قراءة في كتاب “مراكز الفكر أدمغة حرب الأفكار”
| بقلم صلاح الدين ياسين

كتاب من تأليف ستيفن بوشيه ومارتين رويو، صدرت الطبعة العربية الأولى من الكتاب في العام 2009 عن دار الفارابي، ترجمه إلى لغة الضاد ماجد كنج. تنصرف مضامين المؤلف موضوع المراجعة إلى إضاءة موضوع مراكز الفكر أو البحث، والتي ليس يخفى بأنها تنهض بأدوار وظيفية على صعيد القضايا المحلية والرهانات الجيوسياسية للدول. ومن ثم فقد وقفت هذه الدراسة على الخطوط العريضة للمراكز إياها فيما يهم تعريفها، ورصد أهم الخواص التي تجعلها متفردة قياسا إلى الهيئات القريبة منها (الجامعات، مكاتب الاستشارات… إلخ)، وصولا إلى مساءلة طاقتها على الفعل والتأثير في السياسة العامة:

ماهية مراكز الفكر

يعرف الكاتب مركز الفكر أو البحث بأنه “هيئة دائمة، متخصصة بإنتاج حلول للسياسة العامة، ذلك بفضل طاقم متخصص متفرغ للبحث، يؤمن ناتجا أصيلا ومبدعا من التفكير والتحليل والنصح، رسالته موجهة إلى الحكام والرأي العام، يسعى بشكل عام للإبقاء على استقلاليته الثقافية، أكثر قربا من الخير العام مقارنة بالهيئات التي هدفها التجارة والربح فقط”.

وهكذا تنطوي تلك المراكز على أهمية بالغة لجهة إرشاد صناع القرار وإيجاد حلول خلاقة للقضايا الشائكة، وهو ما يستعصي على الساسة الاضطلاع به لوحدهم بحكم انهمامهم بالتدبير اليومي الروتيني، وهاجس الرهانات الانتخابية الضاغطة. وعليه، تنشأ مراكز الفكر غالبًا في أعقاب الأزمات الكبرى وعجز القادة عن التعاطي الجدي معها (الحرب العالمية الثانية، الأزمة النفطية… إلخ). كما أنها أمست فاعلا أساسيا في سياق العولمة وما رافقها من تقلص نفوذ الدول على حركة تداول الأفكار، ولعل أهميتها تعاظمت أيضا في ضوء رهانات الثورة المعرفية والتنافس الدولي على ابتكار الأفكار.

على أن ما سبق لا يفيد البتة بأن ثمة تماه بين مراكز الفكر، بقدر ما أن الأخيرة تعبر عن ميول واتجاهات متنوعة، فبعضها تكتسي طابعا عموميا من حيث شمولية المواضيع والقضايا التي تلامسها، في حين نلفي مراكز أخرى متخصصة في مجال بحثي معين. وإجمالا في الوسع التمييز بين مراكز البحث تبعا للتصنيف التالي الذي اعتمده المؤلف: مراكز فكر جامعية تتألف من أكاديميين تركز على نوعية البحث الجامعي، مراكز الدفاع التي لا يعنيها البحث عن أجود السياسات بقدر ما يهمها الخروج منتصرة في حرب الأفكار من خلال الذود عن قضية معينة ونصرتها (مثلا مراكز الفكر التي تروج لإيديولوجيا السوق الحرة)، مؤسسات البحث بالتعاقد التي تمول من عقود توقعها مع وكالات حكومية أو مصالح خاصة، مراكز فكر تابعة للأحزاب السياسية.

ما الذي يميز مراكز الفكر؟

تمتاز مراكز الفكر بتمتعها بالحد الأدنى من الاستقلالية الفكرية، والمقصود هنا حرية تحديد أجندة ومواضيع البحث دون إملاءات من جهات أخرى، هذا بالإضافة إلى أنها تشكل حلقة وصل بين شتى الحقول والفروع المعرفية، ومن هناوجوبتفتحها علىتخصصات أخرى (التاريخ، الفلسفة، الأنثروبولجيا… إلخ) عوض الاقتصار على علماء السياسة والاقتصاد، ذلك أن تنويع مشارب طاقم التفكير والبحث من شأنه أن ينعكس بالإيجاب على نوعية وموضوعية بحوثها.

على أن مراكز الفكر تتسم – في المقام الأول – بالمقدرة على التفكير الاستراتيجي الطويل الأمد، خلافا لوسائل الإعلام المشدودة في الغالب إلى زخم الأحداث اليومية العابرة، بيد أن ذلك لا يعدم قدرتها (= مراكز الفكر) على رصد وتلقف الأحداث وتلبية متطلبات السياسة العامة، تلافيا للوقوع في مصيدة التجريد والانعزال عن الواقع. كما يلح مؤلفا الكتاب على وجوب إقرار توازن بين التمويل العام (الحكومي) والتمويل الخاص ضمانا لاستقلاليتها، وتحاشي مصير مراكز الفكر الأمريكية حيث التبعية السافرة للشركات الاقتصادية الكبرى. وفيما يخص علاقتها بالديمقراطية، فلا يخفى دورها الإيجابي في مضمار دمقرطة النقاش العمومي بدل مركزته في دوائر نخبوية ضيقة، إلا أنها تضر بالديمقراطية والمصلحة العامة حين تمسي مجرد أداة مطواعة ومنقادة لهيئات لا شاغل لها سوى الربح وتحقيق منفعتها الخاصة، إذ يتم في هذه الحالة التلاعب بالحقائق وتزييفها (من قبيل إنكار ظاهر التغير المناخي).

مراكز الفكر وسؤال التأثير

إن مراكز الفكر لا يكفي أن تكون منتجة لأفكار ذات رصانة وجودة كمقياس لتقييمها على نحو إيجابي، بمقدار ما يتعين عليها التأثير في صناع القرار والسياسات المعتمَدة. وكمثال على ذلك، يحيل الكتاب على واقع الجاذبية التي يحظى بها الفكر اليساري التقدمي في أوساط طلاب الجامعات الأمريكية، إلا أن مراكز الفكر اليمينية المحافظة يبقى لها النصيب الأكبر من السلطان والفعل في سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لا سيما في الشق الخارجي منها.
وترتيبا على ما سبق، لا مندوحة من تبني البساطة والوضوح لكي تجد بضاعة مراكز الفكر رواجا في أروقة ودهاليز الحكم، لذا نجدها في الأعم الأغلب تنشر دراسات قصيرة من حيث الحجم لا تُجاوز خمسين صفحة، موجهة إلى المسؤولين المستعجلين والمحكومين بإكراه الوقت. وهكذا، فإن قدرة تلك المراكز على التأثير مشروطةٌ بمدى تمكنها من وسائله وأدواته، من قبيل التواصل المباشر مع صناع القرار، والإكثار من الظهور في وسائل الإعلام، تنظيم حلقات وندوات تفاعلية للنقاش بشأن أبحاثها… إلخ.

كما ينبه الكتاب على حقيقة تفوق مراكز الفكر الأمريكية والبريطانية من حيث الوزن والتأثير على نظيراتها في الاتحاد الأوروبي عمومًا، وفرنسا على وجه الخصوص، وذلك مرده إلى عوامل ذاتية تهم مراكز البحث إياها، بالإضافة إلى عوامل موضوعية تقترن بطبيعة النسق السياسي الذي تنتظم تحته، والذي قد يكون مفتوحا بما يكفي كما في النظام الفيدرالي الأمريكي، الذي يعطي هامشا واسعا من الحركة للهيئات والمبادرات الخاصة، وحيث ما يُعرف بسياسة “الباب الدوار”، وتبادل المواقع بين عالم الفكر وعالم السياسة، في مقابل أنساق سياسية أخرى تشهد حضورا وازنا للدولة، بما هي مكمن المصلحة العامة على شاكلة النظام السياسي الفرنسي المشدود إلى أدبيات الفكر الجمهوري، حيث تقاليد الدولة اليعقوبية المركزية ما تزال متجذرة، بالرغم من أن ما سبق لا يلغي واقع توسع وتطور مراكز الفكر خارج معاقلها الكلاسيكية في السنوات الأخيرة، وإنْ بدرجات متفاوتة.