آيةُ القُربى وبراعة الأدب القرآني
محمد علي جواد تقي
{ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
على مر التاريخ، كان الانبياء والمرسلون من السماء يؤكدون للناس بأنهم لن يأخذوا منهم أجر ما يبلغونه من الرسالة الإلهية، حتى وإن أفلحوا في تحويل تلك الرسالات والقيم الإلهية الى عمران وازدهار يجعل كل انسان يملك الدار الفاخر والمال الوفير والرفاهية الكاملة، فكان شعارهم دائماً؛ {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ}، أي إني أأخذ ثمن اتعابي من الله –تعالى- يوم القيامة.
ولعل السبب في ذلك؛ أن ظهور الانبياء والمرسلين بين البشر على مر التاريخ كان يتم بشكل متقطع، وفي أماكن وأوقات مختلفة، فكانت الظروف تختلف من نبي الى آخر مع ابناء مجتمعه والبيئة والاوضاع الاجتماعية التي يعيشونها، و بموت ذلك النبي والرسول كانت تنتهي رسالته، فلا مجال بعد ذلك لأن يعوض افراد المجتمع لذلك الرسول على ما أسداه من خدمة التبليغ والإرشاد وإضاءة سبل الحياة الكريمة لهم.
أما في حالة خاتم الانبياء والمرسلين؛ نبينا الأكرم، محمد، صلى الله عليه وآله، فالأمر مختلف تماماً، فالنبي الخاتم يحمل الرسالة الخاتمة للبشرية جمعاء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وما هنا أداة حصر في اللغة، مع تميزها بالحيوية والاستدامة مع الحياة بالنسبة للمسلمين بفضل وجود الأئمة من أهل بيته، صلى الله عليه وآله، فقد بقي أحد عشر إماماً حتى سنة 260 للهجرة بين ظهراني الأمة، أي قرنين ونيف من الزمان، وهي فترة ليست بالقصيرة، ثم تبعهم الإمام الثاني عشر؛ المهدي المنتظر؛ الحاضر الغائب، لتبقى الرسالة المحمدية حيّة نابضة مع الزمن، تواكب تطور الانسان والحياة، لذا كانت الحكمة الإلهية بأن يكون أجر هذه الرسالة في مودة أهل بيت الرسول الخاتم، والوقوف الى جانبهم ومؤازرتهم، والاهتداء بنهجهم في الحياة.
ورغم أن الأجر أمر مادي في مفهومه العام، نجد أن الأمر الإلهي طالب بالمودة وهي مسألة معنوية، فالأجر يتوقع ان يكون ببذل المال او النفس، او بذل مجهود معين، كما بشّر الله المجاهدين والصابرين وعموم الأخيار بأن أجر ما بذلوه في الحياة الدنيا، يلاقوه في جنان الخلد، بينما هنا الأمر مختلف تماماً، فالمودة؛ وهي مفردة ايجابية في العلاقات البينية أوسع من الحب والاحترام، وهنا يتبلور الأدب القرآني البارع، كما يظهر لنا في آيات عدّة بالكتاب المجيد، وجرت الإشارة الى هذا النوع من الخطاب السماوي الاستثنائي في مقالات سابقة دارت حول محور القرآن الكريم، وكيف أنه لا يعمم الإشارة السلبية على كل الناس، كما في الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، وفي الواقع أن جميع الذين كانوا ينادون النبي بصوت عال ليخرج لهم، لم يكونوا ممن يعقلون.
ثلاث نقاط يرجى ان تكشف لنا كنه العلاقة بين ما هو مادي وما هو معنوي في هذه الآية:
النقطة الاولى: الأدب التصويري، "أي انه سبحانه يستخدم ما يثير القوة المتخيلة والقوة المتوهمة ويدغدها ويفعّلها كثيراً، وهذا نوع راقٍ من الأدب، وهو الأدب التصويري"، ويعزو سماحته الحكمة من هذا الاسلوب الأدبي؛ تمهيد الاجواء النفسية للانسان للإيمان عن طيب خاطر.
النقطة الثانية: "إن ذلك أدعى للعقوبة في حال عدم تسديد الأجر، والله –تعالى- يستخدم هذا المصطلح –الأجر- المأنوس في اذهاننا لكي تنعكس هذه الظلال والابعاد التي نأنس بها، ونألفها، ونعرفها، ونعاشرها، على الآية الشريفة، فنعرف فداحة الجريمة لو تخلينا عن دفع الأجر"، وهي المودة لأهل بيت رسول الله.
والنقطة الثالثة: أن نعيش حالة الوفاء بالعهد مع الله –تعالى- بشكل يومي في حياتنا، فالأجر يمثل عنصر التبادل التجاري بين الافراد، والجميع يدرك محورية هذه المسألة، من الخباز والحداد، والمزارع، والعامل، وحتى الطبيب والمهندس والعالم، بل وحتى القائد، بأن لكل شيء ثمن بالمقابل، ولا شيء يأتي بالمجان مطلقاً، ولعل المثل الأقرب في العلاقة بين المجتمع والدولة، هو؛ الحقوق والواجبات، فاذا لم يلتزم المجتمع، او الجماهير بالواجبات، من احترام القانون، والنظام، والقيم، فكيف له المطالبة بالحقوق، وعندما يُعطى الحقوق، من خدمات، وفرص عمل، وتعليم، وصحة، وأمن، فستترتب عليه واجبات بشكل منطقي، كما ان المسألة عكسية بالمقابل، فان مؤسسات الدولة عليها الوفاء بوعودها أمام الشعب الذي يُعد مصدر الشرعية لنظام الحكم.