"تعويذة نيسان": بحثاً عن جنةٍ اسمها الحرية
تلتقي المرأتان مصادفة وتتفقان على مراسلة صاحب الإعلان في الصحيفة بغية استئجار القلعة.
إليزابيث فون أرنيم (1866-1941) كاتبة إنكليزية أرستقراطية، عُرفت بكتابتها للسيرة الذاتية ونشرت إحدى رواياتها تحت اسم مستعار، تزوجت من فرانك راسل الأخ الأكبر للفيلسوف برتراند راسل. ويحكى عن حياة قلقة عاشتها معه حتى أن أكثر رواياتها سوداوية مستوحاة من زواجها منه. وتعد روايتها "تعويذة نيسان" أكثر نصوصها تفرداً وحماسة، وهو ما فتح لها الباب على عالم المسرح والسينما. صدرت الرواية بترجمتها العربية عن دار فواصل (2022) بترجمة نسرين زريق. ومن خلالها تبحث الكاتبة في الحدود التي يصنعها البشر حول بعضهم، وفي تلك الحواجز التي تعزلهم ضمن جماعاتهم، وتقصيهم إلى وهمٍ تحكّمَ بمصائرهم زمناً طويلاً. إذاً هي روايةٌ عن المعزولين داخل ذواتهم؛ تلك العزلة التي جعلت من فرصة التلاقي مع الآخر ركيزة أساسية لنص يقوم في أساسه على نقد الآخر وعدم الاعتراف به.
قد تبدو الرواية مثل دعوة صريحة نحو إلغاء الحدود، والخروج من دائرة الذات المنغلقة على نفسها. إلا أنها في سياق آخر، تبحث عبر بطلاتها الأربع في أثر المكان ودوره في كشف الكامن والمخبوء، إلى جانب توظيفه في توطين الفطرة وإبراز الرغبات الدفينة.
نُشرت الرواية أول مرة عام 1922، وهي حكاية أربع نساء جمعتهن الأقدار لاستئجار قلعةٍ تعود إلى القرون الوسطى في إيطاليا. تكون النسوة غريباتٍ عن بعضهن في بداية الرواية، إلا أننا ندرك أن لكلّ منهنّ أسبابها لقضاء العطلة بعيداً على شواطئ الريفيرا. وهناك وسط أشعة الشمس والزهور يبدو أن لكلٍّ فرصتها للعثور على السعادة، أو التقاط جنتها الخاصة: "خلعت عنها كل طيبتها وتركتها وراءها ككومة ملابس بللها المطر، ووحدها السعادة غمرتها..".
للبطلات الأربع شخصيات مختلفة بظروفٍ متنافرةٍ. إذ تبدأ فكرة استئجار القلعة عبر لوتي ويلكينز المقيمة في هامبستيد، والضجِرة من سلطة زوجها على حياتها. تحيا المرأة شبه استماتة للخروج من عالمها وإن كان بصورة مؤقتة. ذلك الخوف والحذر في الابتعاد عن زوجها ميلليش، يواجهه سيلٌ من الطمأنينة والهدوء في شخصية مرافقتِها روز أرباثنت. تلتقي المرأتان مصادفة وتتفقان على مراسلة صاحب الإعلان في الصحيفة بغية استئجار القلعة، نقرأ هنا عن حياة روز القائمة على التطوع لمساعدة الآخرين هرباً من زوجٍ انهمك في حياته المهنية وبالكاد يذكرها. بينما يبدو الإعلان الذي تقع عليه لوتي مصادفة مثل فرصة للنجاة، ويكون له أثرُ الصاعقة على عالمها، ذلك أن شرارة توقد في داخلها الرغبة بالابتعاد؛ ماذا لو اختارت الرحيل؟ وماذا لو تصرفت بمدخراتها كما تشاء؟
لكن الأجر المرتفع للقلعة والمسافة البعيدة إلى جانب الخوف من اتخاذ القرار بشكل فردي يدفعها للبحث عن شركاء. ربما لتقاسم الأجرة، إلا أن المضمر قد يُفصِح عن الرغبة بتقاسم الإثم، أو مشاركة أحدهم الشعور بالذنب من سابقةٍ لا ترغبُ بفعلها وحيدة. هكذا تقع المصادفة على روز. وتدرس المرأتان كل منهما الأخرى بحذر، فروز تحيا حياة ورِعةً يصوغها حب لا مشروط إزاء العالم. هكذا تنظر إليها لوتي حذرة ومتوجسة كما لو أنها من عالم آخر. للوهلة الأولى ترفض روز الخروج من دائرة المعتاد، وتبدي تمنعاً إزاء الخروج عما كان مألوفاً في حياتها. إلا أن إصرار لوتي يذكّرها بحياتها ويحيي فيها التمعن إلى حياةٍ هجرها الزوج "فريديريك".
تشغل فكرة الهروب والاختفاء المرأتين ليبدو الرحيل فرصة لمعرفة ما سيحدث بعد الغياب عن عالمٍ أشاح بوجهه عنهما. هكذا مدفوعتان للبحث عن شركاء لتقاسم الأجرة وصوغ إعلانٍ آخر تقع عليه كل من السيدة "فيشر" العجوز الارستقراطية، والصبية الجميلة ذائعة الصيت "الليدي كارولين".
"كانوا أشياء عتيقةً يكسوها الغبار..."
يلعب جمال الريفييرا مع قدوم شهر نيسان دوراً في التأثير على عوالم الحكاية، إذ تضمر الأمكنة التأثير في وعي البطلات وإدراكهن العالمَ مثلما يؤثر في إدراكهنّ صعوبة حيواتهن السابقة.
تشغل المساحات الشاسعة والسماء البعيدة حيزاً لتحريك المشاعر والـتأثير في تفاعلهن مع بعضهن. فكل منهن رحلت لتبحث عن سعادتها الذاتية، ذلك أن لوتي الهاربة من سلطة زوجها تحيا أول مرة فرصة العيش بحرية، وروز التي تعيش في منزلها كظلّ تكتشف العالم بعيداً عن مشاعر الهجران، بينما تبدو الليدي كارولين المعروفة باسم "سكراب" تشعر بالملل إزاء حياتها وتريد أن تُترَكَ وشأنها، في وقت تمضي فيه السيدة فيشر وقتها في النظر إلى الأفق وإطلاق الأحكام واسترجاع ذكريات الماضي.
تبدو النسوة مثيرات للاهتمام ويعشن عقداً يحللها التلاقي ومع مرور الوقت الذي يقضونه في القلعة، ندرك تعاسة كارولين، ويأس فيشر، وجموح لوتي فيما تبدو روز عصية على التغيّر.
نلتقط عبر محاوراتهن حقيقة مشاعرهن الهشة، ربما كانت خوفاً، إلا أنه حصيلة لما جعلهن عصيّاتٍ على الحياة كما شئنَ. من القلعة الغارقة بسحرها وبشعرية عالية، تمسي كل بطلة كائناً مرتبطاً بالجبال والمياه والنسائم. تزدهر أحلامهن إزاء الحياة من جديد، كما لو أنها ولادة جديدة، بصورة تذكرنا بشعرية غاستون باشلار إزاء المكان والبيت حين وصفه: "تلك النبتة الحجرية الهائلة- البيت- هنا أحلامنا تتخذ أبعاداً لا نهائية..". إذاً يصبح للمكان تأثير في إعادة الخلق، إلا أننا لا ننكر تلك العداوة التي كان لها أن تنمو في الخفاء، فالصرامة التي تبديها السيدة فيشر إزاء لوتي الجامحة تكشف عن الكيفية التي حولت أربعتهنّ إلى نسوة غريباتٍ عن اللواتي عشن في هامبستيد. وعلى الرغم من التنافرات الخفية بينهن، إلا أن كل ما يحدث يكتنفه الصمت، فالطبيعة والابتعاد عن المكان الذي حجّم ذواتهن أعاد تشكيلهنّ بما يشبه إعادة التأهيل. يتضح ذلك جلّياً من خلال الصعوبة التي تقبلت إحداهما الأخرى، وفي الأحكام التي أضمَرنَها لبعضهن. إلا أن القدرة العجائبية للمكان كان لها أثرها في شفائهنّ، هكذا حتى يحضر الرجال، تنقلب الأحوال، إذ لا صراع كان دائراً بين طرف وآخر ما خلا بين كلّ امرأةٍ ونفسها، وما صراعها مع الزوج والأخريات سوى أثر من آثار العزلة التي أحاطت عوالمهنّ.
وما حضور تلك الدراما المؤلمة في نفوسهن سوى بتأثير عُمرٍ عشنَهُ خلف الأبواب الموصدة: "كان سعيداً خلال تلك السنوات، لأنها لم تكن جزءاً منه كي يكون تعيساً، بالإضافة إلى المزايا التي منحتها الحياة له وكم عدد الأصدقاء والنجاحات والنساء اللاتي يرغبن في مساعدته فحسب على محو صورة الزوجة الصغيرة المتغيرة والمتحجرة والمثيرة للشفقة والجالسة في المنزل، الزوجة التي تفزعها كتبه ولا ترغب في إنفاق ماله، كان يبتعد وتبتعد عنه، وكانت، إذا حاول أن يصارحها بمشاعره تسألهُ بعنادٍ صبورٍ كيف كان الله ينظر إلى الأشياء التي يكتبها ويعتاش منها".