مجمع من الغرف ولوحات مسيحية ونقوش بالإغريقية والنوبية.. كشف أثري لبعثة بولندية بشمال السودان
لوحة مسيحية للملك داود (أدريان شليبوفسكي، جامعة وارسو)
حضارة إثر حضارة شهدتها مدينة "دنقلا العجوز" على الضفة الشرقية لنهر النيل في الولاية الشمالية بالسودان. حضارة فرعونية ثم مملكة مسيحية وفترة إسلامية كانت فيها المدينة مركزا حضريا مهما، كل ذلك جعل المنطقة مليئة بالآثار وحقلا استكشافيا لا ينضب، وكان آخر هذه الاكتشافات مجمع غامض من الغرف المصنوعة من الطوب الأخضر، اكتشفته بعثة أثرية بولندية.
مدينة وأكثر من حضارة
وتعدّ مدينة دنقلا العجوز من أهم المراكز السياسية والإدارية والدينية التي قامت في السودان، وأسهمت بنصيب وافر في التطور الحضاري الذي حدث في السودان آنذاك، مما جعلها منطقة غنية بآثار حقب مختلفة.
وفي ذلك يرجع أستاذ الآثار الدكتور أحمد حسين عبد الرحمن السبب لموقع المدينة "الذي كان له دور مهم عبر التاريخ حيث مثلت نقطة التقاء تبلورت فيها تيارات حضارية وثقافية مختلفة، وأصبحت حلقة وصل تربط مدنا مختلفة من بلاد النوبة. ومنذ أواخر فترة مروي (350 ق.م -325 م) وما أعقبها، أثبتت الدراسات الآثارية المختلفة التتابع الثقافي والحضاري لهذه المنطقة".
تلا تلك الفترة تدفق مجموعات مسيحية تبشيرية كبيرة من مصر وغيرها إلى الممالك النوبية الثلاث التي ظهرت في أعقاب الفترة المروية، فصارت المسيحية دينا رسميا لهذه الممالك، كما أصبحت معلما بارزا في تاريخ البلاد.
ويضيف الدكتور عبد الرحمن، في إفادته للجزيرة نت، "خلفت هذه المنطقة آثارا مادية ضخمة تمثلت في المعمار الديني والمدني والصناعات والحرف وغيرها، لتصير من أبرز سمات هذه الفترة، وصارت دنقلا العجوز أهم المدن والمراكز الحضرية، بجانب كونها عاصمة للمملكة المتحدة (نوباتيا والمقرة) والتي سميت أيضا بمملكة دنقلا".
البولنديون.. تعاون قديم واكتشافات حديثة
للبعثات الأثرية البولندية تاريخ قديم من العمل في السودان يرجع إلى فترة إنقاذ آثار النوبة، بحسب إفادة كبير مفتشي الآثار بقسم الكشف الأثري بالهيئة القومية للآثار والمتاحف الدكتورة حباب إدريس أحمد.
وتقول حباب إن البعثة البولندية من البعثات التي عملت في موقع دنقلا العجوز عاصمة دولة المقرة وواحدة من الممالك المسيحية الكبيرة جدا في السودان، ومنذ بداية عملها في العام 1964 تم الكشف عن كثير من المباني التي تعود للفترات المسيحية مثل الدير والكنيسة الملكية وعدد من الوحدات.
لكن حباب تتوقف عند إسهام عظيم للبولنديين، وتقول للجزيرة نت "من أعظم المساهمات إنقاذ العديد من الكنائس وأشهرها كنيسة فرس ذات الجداريات المتميزة والمعروضة في متحف السودان القومي وفي وارسو كذلك".
هذا وتعمل البعثة البولندية في أكثر من مشروع بدنقلا العجوز ومنها مشروع "أمه"، وتوضح الدكتورة حباب إدريس أن المشروع مختص بدراسة المدن بالتركيز على المباني التي تتبع فترة الفونج (بين القرنين الـ16 والـ19)، وتقول إن "البعثة الحالية لها 5 سنوات في مشروع للتحولات الحضرية لمجتمع عاصمة أفريقية من القرون الوسطى"، والغرض منه معرفة كيف تم التحوّل من الفترة المسيحية إلى الفترة الإسلامية، ويموّل المشروع مجلس البحوث الأوروبي، ويقود الدكتور هاب أرتور أوبلسكي فريقا من المركز البولندي لآثار البحر الأبيض المتوسط بجامعة وارسو.
حفرة بين فترتين واكتشاف مدهش
بحسب الموقع الرسمي للمركز البولندي لآثار البحر الأبيض المتوسط بجامعة وارسو، فقد قادت الصدفة عالم الآثار الدكتور لورنزو دي ليليس والدكتور ماسيج ويوغو نحو مجمع غامض من الغرف المصنوعة من الطوب الأخضر، غُطيت مساحاتها الداخلية بمشاهد تصويرية فريدة من نوعها للفن المسيحي، وذلك أثناء استكشاف منازل يعود تاريخها إلى فترة الفونج.
وتقول حباب إدريس "كان البحث مخصصا لمبنى يتبع للفترة الإسلامية، لكن الباحثين لاحظوا وجود ملامح لحفرة قادت لاكتشاف قبو، ثم كان الاكتشاف المتمثل في غرف بها رسومات جدارية ملونة تظهر السيدة مريم العذراء ومعها ملك نوبي والملاك ميكايل المختص بحماية الملوك".
أعمال ترميم اللوحات الجدارية (جامعة وارسو)
الحفرة التي نقلت بعثة الكشف من فترة الفونج (الفترة الإسلامية) إلى الفترة السابقة لها (الفترة المسيحية)، تأتي في سياق طبيعي لمدينة اعتادت أن تكون مركز ثقل حضاريا ومرت بفترة تحولات كبيرة، وهذا من أهم أغراض المشروع. ويعد اكتشاف مجمع من عدد من الغرف بجداريات ملونة ورسومات تزيّنه في عمق غير متوقع من الاكتشافات المهمة، وتتضاعف أهمية الكشف بما حوته الرسومات والنقوش المصاحبة.
رسم مغاير ونقوش مصاحبة
الجداريات أظهرت السيدة مريم العذراء ومعها ملك نوبي والملاك ميكايل المختص بحماية الملوك، لكن المميز أن المشهد المصور ليس من المشاهد المألوفة، إذ يصور الرسم الملك وهو مائل في اتجاه السيد المسيح الجالس بين السحاب وكأنه يقبل يده.
وتعلق حباب إدريس على المشهد بقولها "الرسومات تظهر حركية غير مألوفة في الفن النوبي المسيحي"، وهذا ما ذكرته البعثة على موقعها الإلكتروني، كما أشارت إلى أن رسم السيدة مريم العذراء الموجود على الجدار الشمالي للغرفة "لا ينتمي إلى الطريقة النمطية لرسوم مريم في الفن النوبي، والتي تظهر في وقفة مبجلة، ترتدي أردية داكنة، وتحمل في يديها صليبا وكتابا".
والرسوم المغايرة للطريقة المعتادة في الفن المسيحي النوبي ذي الخصوصية في كثير من التفاصيل، صحبتها نقوش باللغتين الإغريقية والنوبية.
أعمال ترميم اللوحات الجدارية (ماجدلينا شكارزينكسا، جامعة وارسو)
وعثرت البعثة البولندية على عدة إشارات لملك اسمه داود، وبحسب ما نشرته البعثة في موقعها "في النقش دعاء إلى الله لحماية المدينة. وربما تكون المدينة المذكورة في النقش هي دنقلا، ومن المرجح أن الملك داود هو الشخصية الملكية التي صورت في المشهد. وكان داود من آخر حكام الفترة المسيحية، وكان حكمه بداية نهاية المملكة. ولأسباب غير معروفة، هاجم الملك داود مصر، التي ردت بغزو النوبة، ربما تكون اللوحة قد رُسمت مع اقتراب جيش من المدينة أو أنها كانت تحاصرها بالفعل".
ما بعد الكشف
تم ترميم الاكتشاف والقيام ببعض الإجراءات الوقائية بواسطة فريق عمل من المركز البولندي لآثار البحر الأبيض المتوسط بجامعة وارسو، وقسم حفظ وترميم الأعمال الفنية بأكاديمية الفنون الجميلة في وارسو بقيادة المتخصصة ماجدلينا شكارزينكسا، ولأن الكشف حدث في ختام موسم كشفي كان لا بد من إجراءات ترميمية وأخرى وقائية إلى حين عودة البعثة وإجراء دراسات مستضيفة وبحوث قد تكشف بعض الألغاز، بحسب وصف البعثة، المتمثلة في اللغز الأكبر هو مجمع الغرف الذي وُجدت فيه اللوحات.
المساحات نفسها، المغطاة بالأقبية والقباب والمصنوعة من الطوب المجفف، صغيرة جدا، والغرفة ذات المشهد المرسوم الذي يظهر الملك داود تشبه سردابا، لكنها ترتفع 7 أمتار فوق مستوى سطح الأرض.
لوحة أيقونة مسيحية (جامعة وارسو)
وتختم حباب إدريس إفادتها للجزيرة نت بالقول "الكشف فريد ويضيف أهمية لمدينة استمر فيها الاستيطان البشري لأكثر من ألف عام وتضم العديد من الآثار، التي من أهمها مسجد دنقلا العجوز الذي يعد أقدم مسجد في السودان".
ومن المتوقع أن يقدم دكتور أرتور أبلوسكي سمنار "حلقة نقاش" عن نتائج الحفريات الأثرية للبعثة البولندية في آخر شهر أبريل/نيسان الجاري ريثما تعود البعثة إلى السودان في فصل الخريف المقبل.