"على حدود المقدمات": رؤية ما هو عربي بعيون إسبانية

يرى الكاتب أن التراث العربي والإسلامي هو أحد أبرز المكوّنات الرئيسة للثقافة الإسبانية ولشخصية المواطن الإسباني حتى اليوم.
الكتاب: على حدود المقدمات: رؤية ما هو عربي بعيون أخرى
تأليف: بيدرو مارتينيث مونتابيث
ترجمة: سعيد العلمي
الناشر: مؤسسة الفكر العربي – بيروت - 2022
مراجعة: محمود بري |

يعتبر المفكر الإسباني بيدرو مارتينيث مونتابيث شيخ المستعربين الغربيين بلا منازع، وأكبر الأساتذة الإسبان والعالميين ممن أضاءوا برجاحة عقل ثاقب على كلاسيكيات الأدب، مُتبحِّراً في دراسة التراثين العربي والأندلسي. وهو المتضلّع عميقاً في لغة الضاد وآدابها وتاريخها وفلسفتها، فوضع جملة من المؤلفات واسعة الانتشار، تُرجمت إلى العديد من اللغات العالمية الحيّة من أهمها كتابه "على حدود المقدمات: رؤية ما هو عربي بعيون أخرى".
نجح الكاتب بامتياز غير مسبوق في إطلاق صوت جديد ومسموع في سبيل التأسيس لرؤية استعرابية مُضيئة وموضوعية للأدب والفكر العربيين جعلت منه مَعلماً مرجعياً اقتدى به جملة بارزة من مفكري العالم. بنى للإستعراب الغربي هيكلاً نموذجياً رصيناً ومتماسكاً أقامه على أركان المعرفة والحقيقة والواقع البريء من شوائب التعصّب والأفكار المُسبقة. لذلك كان جديراً به أن يكون الخصم الأساس للبروباغندا الإمبريالية التي نجحت إلى حدّ بعيد في الإساءة للتاريخ والفكر العربيين، وصوّرتهما في قالب مغلوط يُجافي الحقيقة والواقع لخدمة تآمرها. إلا أن تلك القامة الإسبانية الفريدة التي وضعت نقطة المعنى على التراث العربي في الأندلس وتأثيره العميق، عاش بما يكفي لتثبيت فكرته ونشرها، فتجاوز التسعين عاماً من عمر أثراه بالبحث والتصويب، مُعارضاً شائعات الغرب المُغرضة ليستبدلها بكل بساطة بالحقيقة المدعمة بأحداث التاريخ.

"كتاب كُتُب"
إهتم مونتابيث في أبحاثه وكتاباته بدراسة التراث العربي والإسلامي الذي اعتبره أحد أبرز المكونات الرئيسة لثقافة الإسباني وشخصتيه، سواء في تأثيراته الحاضرة في الفنون والآداب، أو في ثقافة الطعام والشراب والعادات والتقاليد وغيرها. فكان بذلك يُعيد بناء الهيكل الذي اجتهد الغرب العنصري في تشويهه واستبداله.
لم تكن كتابات العَلم الإسباني مبنية على هوى شخصي ولا على مخيّلة انتقائية. فهو سعى إلى التبحّر في الموضوع وملاحقة حقائقه في خضم أحداث التاريخ. أبرزَ وقائع التفوّق الأندلسي الذي حققه العرب بعد الحاكم الأموي عبد الرحمن الداخل، مما دفع ملوك أوروبا وأمراءها ونبلاءها في القرن العاشر وما بعده، إلى إيفاد أولادهم إلى تلك الرقعة العربية المُشرقة، لاكتساب العلم والحضارة في الجامعات الأندلسية المتفوّقة، يحملون المال ورسائل الاسترحام لقبولهم كطلاب علم ومعرفة، بعيداً عن ظلمات أوروبا التي كانت تعيش الجهل والتخلف في تلك المرحلة السوداء من تاريخ القارة.
عن مؤلفه "على حدود المقدمات: رؤية ما هو عربي بعيون أخرى"، قال دارسوه وناقدوه إنه كان أكثر من مجرّد كتاب من تلك التي يكتبها وينشرها مؤلفوها، بل كان "كتاب كُتب" كما وصفه الكاتب نفسه، تضمّن حوالى 51 مقالة أَنجَزَها ‏البروفسور مونتابيث على امتداد 45 عاماً (من العام 1972 إلى العام 2017)، ‏هي عبارة عن مقدِّماتٍ ومُطارَحاتٍ ونُصوصٍ تقييميّة وتقويميّة وضعها عن كتب حررها آخرون، وهي متصلة مباشرة بمواد أخرى كثيرة مُختلفة في ما بينها ومتنوعة في آنٍ.
كان الكاتب مُهتمّاً بشكل خاص بأن يشير إلى التاريخ الذي كُتب فيه كل نصّ من النصوص التي وضع لها مقدّمات، ما يُسهم بفهم تلك النصوص بشكل أفضل. وهذا ما عمل على إثارة النقاش الذي ساهم في نشر الكتاب وجعله موضع اهتمام إضافي.

مستعربٌ وليس مستشرقاً
الواقع أن البحّاثة المستعرب عمل على تأليف العديد من الكتب والمقالات حول العالم العربي المعاصر، وآدابه وثقافته وتاريخه، مُجسّداً الماضي وعلى وجه الخصوص ليُجلي الغموض السلبي المقصود عن معنى تجربة الأندلس الحضارية المؤثرة.
في سياق مقدّمته لكتابه يقول: "...أستنتج أن تأمل الواقع والظواهر العربية والتفكر بشأنها- ولا سيما إذا تمّ ذلك من الخارج – يُشكّل عملاً مُرهقاً بقدر ما هو مُثير للشغف. فالهدف الذي يجري تأمله يبدو، في آنٍ واحد، مُظلماً ومُضيئاً... وهذا في نهاية المطاف عبارة عن تحدٍّ لا يمكن تلافيه... لذلك فهو يُقلق بقدر ما يَسُرّ".
في معرض آخر من مقدّمته يقول: "... تتعلّق هذه المادة بالأدب العربي المعاصر... وقد حملت بمعظمها نظرات داخلية أكثر أصالة وذات بُعد أعمق على المستويات الثلاثة: المادي والذهني والعاطفي، أتاحت لي أن أُميّزه بمزيد من الوضوح وأن أعرفه بشكل أوسع وأدق".
لذلك لم يكن مُستغرباً أن ينال الكتاب كل ذلك الاهتمام والنقاش، ما أعطى للنصوص قيمتها الحقيقية، ولمقدمات الكاتب موضوعيتها وأهميتها.
وفي موضع آخر ينوّه مونتابيث بجهود إبنته نتاليا في إعداد الطبعة الأولى من الكتاب، ولم يُهمل الإشارة إلى جهود "الأستاذة" التي شاركته بإنجاح مشروعه وهي تلميذته وزميلته كارمن رويث برافو.
كان يحلو له أن يُطلق على نفسه صفة المستعرب، لا المستشرق، نظراً لما أصاب الكلمة الأخيرة من تشوهات على يد بعض المستشرقين الذي لم ينصفوا الثقافة العربية ورموزها، بنظرتهم الاستعمارية التي كان يرفضها.
تبحّره في الفكر العربي أنتج العديد من المؤلفات والكثير من المختارات، وأنجز ترجمات ثمينة لأعمال العديد من طليعة الشعراء العرب، منهم أدونيس ونزار قباني وجبران والسيّاب والبياتي وفدوى طوقان ومحمود درويش وسعدي يوسف وصلاح عبد الصبور. كذلك ساهم في تقديم العديد من القامات العربية إلى الناطقين بالإسبانية من خلال اهتمامه بترجمة عدد من أبرز أعمالهم، مُستفيداً من صداقات وثيقة جمعته مع العديدين منهم أمثال نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وصلاح عبد الصبور، ويوسف إدريس وآخرين.
بهذا تكرّس مونتابيث كأحد أبرز دارسي التراث الأندلسي وكلاسيكيات الأدب العربي، ما جعل منه علماً فكرياً وثقافياً بارزاً، وجسر وصل بين حضارة العرب والعالم.
بفضل مؤلفاته والمقالات العديدة التي نشرها، ولاسيّما منها كتابان من أبرز مؤلفاته هما: "أوروبا الإسلامية – سحرُ حضارة ألفية" و"الأندلس - الدلالة والرمزية". وبجهده الفكري والكتابي استطاع أن يعيد الدراسات العربية في إسبانيا من العصور الوسطى إلى الزمن الحاضر.

مونتابيث العروبي
لم يكن المستعرب الإسباني من أصل عربي، لكن اهتمامه بالفكر والأدب والتاريخ جعله في بواكير عمره ينتقل إلى مصر للعمل بعد تخرجه. هناك وسّع آفاقه ومعارفه باللغة والتاريخ العربيين، وعاش مرحلة نهوض القومية العربية في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، أمام تحديات العصر آنذاك. عمل أستاذاً في جامعة عين شمس وجامعة القاهرة، ثم، في مرحلة لاحقة، أستاذاً في جامعة كومبلوتنسي بمدريد، بالإضافة إلى كونه رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة إشبيلية وجامعة مدريد المستقلة. وكانت جهوده بارزة في ربط المستعربين الإسبان بأمثالهم في أميركا اللاتينية، وبالمتخصصين العرب باللغة وبالثقافة الإسبانيتين، وصار رئيساً لجمعية أصدقاء الشعب الفلسطيني، ولجمعية الصداقة الإسبانية العربية، والجمعية الإسبانية للدراسات العربية، وعضواً فخرياً في دائرة الثقافات الإسبانية والعربية، وحصل على درجة الدكتوراه الفخرية من قبل ثلاث جامعات: جيان وأليكانتي وغرناطة، وعُيّن في العام 1996، عضواً في "المحكمة الدولية للجرائم ضدّ الإنسانية" التي ارتكبت في العراق، والجمعية الإسبانية للدراسات العربية.
حصل على جوائز عدة، منها جائزة التضامن مع العالم العربي التي تمنحها جمعية الصحافيين العرب في إسبانيا، وجائزة "القدس" من الجمعية الإسبانية الفلسطينية.
أطل على القضية الفلسطينية من باب المُتقصّي والمتابع اليَقِظ بفضل تجربة خاضها خلال حوالى نصف قرن مع اللغة والثقافة العربيتين، فوقف على حقيقة النضال الفلسطيني في سبيل استعادة الوطنه والأرض وأعلن مبكراً مساندته للفلسطينيين والعرب، ووقوفه إلى جانب كل شعب يقتله العنف. أعلن نفسه "مناضلاً من أجل العدالة" ورأى أن الفلسطينيين "هم أصحاب حقّ واضح وضوح الشمس، وهم مظلومون جدّاً، وبقاؤهم تحت الاحتلال الصهيوني الهمجي إلى حدِّ الآن هو وصمة عار على جبين البشرية. فقد استغل المشروع الصهيوني الدين لأبعاد سياسية، وكان استغلالاً قذراً".
وفي لفتة ذكية تعبّر عن بصيرة نافذة، رأى مونتابيث أن "اللغة والثقافة العربيتين بكل ما تحملانه من قيم وتراث، تُمثلان حقيقةً الحصن الوحيد المتبقي للعرب، وأن على العرب جميعاً أن يحافظوا بجدية ووعي وتحدٍ على هذا الحصن، وأن يحموه من الذوبان والانهيار، إذ أنّ انهياره يعني انهيارهم".
وسط معركته الفكرية كمناضل من أجل العدالة، طرح تساؤله الذكي عن الجوهري في الأمر فقال: "كيف يكافح العرب النفوذ الإعلامي الخاطئ...؟ لا يوجد حل سحري آخر سوى ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية. (...) لهذا قلت في نفسي إنه من واجبي أن أقوم بتعريف العالم العربي للقراء الغربيين، فتركتُ الدراسات التاريخية والعصور الوسطى، ودخلت الحاضر.. أي ترجمة الأدب العربي المعاصر".

ثورة ثقافية
شكّل مونتابيث بأبحاثه وإضاءاته، ثورة ثقافية كبيرة وفاعلة في المفاهيم، نجحت إلى حدٍ بعيد في تقديم الحقيقة من دون غايات. قال إن "الأندلس ليست مجرّد قصر صارخ الجمال، ولا مرحلة تاريخية عابرة، بل هي في الواقع جوهرة حقيقية نادرة في تاريخ التعايش الإنساني الحضاري". وأضاف بجرأة غير مسبوقة في الغرب: "لا أعتقد أن أوروبا أو حتى العالم الواسع عرف فترة مثل فترة العرب في الأندلس، إذ لم يدوِّن التاريخ البشري زمناً يزيد على الأربعمائة عام كان يعيش فيه المسلمون والمسيحيون واليهود بهذا التوافق والانسجام والاستقرار العميق".
بناء على هذه الرؤية وضع لمفهوم الاستعراب خطوطاً جديدة واضحة مُعتبراً إياه "نتيجة مثمرة للتعايش بين العرب والأمم الأخرى على مدار التاريخ، في ظل الحكم العربي الإسلامي الذي مثّل حاضنة لمختلف المكوّنات الاجتماعية والتيارات الفكرية خلال حقب تاريخية ماضية"، حيث أصبحت آراؤه اصطلاحاً ومدرسة، ومعلماً في تقصّي ودراسة علوم اللغة العربية.
وعلى مستوى الحالة الثقافية والاجتماعية في بلده، إسبانيا، سجّل مونتابيث خطوة واسعة إلى المستقبل حين اعتبر أن "التراث العربي والإسلامي هو أحد أبرز المكوّنات الرئيسة للثقافة الإسبانية ولشخصية المواطن الإسباني حتى اليوم...". وهذا فتحٌ لم يسبقه إليه أحد في أسبانيا وفي العالم. قال إن "إسبانيا ما كان لها أن تدخل التاريخ الحضاري لولا القرون التي عاشتها في ظل الإسلام، وكانت باعثة النور والثقافة إلى الأقطار الأوروبية المجاورة".
قام بكل ذلك الجهد باندفاع علمي وبحصافة أكاديمية في وقتٍ غرق فيه "مفكرون" ومستعربون ومستشرقون كُثُرٌ في نكران هذه الحقيقة وطمسها، متجاهلين فضل الحضارة العربية الأندلسية، وذلك "لأسباب أيديولوجية معروفة (كما قال). ورأى أن "هؤلاء كانوا يشتغلون في مجال الاستعراب لأغراض مضادة فوقية وعنصرية (...) كذلك كانت الدولة في الغرب ومعها الكنيسة في الغالب تعملان على طمس كل ما له علاقة بالتراث الإسلامي".

خاتمة
غاص البروفسور بيدرو مارتينيث مونتابيث ىعميقاً في دراساته الاستشراقية، من دون أن يقع في القوالب النمطية السائدة، فقدَّم نموذجاً مُشرقاً لفهم العالم العربي والإسلامي، وأزال الغشاوة عن عيون الغرب في رؤية تراث العرب من خلال اكتشافه وإضاءته على الثروة الهائلة الكامنة فيه. وكان يفضّل الحديث باللغة العربية التي تعلّمها وصقلها في تطوان والقاهرة وبغداد.
لا شك أنه كان أحد أبرز المستعربين الإسبان ممن امتلكوا سلطة نقدية وأدبية باهرة، وتميَّز بمسيرة علمية باهرة في ترجمة الشعر العربي الحديث إلى الإسبانية، ففتح عيون الغرب على الواقع المعاصر لعالم عربي معقد وحيوي، وقدم تحليلاته العميقة، لا كمستشرق، بل كمستعرب يبحث عن الحقائق التي تُخفيها الشائعات والأفكار العدائية المُسبقة، فأبرز الثروة الهائلة التي قدمها العرب في الأندلس خلال فترة الحكم العربي لإسبانيا.
لعل وعمل على ربط المستعربين الإسبان والمستعربين في أميركا اللاتينية بالمتخصصين العرب باللغة وبالثقافة الإسبانية
كما حصل على وسام الأندلس في عام 2008، وفي عام 2014 حصل على جائزة من اتحاد الكتاب الفلسطينيين
دوره الرائد كان يكمن في بناء جسور التواصل بين الثقافتين العربية والإسبانية،
لعل دوره الرائد كان يكمن في بناء جسور التواصل بين الثقافتين العربية والإسبانية، فعمل على ربط المستعربين الإسبان والمستعربين في أميركا اللاتينية بالمتخصصين العرب باللغة وبالثقافة الإسبانية،
فكان أشهر مستعرب قدم صورة إيجابية عن العرب والمسلمين.
بيدرو مارتينيث مونتابيث.. مستعرب ومؤرخ ومفكر إسباني رحل عن عالمنا عن عمر ناهز الـ90 عامًا، ويعد أحد أبرز الكتاب الذين قدموا صورة إيجابية عن العرب والمسلمين..
عقب تجربة خاضها خلال خمسين عامًا مع اللغة والثقافة العربيتين عبر ترجمته أهم الشعراء المعاصرين وقراءته الأدب العربي الحديث، أكد مارتينث مونتابيث ووقوفه الحقيقي مع القضية الفلسطينية ومع كل شعب يقتله العنف، وأضاف أن اللغة العربية والثقافة العربية بكل ما تحملانه هما حقيقة يُمثلان الحصن الوحيد المتبقي للعرب، وعليهم أن يحافظوا بجدية ووعي وتحد على هذا الحصن وأن يحموه من الذوبان والانهيار، لأنه يعني وقتئذ انهيارهم
أحد ابرز دارسي التراث العربي والأندلسي وكلاسيكيات الأدب العالمي المخطوطة بلغة الضاد التي أتقنها وتبحّر فيها، ما جعل منه علماً فكرياً وثقافياً بارزاً، وجسر وصل بين حضارة العرب والعالم.