أَرِقْتُ لِبَرقٍ آخرَ الليلِ لامعِكأَعْراقِ كَفٍّ عارياتِ الأشاجعِ
يُهَتِّكُ أستارَ السحابِ فينهمي
ويَهتِكُ أستاري فَتَهْمي مَدامِعي
أُكَتِّمُ هَمًّا بعد همٍّ، ولوعةً
على لوعةٍ، حتى تَداعَتْ أَضَالعي
وكنتُ امْرَأً يَعْتَدُّ شَكواهُ ذِلَّةً
وأَهْوَنُ مِنها خَوْضُ لُـجِّ الـمَصَارعِ
سِوى أنَّ همًّا لا يزالُ يُغِصُّني
ويُسْهِدُني إن طابَ نومُ الهَوَاجِعِ
ويحضُرُ إن غابَتْ همومي، وتَنْتَحي
إلى وِرْدِهِ إن حَلَّ كلُّ شرائعي
وأدعو لقلبي كلَّ مُمْسًى ومُصْبَحٍ
بألَّا يُعافَى منهُ ما صاحَ سَاجِعي
إذا كادَ يسلو عنهُ أَنْعَشْتُ ذِكرَهُ
وأَعْلَقْتُهُ في مُحْكَمَاتِ النوازعِ
ولستُ أرى قلبي جديرًا بِقَرْعِهِ
إذا غيرُ هذا الهمِّ كانَ مُقَارِعِي
وكلُّ امرِئٍ أَلْفَيتُهُ عنه لاهيًا
نَفَضْتُ لهُ ثوبي وفاءَتْ مَطامعي
فلا كنتُ قَوَّالًا لِكُلٍّ سَنِيَّةٍ
مُحَبَّرَةٍ مذكورةٍ في المجامِعِ
إذا لم يكن وحيًا لِشِعري، وإن يكن
على كلِّ حالٍ غيرَ دانٍ لِطَامِع
ولا كنت مُعْتَمًّا بِفَضْلِ عزيمتي
ولا مُوطِئًا عَقْبي نُجومَ الطَّوالِع
إذا لم يكن سَوطًا لِرَحْلي، وعُصْبةً
لرأسي، ومِنْسَاةً عليها أصابعي
أَعِنِّي على هَمِّي ولستُ بجازعِ
ولكنَّ شِرْكَ الهمِّ جُنَّةُ دارِعِ
أرى قبَّةَ الإسلامِ -وَهْيَ عَصِيَّةٌ-
تُكادُ، وهَمِّي ذاكَ غيرُ مُدافَعِ
وأنَّى لهم! لولا شِعابٌ تَنَزَّلوا
بِهِنَّ، ونحنُ بين لاهٍ وهِاجِعِ
ولا تَحْقِرَنْ شِعْبًا، فهل تُبلَغُ الربى
بغير شِعابٍ تُنْتَحى ومَشَارِعِ!
وكلُّ كبيرٍ بَدْؤُهُ في صِغارِهِ
وكلُّ مَضيقٍ مُنتَهاهُ لِوَاسِعِ
وإنَّ البيوتَ بالعمادِ، فإن رسَتْ
رَسَا فوقَها ما لا يَميدُ لِدَافِعِ
ألا أَدْرِكوا أَفْواهَ كُلِّ ثَنِيَّةٍ
وسُدُّوا عليهم فَاغِراتِ المطالعِ
ومما أخافُ -والمخاوِفُ جَمَّةٌ-
عليه إذا هَبَّتْ رياحُ الزَّعازِعِ
لسانُ بني الإسلامِ، وِرْثُ جُدُودِهم
بَقِيَّةُ آباءٍ لنا ومَراضِعِ
قديمٌ كَعُمْرِ النجمِ، نَمَّاهُ عُصْبَةٌ
غَذَتْها إِيَـاةُ الشمسِ فوقَ البلاقِعِ
يصونونَهُ صَوْنَ البخيلِ لمالِهِ
ويَرْعَوْنَهُ رَعْيَ السِّمانِ الرَّواتِعِ
وقاموا عليهِ يَشْذِبُونَ قَناتَهُ
ويَجْلُونَ حَّدَيْهِ جِلاءَ القَوَاطِع
فأضحى فَخارَ القومِ في كل مَحْفِلٍ
وزِينتَهُمْ إن سَاجَلَوا في المجامع
وإن شُبَّتِ الحربُ الضَّرُوسُ احْتَمَوا بهِ
وعَالَوا بهِ فوقَ الرماحِ الشوارع
ولمـَّا عَلَا في قُلَّةٍ ليس فوقَها
بَأوهامِهِم مِن قُلَّةٍ ومَطالعِ
تَكلَّمَ ربُّ العالمينَ بِوَحْيِهِ
فعادَ على أوهامهم بالمـَقاطِع
فكان اصْطِفاءَ الله، لمـَّا سَمَوا بهِ
إلى ذِرْوَةٍ ما بعدَها مِن مَطامِع
وسَامَى بهِ في ذِرْوَةٍ أَعْجَزَتْهُمُ
وإن كان مما فَجَّروا مِن مَنَابع
وكان من اللهِ ضَمانُ بَقَائِهِ
إلى حينِ يأتي أَمْرُهُ بالقَوَارِعِ
وسَخَّرَ أَجْنادًا لهُ يَحْرُسُونَهُ
فَمِن ذائدٍ عن حِصْنِهِ لِمُدافع
فجاء لنا غَضًّا طَرِيًّا كما نَمَا
فهل كان منَّا بعدهم مِن مُتَـــابِع؟
أيوب الجهني