كتاب روح القوانين لمونتسكيو

لقد رجع مونتسكيو في تأليفه لهذا الكتاب الى جانب محاوراته مع عدد لا يحصى من المفكرين الى عدد ضخم من المؤلفات نخص بالذكر من بينها كتابي الجمهورية والقوانين لأفلاطون، والسياسة لأرسطو والحيوات والأعمال الأخلاقية لبلوتارخس والأمير لميكيافيلي وكتاب المدينة الخيالية لطوماس مور.
وهذا الكتاب به مجمل تأملات مونتسكيو بأكملها اذ يقول المؤلف بعد ان انتهى من تأليفه [ انني أستطيع القول بأني استغرقت فيه حياتي كلها اذ عندما انتهيت من دراساتي القانونية وضعته وسط مؤلفات القانون فبدأت أبحث في تلك المؤلفات عن روح القانون، فأجهدت نفسي ولم أصنع شيئا ذا قيمة ومنذ عشرين عاما اكتشفت مبادئي وهي جد بسيطة. ولو أن مؤلفا غيري قام بنفس الجهد لخرج بانتاج أفضل ولكنني أعترف أن العمل في هذا الكتاب كاد يقتلني انني أريد أن استريح ولن أعمل شيئا بعد ذلك] .
ويقول استاروبنسكي معلقا على هذا القول ان حياة مونتسكيو السابقة على تأليف روح القوانين كانت موجهة نحو هذا العمل الذي كرس له كل جهوده والذي ملأ عليه حياته، فهو قد طبق قول المفكر والفيلسوف الانجليزي جون لوقه الذي قال [ ان الانسان يجب عليه أن يفقد نصف وقته لكي يستطيع أن يفيد من النصف الآخر] اذ قضى أوقاتا ثمينة في التردد على المنتديات والملاهي في الرحلات والمناقشات والحوار واستقاء المعلومات بالطريق الشفوي وعن طريق الرسائل وقام بكتابة القصص … كل ذلك كان يمثل نصف وقته الذي أضاعه لكي يفيد من النصف الآخر بتأليفه كتاب روح القوانين.
ولقد فقد مونتسكيو بصره كله تقريبا أثناء تأليف هذا الكتاب مما اضطره في النهاية الى املاء الأجزاء الأخيرة منه، مما يفسر علاجه لنفس الموضوع أحيانا في فصول متعددة قصيرة حتى لا يثقل على الكاتب الذي يسجل ما يملي عليه.
وكان كلما كتب جزءا أو فصلا عرضه على أصدقائه ولا سيما مادام دي لامبير التي استشارها في معظم أجزاء الكتاب، كما كان يستشير الوزير الأديب دارجنسون والأب جاسكو.
وأخيرا ظهر الكتاب كاملا في جنيف سنة 1748 في مجلدين من الحجم الكبير ثم في ثلاث مجلدات، وما أن ظهر روح القوانين حتى أحدث ضجة كبرى اجتاحت فرنسا من أقصاها الى أقصاها فانقسم الفلاسفة ورجال الفكر والدين بين مؤيدين لآرائه ومعارضين لها ولكن رجال الدين على اختلاف مذاهبهم نقدوا الكتاب نقدا مرا، ولأن ما ورد به من نظريات تتعلق بنشأة الفلسفة والدولة وأثر النظم السياسية والهيأة الطبيعية على نشأة الأديان وما تنادي به من نظم … كل تلك النقاط كانت – فيما يرى رجال الدين – تتعارض مع ما ورد في الكتاب المقدس، وأصدر رجال الدين الجدد بيانا اتهموا فيه منتسكيو بأنه من أصحاب الدين الطبيعي déisme الذين يؤمنون بوجود ذات عليا تدير الكون على أساس عقلي صرف بدون اعتقاد في التنزيل او الوحي أو الرسل وفي هذا يختلفون عن مبدأ التأليه والوحي théisme ولا نكاد نجد أديبا أو فيلسوفا في فرنسا الا وعلق على هذا الكتاب اما بالنقد الموضوعي أو بتحبيذ ما ورد به من آراء أو بالحملة عليه، مما اضطر مونتسكيو سنة 1750 الى اصدار رده على تلك الانتقادات في كتاب عنوانه [ دفاع عن روح القوانبن] كما كان المؤلف في كتابه الأصلي يتنبأ أحيانا بهذا النقد.
ولقد راقبت الكنيسة الكاثوليكية في روما كتاب روح القوانين بشيء كبير من الاعتدال، وفحصه علماء السربون بدون أن يصدروا حكمهم عليه رسميا. وأخذ ديبان الملتزم العام للضرائب في فرنسا في دحض ما ورد به من آراء اقتصادية. وفي سنة 1751 وضعت السلطات الدينية كتاب روح القوانين في القائمة السوداء للكتب المحرمة قراءتها.
ويحتوي الكتاب على تصدير يأتي بعده واحد وثلاثون بابا كل باب مقسم الى فصول بلغ تعدادها ستمائة وخمسة وقد وضع المؤلف لكتابه عنوانا طويلا يعطي للقارىء ملخصا لمل ورد فيه، فالنسخة الأصلية من الكتاب تحمل العنوان الآتي : [ في روح القوانين أو في الصلة التي يجب ان تربط القوانين بنظام الحكم في كل امة، وبتقاليدها ومناخها ودينها وتجارتها...] وفي التصدير يتوسل المؤلف الى القارىء ألا يتسرع في الحكم على الكتاب بناء على نظرة خاطفة لبعض ما ورد به : [ ان لي رجاء أخشى ألا يتحقق وهو ألا يحكم قارىء عابر على عمل استغرق عشرين عاما، وأن يقبل القارىء هذا المؤلف أو يرفضه جملة ولا يقتصر على قبول أو رفض عدة جمل، لأن النسان اذا أراد أن بفهم فكرة المؤلف فلن يستطيع الوصول اليها الا اذا فهم فكرة الكتب]
ثم يقول : [ لقد خبرت الناس أولا ووجدت في هذه الأشكال المتباينة، بشكل لا نهاية له، من العادات والقوانين أن الناس ليسوا مساقين بمحض أهوائهم. فوضعت المبادىء العامة لسلوك الناس ووجدت الحالات الفردية تخضع لها في يسر، كما وجدت أن تاريخ جميع الأمم ليس الا نتائج لتلك المبادىء العامة وأن كل قانون خاص مرتبط بقانون آخر أو يعتمد على قانون آخر أعم منه . ولما اتجهت لدراسة العصور القديمة بذلت الجهد في استخلاص روح مبادئها حتى لا يشكل على الأمر فأعتبر من قبيل المتشابهات حالات مختلفا بعضها عن بعض، وحتى لا تغيب عنها الفوارق الفاصلة بين حالات قد تبدو متشابهة، انني لم أستخلص مبادئي قط من آراء ظنية وانما من طبيعة الأشياء] .
وبعد التصدير تأتي الأجزاء الواحدة والثلاثون وهي التي ستقسم الى القسم النظري ويشمل الأبواب الثمانية الأولى والقسم العملي الذي يشمل من التاسع حتى السادس والعشرين ثم أخيرا قسم ما يسمى بمتفرقات من السابع والعشرين حتى التاسع والعشرين.
1 – القسم النظري من روح القوانين :
القوانين : يعالج المؤلف في هذا القسم موضوعات مجردة، ففي الجزء الأول يتكلم عن القوانين على وحه العموم فيقول : [ ان القوانين في أوسع معانيها عبارة عن علاقات ضرورية تشتق من طبيعة الأشياء، ولكل الموجودات قوانينها بهذا المعنى، فللآلهة قوانينها وللعالم المادي قوانينه وللعقول المتعالية على الانسان وللحيوانات قوانينها وللانسان قوانينه ].
القوانين أيا كان نوعها ليست الا علاقات بين قوى متفاعلة يؤثر بعضها في بعض، وهذه القوى على نوعين، فيزيائية ومعنوية أو أخلاقية فالطبيعة ومبادىء الحكومات والتعليم والضرائب والمناخ وعادات الأمة وتقاليدها وعادات السكان والدين السائد، كل تلك قوى تتفاعل والقوانين ليست شيئا آخر الا العلاقات التي تنتج عن ذلك التفاعل بشكل ضروري . ويحمل مونتسكيو حملة عشواء على الفلاسفة الذين أخضعوا القوانين والظواهر التي تسود العالم لقدرية عمياء، اذ كيف يمكن أن تتصور أن تخلق مثل هذه القدرية موجودات مفكرة.
وهناك اذن عقل مبدئي هو الله والقوانين عبارة عن العلاقات التي توجد بينه وبين الموجودات المختلفة فيما بينها، فعلاقة الله بالكون تتلخص في أنه خلقه وفق قواعد وضعها هو وهو يحفظه ويصونه وفق نفس القوانين التي خلقه بمقتضاها، والعالم المادي والحال هذه مسود بقوانين لا تتغير لأنها أساس وجوده واستمراره، أما الموجودات العاقلة فتخضع لنوعين من القوانين نوع طبيعي وهي القوانين التي تشتق من طبيعة تكوين تلك الموجودات مباشرة وهي تلك القوانين التي كانت تسود الانسان البدائي قبل تكوين المجتمعات لأن مونتسكيو كان يعتقد كأصحاب المذهب التعاقدي أن الانسان قبل تكوين المجتمعات قد مر بمرحلة طبيعية وكان في هذا متأثرا بهوبس ولون على وجه الخصوص ، ففي هذه المرحلة مثلا كان الخوف يسيطر على الانسان وكل انسان كان يشعر أنه أقل من الأخر وبذلك لم يكن بين الانسان وأخيه أية نزعات عدوانية، كما كان يسيطر على الانسان نزعة البحث عن الطعام والمحافظة على حياته والانجذاب الجنسي … كل تلك تمثل عينات من القوانين الطبيعية. ويبدو أن منتسكيو كان يقصد بالقوانين الطبيعية تقريبا ما نسميه اليوم الدوافع الغريزية. أما النوع الآخر فهو القوانين الوضعية التي يضعها الانسان لنفسه بعد تكوين المجتمعات، واذا كانت القوانين الطبيعية مفروضة على الانسان لأنه ليس مصدرها فان القوانين الوضعية لما كانت صادرة عنه فانها متبعثرة حسب ظروف كل مجتمع، وهذه القوانين على أنواع فمنها قانون الامم الذي ينظم العلاقة بين المجتمعات، والقانون السياسي الذي ينظم شؤون الحكم، والقانون المدني الذي ينظم علاقات الافراد بعضهم ببعض .. الخ. ولما كانت القوانين ليست شيئا آخر الا العلاقات التي تربط العقل الأول أو الله بالموجودات المختلفة وتربط الموجودات بعضها ببعض فان مؤلف روح القوانين يتلخص في البحث في العوامل التي تؤدي الى تغير هذه العلاقات سواء بين الخالق والمخلوقات أو بين المخلوقات بعضها ببعض من جماعة لأخرى ومن عصر لآخر.
ولقد بحث منتسكيو في فلسفة السابقين والمعاصرين فلم يجد حلا يشفي غلته فوجد خليطا من المذاهب والآراء كما وجد معظم المؤلفين ينظرون للموضوع من زاوية ضيقة بدون المام شامل به، فعلماء القانون القانون وعلى رأسهم الرئيس داجسو dageusseau الفرنسي يذهبون الى أن القوانين تصدر عن فكرة أو فلسفة خاصة لسلطة عليا متحكمة في المجتمع وشبعة بتلك الفكرة، والقانون الوضعي ليس في هذا المعنى الا تعبيرا عن ارادة الله، ذلك أن القانون قد صدر عن الحاكم الذي يتولى السلطة والذي يعد نظريا ممثلا لله في المجتمع، فهو قد اختاره لينوب عنه في حكمه وهو اذ يتصرف انما يعبر عن الارادة الالهية. مستهدفا من ذلك تحقيق أكبر نفع للمجتمع الذي ولي أمره وهو بعدمسؤول أمام الله عن تصرفاته وقريب من هذا ما ذهب اليه سبينوزا الفيلسوف الهولندي من أن العالم يسير بالقضاء والقدر وأن كل الظواهر فيزيقية كانت أن انسانية انما تعتمد على الارادة الالهية. ولم تكن مثل تلك التفسيرات لتروق في رأي منتسكيو الذي كان مشبعا بالروح العلمية فكان يبحث عن تفسير علمي لاختلاف القوانين. أي تفسير يقوم على منهج علمي يستند الى المشاهدة والتجربة والاستقراء، في حين أن هذه التفسيرات كانت تعتمد على أسس دينية ميتافيزيقية غامضة والى جانب هذه المذاهب الدينية وجد مونتسكسو فريقا من رجال السياسة والقانون يستندون الى أسس أخلاقية وذلك مثل جروسيوس وبفندورف وبارييراك، ويذهب هؤلاء الى أن فكرة العدل سابقة على كل قانون وضعي، فهناك نموذج من العدالة وهو نموذج مثالي يرجع اليه كل المشرعون في تشريعاتهم، وهذا النموذج المثالي ليس مصدره الانسان بل هو مفروض عليه وهو يتكون من الحقوق والالتزامات اللازمة لتنظيم العلاقات بين الأفراد الكائنين في مجتمع واحد، ولتنظيم العلاقات بين المجتمعات المختلفة، وهذا النموذج هو ما يسمى بالحق الطبيعي.
والانسان يشعر بهذا الحق الطبيعي بشكل تلقائي كأنما ولد الانسان مزودا بحاسة تجعله يفرق بين العدل والظلم وفقا لهذا القانون. وهذا القانون خالد أبدي أزلي لا يتغير بتغير الزمان والمكان وبناء على ذلك تصبح مسالة تفسير القوانين مسألة بحث مدى التطابق بين القوانين السائدة في المجتمعات المختلفة والقانون الطبيعي.
ولقد تأثر مونتسكيو بهذه النظرية ردحا من الزمن حتى سنة 1730 ولكنه وجدها هي الاخرى نظرية ميتافيزيقية لا يؤيدها الواقع لأنها تتعارض مع فكرة الصيرورة ولا تفسر كيف أن فكرة العدل تختلف من مجتمع لآخر ومن عصر لآخر.
اتجه مونتسكيو بعد ذلك الى أصحاب المذهب التعاقدي ولاسيما مذهب هوبز الذي تأثر به المؤلف ولكنه بعد ذلك تركه لأنه ينادي بحكم الطغيان الذي كان مونتسكيو يقشعر من بشاعته. كما أن نظرية هوبز كانت كالنظريات السابقة تضع مبادىءفلسفية عامة مما كان يتنافى مع منهج مونتسكيو في البحث القائمعلى التجربة والاستقراء.
واذا كانت المذاهب السابقة قد فشلت في ضم منتسكيو الى صفوفها فان ثمة عددا من المؤلفين كانوا بمثابة قبس من نور ادى بمنتسكيو الى المنهج العلمي السليم لدراسة مشكلة القوانين في اصلها وروحها وأول هؤلاء العلماء هو الايطالي غرافينا الذي كان ينصح الباحثين في الدراسات القانونية بأن يضعوا في اعتبارهم أن المشرعين عندما يشرعون انما يأخذون في اعتبارهم الأول اختلاف الشعوب من حيث العادات والتقاليد التي تسودها والوسط الجغرافي الذي تعيش فيه. والثاني هو الفيلسوف الألماني افرارد الذي نادى بضرورة الابتعاد عن التفسيرات التوكيدية أو الدوغمائية والبحث عن [ دوافع القانون] التي تتلخص في فائدة الدولة وعقلية الشعوب والعادات والأفكار السائدة فيها والعدالة الطبيعية . أما الثالث فهو اللورد الانجليزي بولنجبروك الذي قال بضرورة مراعاة الأخلاق والعادات والتقاليد وروح كل دولة عند التشريع لها . وكان أن انضم مونتسكيو الى رأي هؤلاء العلماء. وبدأ يبحث عن سر ائتلاف القوانين الوضعية مقتصرا فيها على القوانين السياسية و المدنية أما قانون الأمم الذي ينظم علاقاتها فهو ثابت لأنه يرتكز على ركيزتين الأولى ضمان السلام بين الأمم والثانية ضمان الاستقرار والبقاء لكل أمة. ولكن ماهي العوامل التي تتوقف عليها القوانين السياسية والمدنية السائدة في كل مجتمع؟ ثمة – فيما يرى مونتسكيو – فئتان من العوامل : عوامل أخلاقية أو اجتماعية تنحصر في العامل الأخلاقي الأول وهو شكل الحكومة الذي يتخذه المجتمع، وعوامل فيزيقية تنحصر في العامل الفيزيقي الأول وهو المناخ الذي يسيطر على الاقليم ثم تأتي بعد ذلك بقية العوامل الأخلاقية والفيزيقية لكي تدور حول هذين العاملين الرئيسيين، فالقوانين تتعلق تعلقا ضروريا بنوع الحكومة السائدة والمبدأ الذي تقوم عليه … كما تتعلق بالعوامل الفيزيقية كالمناخ ونوع الأراضي والموقع والمساحة التي يشغلها المجتمع … كما تتعلق بدرجة الحرية التي يمنحها دستور الحكم بالدين السائد بين السكان وميول الشعب وثروته … كما تتعلق أخيرا بعضها ببعض [ أي كما تتأثر القوانين بهذه العوامل تتأثر كذلك بعضها ببعض]
وبالمصدر الذي صدرت عنه وغاية المشرع من سنها والموضوعات التي تنظمها ولا تؤثر هذه العوامل على القوانين بدرجة واحدة، بل بدرجات متفاوتة، فالعوامل الأخلاقية ت}ثر بدرجة أكبر من العوامل الفيزيقية، ذلك أن العوامل الأخلاقية – فيما يرى مونتسكيو – تشكل الطباع العامة للأمة وتحدد نوع روحها العام بدرجة أكبر مما تفعل العوامل الفيزيقية، ويؤكد الفيلسوف هذا المعنى قائلا : ان النظم والعادات والتقاليد والأخلاق تستطيع أن تتغلب بسهولة على قسوة المناخ.
والعوامل الفيزيقية التي تكشف مجتمعا من المجتمعات لا يقتصر تأثيرها على نشأة القوانين بل هي تؤثر كذلك على تطورها ونضوجها وتقويتها أو اضعافها. حتى أننا نجد في كل عصر جيلا من القوانين تختلف عن جيل العصر السابق أو اللاحق، اذ ثمة أجيال من القوانين على غرار أجيال بني الانسان. وكل جيل من القوانين ليس الا نتيجة لتضافر القوانين وتفاعلها .
واذا كانت هذه العوامل هي الأسس التي ترتكز عليها القوانين فان مونتسكيو يتناولها بالتحليل كلا على حدة
القوانين وعلاقتها بالحكومة في طبيعتها ومبادئها



ان الأشكال التي يمكن أن يتخدها نظام الحكم ثلاثة : جمهورية وملكية وطغيان. وهذا التقسيم كان محل نقد عنيف من العلماء لأن الطغيان لا يعد شكلا قائما بذاته بل هو شكل تنحدر اليه كل أشكال الحكم اذا تطرق لها الفساد ، لكن منتسكيو قد فصل بين الملكية والطغيان ليحمل حملة شعواء على الحكم الطغياني دون أن يسيء مع ذلك الى البلاط الفرنسي الذي كان يقوم على الحكم التحكمي، والحكم الجمهوري – في رأي مونتسكيو –
هو حكم الشعب أو من ينوبون عنه أو جزء من الشعب، والحكم الملكي هو الذي يتولى الحكم فيه شخص واحد وفق قوانين واضحة الحدود لا يتعداها. أما حكم الطغيان فهو يقوم على حكم شخص واحد بلا قاعدة ولا قانون الا أهواؤه وعواطفه.
والحكم الجمهوري على نوعين ، اما أن يحكم الشعب أو من يمثلونه وفق قواعد نيابية واضحة، تلك هي الديموقراطية ، واما أن يكون الحكم في ايادي فئة من أغنياء الشعب وتلك هي الأرستقراطية، وفي الديموقراطية يستطيع كل شخص وفق قواعد خاصة تمثيل الشعب أو حكم الشعب باسم الشعب، أما في حالة الأرستقراطية فان الحكم محصور في طبقة معينة أو عدة طبقات لا يتعداها وأحسن شكل من الحكم الأرستقراطي هو ذاك الذي يقترب فيه من الحكم الديموقراطي. أما الحكم الملكي فهو يقوم على هيئات تتوسط بين الملك والشعب وتكون لها اختصاصات محدودة تحديدا دقيقا تحد من سلطان الملك. ومنتسكيو اذ يتحدث عن هذه الأنواع من الحكم انما كان يفكر في الحقيقة في النظام الملكي الاقطاعي الذي ساد معظم الشعوب الأوروبية في العصور الوسطى حيث كانت هيئات النبلاء والأشراف ورجال الدين تحد من سلطة الملك وتباعد بينه وبين الطغيان اذ بدون هذه الهيئات يصبح الملك لاحدود لسلطانه ولا رادع لطغيانه.
أما في حكم الطغيان فان الطاغية يخلق الى جانبه مجموعة من الأمراء الكسالى الجهلاء ذوي الشهوات. ومن سمات هذا النظام أن يعين الطاغية وزيرا يحمل الأعباء اسما بحيث يسمح هذا النظام للطاغية بأن يفعل كل ما يرضي نزواته ورغباته باسم ذاك الوزير.
والقوانين تحت الحكم الجمهوري تعتمد على التفصيلية لأن من يضع القوانين هم أنفسهم خاضعون لها ومتحملون لمسؤوليتها والتفصيلية هنا تعني التمسك بواجبات المواطن الصالح الشريف، أي بالتضحية بالمصالح الفردية لخدمة الصالح العام، لأن القوانين لما كانت صادرة عن الشعب، فان أي خطأ في قوانين الدولة، لا يستلزم الا رجوع الحكام بكل بساطة عن قرارهم أما الحكم الملكي فأساسه الشرف وثقة الشعب في ملكه.
أما أساس حكم الطغيان هو الخوف والرهبة لأن الرعايا ليسوا أحرارا بل هم عبيد أذلاء للطاغية الذي يبقى حكمه مرتبطا بتلك الرهبة من جبروته وسلطانه.
واذا كانت تلك هي الأشكال المختلفة لنظام الحكم فانها تؤثر تأثيرا كبيرا على القوانين المدنية والجنائية والادارية التي تنظم الحياة الاجتماعية ففي قوانين التربية والتعليم يعمل الحاكم على توجيه تلك القوانين بحيث تحكم أغراضه وتربي في مواطنها هذه المبادىء التي يقوم عليها النظام الأساسي أي غرس مبادىء الفضيلة أو الشرف أو الخوف بحسب ما اذا كان النظام جمهوريا أو ملكيا أو طغيانيا.
ولكن اذا كان لنظام التعليم والتربية هذا الدور فانه بالنسبة للنظام الجمهوري ألزم منه بالنسبة للنظامين الملكي والطغياني وذلك لأنه من السهل على الطاغية أن ينشر الخوف والرهبة بين رعاياه وذلك عن طريق نشر القسوة في العقاب والوحشية في معاملة المحكومين. وكذلك من السهل على الملك غرس مبدأ الشرف والثقة بالحاكم لأن هذه صفات أساسها العواطف و الانفعالات النفسية التي تؤثر فيها وتاثر بها فمن الميسور على الحاكم أن ينشر جوا نفسيا يؤدي الى الثقة في شرفه والطمانينة لحكمه. أما في حالة الحكم الديموقراطي فان توفير الفضيلة أي تدريب الأفراد على أن يصبحوا مواطنين فضلاء يضحون بصالحهم الخاص في سبيل الصالح العام كل هذا ليس شيئا ميسورا.
وكذلك يؤثر نوع الحكومة في القوانين الأخرى التي لا تتعلق بالتربية والتعليم فهو يؤثر على القوانين التي من شأنها أن تطمئن الناس على أشخاصهم وأموالهم حتى تستقر الامور في المجتمع وحينئد لا بد من سن القوانين الجنائية وانشاء المحاكم، وهذه القوانين تقوم على عقوبات خفيفة عادة تحت لنظم التي أساسها الفضيلة والشرف. أما في النظام الطغياني فنجد العواقب صارمة وحشية غير انسانية كما يؤدي الشكل العام للدولة الى سن قوانين تحمي افرد من سوء استخدام النظام واستغلاله، ذلك فيما عدا النظام الطغياني الذي يخضع الفرد فيه لكل أنواع الظلم والاستغلال بلا ضمان. أما في النظامين الجمهوري والملكي فتسن قوانين تحمي الفرد وحرياته المختلفة كما تحميه من الضرائب الباهضة التي لا تتناسب مع مقدرته المادية على أنه من الملاحظ أنه كلما كانت الدولة ديموقراطية تقوم باصلاحات يشعر بها الأفراد فيتقبلوا بتلقائية ما تفرضه عليهم من أعباء مالية حتى نستطيع أن نقدم مايلي كقاعدة عامة : [ في مقدارالحاكم أن يجمع من الضرائب ما يتناسب مع حرية المحكومين.]
ويتعلق بشكل الحكومة أيضا ما سماه مونتسكيو قوانين الترف lois somptuaires فالترف في اي دولة من الدول انما يكون نتيجة للتفاوتات بين الثروات فالدولة التي تكون فيها الثروة موزعة بشكل عادل بلا فوارق كبيرة لا يكون ثمة ترف لأن الترف يأتي من تمتع الانسان بعمل الآخرين، فينفق بذلك المترف ثروة تزيد عن حاجته وعلى ذلك نجد أن الترف منعدم أو قليل في الدول الديموقراطية أو الجمهوريات التي تكون الثروة فيها موزعة توزيعا عادلا، ان كل انسان يجد كفايته بلا زيادة ولا نقصان حيث لا يكون له من الثروة الزائدة ما يجعله يترف على حساب الآخرين ومن ثم فالجمهوريات المثالية هي التي يسودها حسن التوزيع في الثروة وعدالته وهذا السر في أن الأفراد في كثير من الجمهوريات القديمة كانوا يطالبون دائما باعادة توزيع الثروات وحدث ذلك فيها أكثر من مرة بالفعل أما في الجمهوريات التي تسير على النظام الأرستقراطي كبعض المدن الايطالية واليونانية فان الارستقراطيين في بعضها كانوا يعيشون بلا ترف لأن قوانين البلاد وظروفها كانت تحتم عليهم العتدال في الانفاق مما كان يترتب عنه الضنك الشديد لأن الثروة كانت تكدس في يد الأغنياء ويحرم منها الشعب، وفي بعضها الآخر ولا سيما اليونان كان الارستقراطيون ينفقون فيها من سعة على رفاهية الشعب في الاحتفالات والأعياد الدينية وشتى المناسبات وهذا كان نظاما مثاليا للنظام الأرستقراطي لأن الأرستقراطيين يتحملون عبء الثروة والفقر على السواء أما في النظام الملكي فقد تصدر قوانين تحد من الترف لتوفير المال لتشجيع التجارة والصناعة . لكن حياة الترف من صفات النظام الملكي لأن النظام الملكي بحكم تعريفه قائم على اختلاف الثروات فاذا صدرت قوانين تحد من انفاق الأثرياء فان الفقراء لن يجدوا عملا ويموتون جوعا.
وكذلك يوجد الترف في دولة الطغيان ولكن مع الفارق هو أن الترف في النظام الملكي نتيجة طبيعية لتمتع الأفراد بحرياتهم أما في دولة الطغيان فان الأفراد جميعا دون اسثتناء عبيد أذلاء للطاغية ويكون الترف لبعض الناس نتيجة لسوء استغلالهم لعبوديتهم، لأن مثل هؤلاء المستعبدين وقد ولاهم سيدهم الطاغي ليصرفوا شؤون عبيده الآخرين ينتهزون الفرصة ويستغلون هؤلاء العبيد.
لا سيما وأنهم يعيشون ليومهم لا أمل لهم في الغد غير المضمون ولذلك يحاولون الوصول لأقصى قسط من الترف في أقل وقت ممكن على حساب زملائهم العبيد الآخرين.
وهكذا اذا رحنا نبحث في جميع أنواع القوانين التي تسود الدولة لوجدناها متعلقة تعلقا وثيقا بالنظام السياسي القائم على أن النظام السياسي ككل شيء أخر قابل للفساد اما بطول الاستعمال او بفساد القائمين عليه فينتشر بذلك الفساد والرشوة.
الملكية تتحول بالفساد الى طغيان حاكم واحد والأرستقراطية الى طغيان عدة أفراد بينما يؤدي فساد الديموقراطية الى طغيان الشعب.
فالسبب الأول في فساد الديموقراطية هو أن يفقد الناس روح المساواة التي يجب أن تسود بينهم ومن ناحية أخرى تفسد الديموقراطية ان زاد التمسك بروح المساواة عن حدود معينة اذ في هذه الحالة سيعتبر كل انسان نفسه مساويا لرئيسه في العمل وبذلك يرى من الخطأ أن يتلقى أول مرة منه وأن من حقه أن يعصيه . فتضيع الثقة بين الناس وتضطرب المقاييس وتنتشر الفوضى