"، للمساعدة في قراءة تسلسل قصير للحمض النووي. وقد تمكن التحليل بالفعل من استخراج شظايا الحمض النووي المستهدفة من المومياوات بكفاءة، لكن الدراسة وقتها لم تستطع التفريق بشكل موثوق بين الحمض النووي القديم والتلوث الحديث.




مومياوات يمتد تاريخها إلى 1300 عام

بعدما نجح ألبرت زينك وفريقه في استخراج الحمض النووي من عظام المومياوات القديمة، أتى عام 2017 بحدث ثوري جديد منح العلماء الفرصة لدراسة الحمض النووي القديم، وحسم الجدل الدائر حول أصول المصريين القدماء وإعادة كتابة التاريخ المصري القديم باستخدام البيانات الجينية.
هذا الحدث هو دراسة قادها يوهانس كراوس، وهو عالم الوراثة في معهد ماكس بلانك لعلوم تاريخ البشرية في ألمانيا، استخدمت أساليب جديدة لقراءة امتدادات الحمض النووي، تمكن من خلالها كراوس وفريقه من فصل التلوث الحديث عن العينة موضوع البحث. كان ذلك يعني فصل أول عينة نقية نسبيا من الحمض النووي القديم، وقراءة معلوماتها الجينية لأول مرة في تاريخ الدراسات التي أُجريت على المومياوات المصرية.
عن ذلك يقول كراوس في تصريحٍ لشبكة "سي إن إن" الإخبارية: "عندما تلمس عظمة ما، فمن المحتمل أن تترك يديك على العظمِ حمضا نوويا أكثر مما بداخله هو"، ويضيف أن ذلك هو ما يعنيه عندما يتحدث عن التلوث الذي يصيب عينات الحمض النووي القديم. بالنسبة إلى الباحثين كانت تلك مشكلة كبيرة عجزوا عن حلها طويلا، حتى بات بإمكانهم إظهار ما إذا كان الحمض النووي قديما أم حديثا من خلال خصائصه الكيميائية، وبالتالي أصبحت نتائج العينات موضوع البحث أكثر موثوقية.
بفضل هذا التطور الكبير، تمكن فريق من المختصين لأول مرة من تكوين نظرة شاملة عن الطبيعة الجينية للمصري القديم، ويحكي كراوس كيف نجح وفريقه في استخراج 166 عينة من عظام رأس 151 مومياء مصرية تنتمي إلى منطقة "أبو صير الملق"، وهي قرية تابعة لمحافظة بني سويف وتحتوي على مجموعة من المقابر تنتمي إلى عصور ما قبل الأسرات وعصر الدولة القديمة وبعض مقابر الدولة الحديثة؛ إذ كانت تلك المنطقة مكرسة لعبادة الإله أوزوريس، إله الموتى عند المصريين القدماء، مما جعلها من أشهر أماكن الدفن لعدة قرون.
كانت رؤوس المومياوات قد أزيلت بالفعل عن الأجساد مطلع القرن العشرين وجرى تقسيمها حينها إلى مجموعتين، الأولى كانت محفوظة بجامعة توبنغن الألمانية، والثانية وُضعت في متحف برلين؛ ومن هناك حصل العلماء على عيناتهم. بعدها قام العلماء بتأريخ رؤوس المومياوات بالكربون المشع، ووجدوا أن تاريخها يمتد إلى 1300 عام من عمر الحضارة المصرية، ما يعني أن تلك المومياوات كانت شاهدة على التاريخ المصري القديم خلال العديد من الغزوات الأجنبية، بل وشهدت اندماج المصريين مع الإمبراطوريتين اليونانية أولا ومن ثم الرومانية.




بحسب الباحثين، كانت أقدم المومياوات عمرا تعود إلى عصر الدولة الحديثة، تحديدا عام 1388 قبل الميلاد عندما كانت مصر في أوج قوتها ومجدها. بينما أصغرها ترجع إلى سنة 426 ميلادية، عندما كانت البلاد تحت الحكم الروماني. أخذ الباحثون هذه العينات إلى مختبر في ألمانيا، حيث بدأوا بتعقيم الغرفة ثم وضعوا العينات تحت الأشعة فوق البنفسجية لمدة ساعة لتعقيمها. ومن هناك تمكَّنوا من إجراء تسلسل الحمض النووي لـ90 مومياء مصرية.


التسلسل الجيني للمصري القديم


إذ اكتشف العلماء أن الجينوم البشري للمصريين القدماء يتوافق مع الحمض النووي لسكان الشرق الأدنى القديم والحديث، وبالأخص منطقة بلاد الشام، ودول حوض البحر المتوسط. (رويترز)

استخرج العلماء الحمض النووي للمومياوات من المادة الوراثية المحفوظة داخل الميتوكوندريا، وهي مناطق إنتاج الطاقة داخل الخلية. كانت الأزمة التي واجهت فريق البحث حينها أن الميتوكوندريا تحمل الحمض النووي الذي ينتقل من الأم إلى الطفل فقط، مع تجاهل الحمض النووي للأب تماما، وبالتالي كانوا عاجزين عن استخراج الجينوم النووي الكامل لكلا الوالدين، الذي لم يستطيعوا استخراج عيناته إلا من ثلاث مومياوات فقط، كلٌّ منها كان يؤرخ لفترة زمنية مختلفة.
قارن فريق كراوس بين الحمض النووي الذي استخرجوه من الميتوكوندريا بالإضافة إلى الجينوم النووي الكامل للمومياوات الثلاثة، مع تسلسل الجينوم البشري لسكان أفريقيا والشرق الأدنى القديم والحديث، وجاءت النتائج مفاجئة حقا، إذ اكتشف العلماء أن الجينوم البشري للمصريين القدماء يتوافق مع الحمض النووي لسكان الشرق الأدنى القديم والحديث، وبالأخص منطقة بلاد الشام، ودول حوض البحر المتوسط، من سوريا والعراق ولبنان والأردن وفلسطين. علاوة على ذلك، كشفت الدراسة أن جينات المومياوات ظلت متسقة مع بعضها بشكلٍ ملحوظ حتى بعد الغزوات الكبرى للإمبراطوريات، أي إنها تغيرت فقط بنسبة صغيرة.
غطت هذه العينات فترة حكم الإسكندر الأكبر، وحقبة البطالمة، وجزءا من الحكم الروماني لمصر، لكن العوامل الوراثية لمجتمع "أبو صير الملق" ظلت كما هي بلا تحولات كبيرة، مما يعني أن السكان ظلوا لقرون غير متأثرين نسبيا بالغزو الأجنبي، الأمر الذي جعل الباحثين يتكهنون بأنه ربما كانت هناك قواعد اجتماعية صارمة أو موانع قانونية عرفها المصري القديم ومنعته من الزواج أو الاختلاط بالأجانب، مما لعب دورا في هذا الركود الجيني.


المصري المعاصر والجينات الأفريقية


أظهرت الدراسة أن الجينوم البشري الخاص بالمصريين المعاصرين يتشارك في الجينات مع سكان أفريقيا الوسطى بنسبة تصل إلى 8%، وهي نسبة أكبر بكثير مما تشاركه أسلافهم من القدماء. (شترستوك)

رغم انتشار مزاعم بعض المنتمين إلى حركة المركزية الأفريقية بأن المصريين القدماء كانوا أفارقة توالت عليهم الغزوات الأجنبية من الإغريق والرومان والعرب وغيرت من ديناميكية السكان؛ تأتي الدراسات الجينية الأخيرة لتثبت عكس ذلك. بل والمثير للاهتمام حقا ما كشفت عنه دراسة حديثة نُشرت في مجلة "نيتشر" (Nature) من أن المصريين المعاصرين يتشاركون في الأصل مع الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى أكثر بكثير مما فعل أسلافهم من المصريين القدماء، الذين كانوا أكثر ارتباطا بشعوب الشرق الأدنى القديمة.
أظهرت الدراسة أن الجينوم البشري الخاص بالمصريين المعاصرين يتشارك في الجينات مع سكان أفريقيا الوسطى بنسبة تصل إلى 8%، وهي نسبة أكبر بكثير مما تشاركه أسلافهم من القدماء؛ إذ بدأ تدفق جينات جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى بين الشعب المصري منذ نحو 1500 سنة ماضية، وهو ما أرجع الباحثون سببه إلى حركة التجارة المتزايدة بين الشعبين على طول نهر النيل في تلك الفترة.
رغم ذلك، هناك بالطبع احتمالية ألا تكون تلك العينات ممثلة لمصر القديمة كلها، إذ جاءت جميع البيانات الجينية التي حصل عليها الباحثون من موقع واحد في مصر الوسطى، وقد يختلف التركيب الجيني للسكان كلما اتجهنا نحو المناطق الداخلية الأقرب للجنوب الأفريقي؛ وهو أمر سيعمل العلماء مستقبلا على الكشف عنه.




حاليا، يريد الباحثون أن يحددوا متى بدأ بالضبط تسرب جينات جنوب الصحراء الأفريقية إلى الجينوم المصري، ويرغبون في معرفة أصول المصريين القدماء أنفسهم، وللقيام بذلك يتعين عليهم تحديد الحمض النووي الأقدم، والعودة بالزمن إلى أبعد من ذلك بكثير، تحديدا عصور ما قبل التاريخ.