شهدت أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة انتشارا هائلا في الشهور الأخيرة، ودخلت للعديد من مجالات الكتابة والإبداع والفن وحتى الموسيقى والتصوير وغيرها من المجالات، التي كانت حكرا على الإبداع البشري الإنساني.
في عالم الموسيقى، بات الذكاء الاصطناعي حاضرا ويؤدي دورا متناميا في هذا المجال، لكنّ المعنيين يرون أن ثمة حاجة إلى تشريعات تنظّم الاستعانة بهذه التكنولوجيا.
وفي عالم التصوير، أثار فنان ألماني ردودا غاضبة عقب فوزه بجائزة مرموقة في مجال التصوير عن صورة التي تم توليدها وإنشاؤها بواسطة تقنية الذكاء الاصطناعي.


جائزة التصوير واتهامات بالتضليل

وأشار بوريس إلدغسن إلى أنّه كان واضحا منذ البداية فيما يخص طبيعة عمله، وأنه لن يقبل المكافأة الممنوحة له ضمن جوائز "سوني" (Sony) العالمية للتصوير الفوتوغرافي، لأنّ المسابقات ليست جاهزة بعد للتعامل مع تقنية الذكاء الاصطناعي.
وأوضحت اللجنة المسؤولة عن منح الجوائز بدورها أنّها كانت على علم بطبيعة الصورة، لكنّها اتهمت الفنان بـ"التضليل المتعمد"، وهو ما أثار غضب إلدغسن.
ويخشى عدد كبير من المصورين والفنانين أن تهدد تقنية الذكاء الاصطناعي مصدر رزقهم، لأنها تتيح لأي شخص إنشاء صور جميلة ببضع نقرات.
وبدأ فنانون رفع دعاوى لحماية حقوقهم لمواجهة الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم أعمالهم ذات حقوق الملكية المحفوظة ونشرها لتدريب الأدوات على إنتاج محتوى من الصور الجديدة، إلا أنّ معاركهم القضائية لن تكون سهلة، ففي أوروبا وأميركا الشمالية يميل القانون إلى تأييد الذكاء الاصطناعي مع أنّ الوضع قد يتغيّر، وفق تقرير سابق للجزيرة نت.
وكان القائمون على جوائز سوني العالمية للتصوير أعلنوا في مارس/آذار الماضي فوز صورة إلدغسن التي تظهر فيها امرأتان وتحمل عنوان "فقدان الذاكرة الزائف: الكهربائي" (Pseudomnesia: The Electrician) في فئة الأعمال الإبداعية.
وأوضح إلدغسن، في مقابلات أجراها عقب فوزه، كيف أنجز العمل، مشيرا إلى أنه كان يرغب من خلال خطوته هذه في أن يطرح نقاشا بشأن مسألة الذكاء الاصطناعي.
وكتب الأسبوع الفائت أن "الصور التي تبتكرها برامج الذكاء الاصطناعي وتلك الفوتوغرافية لا ينبغي أن تتنافسا في مثل هذه الجوائز"، ورفضَ الجائزة الممنوحة له.
وأشار القائمون على الجوائز إلى أنهم كانوا يتطلعون لإشراك الفنان في نقاش عن الذكاء الاصطناعي، إلا أنهم سحبوا الصورة "تماشيا مع رغبته".


الموسيقى وغياب التشريعات

بات تقنية الذكاء الاصطناعي حاضرا في عالم الموسيقى، فعلى سبيل المثال، استخدمت مغنية شهيرة تدعى سيسيل ليوج ديلورانتيس جوقة مستحدثة بواسطة هذه التقنية على خلفية صوتها، في حين أثارت فرقة "آلتا" (AllttA) الجدل مع شخصية رمزية صوتية تمثل مغني الراب والهيب هوب الأميركي جاي زي.
ورغم أنّ الذكاء الاصطناعي في المجال الموسيقي يُعد محرّكا للإبداع، فإنّه يطرح أسئلة وإشكاليات تتعلق بتنظيمه.
وكتب يَنغ غورو، وهو أحد أعضاء فرقة المغني الشهير جاي زي، عبر إنستغرام "من المستحيل إعادة المارد إلى المصباح بعد خروجه منه".
وفي حديث إلى وكالة الصحافة الفرنسية، يلاحظ ألكسندر لاش من الاتحاد الوطني الفرنسي للنشر الفونوغرافي "إس إن إي بي" (SNEP)، وهي منظمة غير ربحية تهتم بصناعة الموسيقى، أن "الذكاء الاصطناعي بات منذ بضع سنوات موجودا في المجالات كلّها".
وتشير كلاريس آرنو من اتحاد منتجي الفونوغرافيا الفرنسيين المستقلين إلى أن "الابتكارات التكنولوجية ساهمت في تطوير المجال الموسيقي، مما سيوسّع نطاق الإمكانات والابتكارات"، مؤكدةً ضرورة إخضاع أي تقنية لقواعد معيّنة.
ولجأت ديلورانتيس، وهي فنانة فرنسية تؤدي الموسيقى الإلكترونية، إلى تقنية الذكاء الاصطناعي، وتعمل حاليا على الجزء الثاني من ألبومها الذي تُسمع في أغانيه "جوقة افتراضية" ابتكرها القسم المعني بالتكنولوجيا في شركة سوني ومعهد "إركام" في باريس.
وتقول المغنية للوكالة الفرنسية إنّ "جوقة الذكاء الاصطناعي تبدأ الغناء مستندةً إلى صوتي الذي ينبثق منه 21 صوتا، مع نبرة صوت وطريقة بالتنفس تتناسب مع أسلوبي الغنائي"، مضيفةً "يمكنني أن أتوجه إلى الجوقة بالقول مثلاً: ساعديني في نوتة الدو الصغيرة، وأكون بذلك عازفة جاز تتفاعل مع موسيقيين آخرين".



يتساءل فنانون وموسيقيون عن الحدود التي لا ينبغي تخطيها فيما يخص استخدام الذكاء الاصطناعي (شترستوك)


تحولات إنتاج الموسيقى

وتقول مؤلفة كتاب "الفنان والمجال الرقمي والموسيقى" إميلي غونو، للوكالة الفرنسية، إنّ الذكاء الاصطناعي يُعتبر في حالة المغنية ديلورانتيس "أداة للاستلهام".
لكن ما هي الحدود التي لا ينبغي تخطيها فيما يخص استخدام الذكاء الاصطناعي؟ استعان ديفيد غيتا بالذكاء الاصطناعي لابتكار صوت مشابه لصوت مغني الراب الأميركي إمينيم في إحدى حفلاته. إلا أنّ منسّق الأسطوانات الشهير لم يطرح هذا العمل في السوق، وأشار في حديث إلى "بي بي سي" (BBC) إلى أنه رغب من خلال خطوته في "إطلاق نقاش يرمي إلى التوعية بموضوع الذكاء الاصطناعي".
وأطلقت فرقة "آلتا" الفرنسية الأميركية أخيرا أغنية بصوت مزيّف للمغني جاي زي من خلال استخدام برنامج للذكاء الاصطناعي. وفي حديث إلى وكالة الصحافة الفرنسية، يوضح مدير أعمال الفرقة الفرنسي يات نيديليك أنّ هذه الخطوة ترمي إلى "إطلاق زاوية أخرى من النقاش".
ويضيف نيديليك "طبعاً لم نطرح هذا العمل في الأسواق، بل أردنا إظهار أننا داخل منطقة رمادية، وتأكيد الحاجة الملحة لتنظيم هذا المجال". ولن تكون الأغنية ضمن ألبوم "آلتا" الجديد "كوريو" المُزمع طرحه في الأسواق يوم 12 مايو/أيار القادم.
ويقول يَنغ غورو بأسف "لا يُفترض أن تكون البرامج قادرة على استخدام اسم الشخص وصوته ومظهره من دون إذنه"، ومن هنا تبرز، بحسب إميلي غونو، "المسائل المرتبطة بموافقة الشخص المعني وبالاستغلال التجاري، بالإضافة إلى مفهوم الشخصية (حقوق الصورة والصوت)".
أما فيما يخص التزوير، فثمة إجراءات قانونية معيّنة، لكنّ الاستفادة من عمل الآخرين أو سمعتهم بهدف تحقيق ثروات، وانتهاك الحقوق الشخصية مسألتان تتسمان بتعقيد أكبر، بحسب لاش.
وتقول كلاريس أرنو "بمجرد نسخ صوت أو لحن وجعله أبطأ أو أسرع، فهذا يطرح مشكلة، إذ نادرا ما تتم استشارة صاحب الحقوق أو دفع مبلغ له عن عمله الأصلي"، مضيفةً "ثمة جهد كبير ينبغي القيام به لتنظيم هذا المجال".
ويلاحظ لاش أن "التكنولوجيا تتقدّم بوتيرة أسرع بكثير من القوانين". ولا يوجد ما يكفي من إمكانات الرصد والجهات الرقابية لإدارة أعداد الأعمال الكبيرة التي تُنشر على المنصات الرقمية والبالغة نحو مئة ألف أغنية يوميا.
وتقول إميلي غونو "لست متشائمة كثيرا بل واثقة من أنّ الوضع سيُستدرك قانونيا. لكن حتى تحقيق ذلك، أَلَن تكون طريقة إنتاج الموسيقى قد تبدّلت أصلاً؟".