فلاديمير نابوكوف الذي لم يعد إلى بطرسبورغ

كان حاقداً على الشيوعية، واعتبرته واشنطن حصاناً رابحاً في صراعها مع روسيا.. ما قصة فلاديمير نابوكوف صاحب رواية "لوليتا"؟
يحمل المهاجرون صورة الوطن محفورة في أذهانهم لتعود بها الذاكرة بلا موعد، فينتفضون على الواقع ويركنون إلى نفيه شعراً ونظماً، وهدم القيم تحت عنوان الإبداع. يمثّل الكاتب الروسي فلاديمير فلاديميروفيتش نابوكوف، المهزوم سوفياتياً والمنتصر بترشيحه لجائزة نوبل للأدب أميركياً 8 مرات، نموذجاً للأدب الروسي المهاجر، الذي عاد إلى روسيّته في العقود الثلاثة الأخيرة.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، في تسعينيات القرن الماضي، لعبت أشهر الصحف الأدبية الروسية "ليتيراتورنايا غازيتا" لعبة "خطيرة" على عتبة الأول من نيسان/أبريل، كانت عبارة عن "مقلب أدبي" من 3 حلقات. من كان يمكنه أن يشكّ بما تنشره هذه الصحيفة التي تتحصّن بالرصانة؟ العنوان الجامع للمقالات الثلاث كان "فلاديمير نابوكوف يعود إلى الوطن".
يتذكر الكاتب إيغور فيرابوف تلك الحادثة قائلاً: "عملت في القسم الذي رأسته الناقدة الأدبية ألّا لاتينينا آنذاك. كان الأول من نيسان/ أبريل يقترب، وقرّرنا أن نلعب مع القرّاء بطريقة محترفة وأدبية. خطرت لي ولصديقي الكاتب فلاديسلاف أوتروشينكو وصديقه الكاتب يفغيني لابوتين فكرة. من المعروف في الحقبة السوفياتية، أن ستالين كانت لديه فكرة جادة إلى حد ما، حتى قيل كان لديه برنامج كامل، حول عودة كبار الكتّاب المهاجرين إلى الاتحاد السوفياتي. ومن المعروف أنه كانت هناك فكرة لإعادة إيفان بونين بعد الحرب. وقد التقى به كونستانتين سيمونوف تحديداً، ثم استوحى بونين بعض أعماله من انتصار الشعب السوفياتي على النازيين. لكن الأمر لم ينجح، ولم يعد بونين".
وهكذا فبرك كتّاب الصحيفة مسلسلاً من ثلاث حلقات، كانت حلقته الأولى تمهيدية مبنية على محضر اجتماع مغلق للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي بمشاركة ممثّلين عن الـ "كي جي بي" (جهاز الاستخبارات المركزي)، وممثّلين عن إدارة اتحاد الكتّاب السوفيات، حيث أثير سؤال مفاده أن الأدب السوفياتي هو الأكبر في العالم، لكن تقسيمه إلى سوفياتي مقيم ومهاجر ليس جيداً، فهو أمر لا يصبّ في مصلحة تعزيز هيبة السلطات السوفياتية. فأضاف الكتّاب من بنات أفكارهم "لماذا لا يعود الكاتب فلاديمير فلاديميروفيتش نابوكوف إلينا؟ ثم يُعرض عليه منزل ريفي، وملكية خاصة، وإصدار كتبه بكميات كبيرة، والسماح له بالخطابة أمام جمهور عريض، وهو أمر محروم منه، بالطبع، في أميركا المعادية".
المادة الثانية كانت عبارة عن رسالة إلى نابوكوف نفسه مع اقتراح بالعودة إلى وطنه... والمادة الثالثة كانت من تأليف الكاتب يفغيني لابوتين، الذي كان متعصّباً لأدب نابوكوف ويجيد الاقتباس من أسلوبه الشعري بشكل مثير للاهتمام. المقالة تضمّنت "رسالة من نابوكوف إلى شخص ما"، يتأمّل بين سطورها في الدعوة التي "وصلته، وتتردّد في ذهنه العبارات ويستعيد جمال الحياة، وروعة العمارة، وعيد الميلاد، متأملاً الصور المرفقة بالدعوة التي أرسلها إليه عمال المتحف...".
وفق المقالة المنشورة، كان الحنين إلى الماضي مستولياً على نابوكوف، ولكنه تمكّن بكل طريقة ممكنة من التغلّب على الدعوة الجاذبة، وفي النهاية قرّر أنه بعد كل شيء، بالطبع، لن يعود.
تلك لم تكن مجرد خدعة، بل كانت مقلباً قاسياً على طول البلاد وعرضها، وكان من المدهش أن كثيرين من القرّاء صدّقوه، وشغل حيزاً مهماً من النقاشات الأدبية. بطبيعة الحال لم يعد نابوكوف، لا وفق "برنامج ستالين" ولا إلى روسيا التسعينيات، فكيف يعود وقد دُفن في مقبرة مونتيور السويسرية قبل 14 عاماً على انهيار الاتحاد السوفياتي عن 78 عاماً.

الوطن الضائع
يتذكّر الكتاب نابوكوف اليوم في ذكرى وفاته السادسة والأربعين. لم تكن حياته مليئة بالأحداث المثيرة. ولد في عائلة نبيلة في العاصمة القيصرية سان بطرسبورغ، وعاش لمدة تسعة عشر عاماً بين كبار القوم، ثم غادر إلى أوروبا هارباً من البلاشفة. بعد أكثر من عقدين، انتقل إلى الولايات المتحدة، هرباً من هتلر. درّس الأدب في الجامعة، ثم كتب روايته "لوليتا" فاشتهر، وأصبح ثرياً وقضى الربع الأخير من حياته في سويسرا إلى جنب زوجته فيرا، التي كانت أقرب أصدقائه إليه، وسكرتيرته ومحرّرته الشخصية. دام زواجهما أكثر من نصف قرن من الزمن.
في سن السابعة عشرة، تلقّى من عمه ثروة هائلة وأراضي وممتلكات ضخمة. بعد عامين، اندلعت الثورة، فضاع كل شيء. لم ينقم على السوفيات بسبب ضياع ثروته، على حد قوله في "ضفاف أخرى": "لا علاقة لخلافي الطويل الأمد مع الدكتاتورية السوفياتية بقضايا الملكية الخاصة. فأنا أحتقر تجمّع النخبة الروسي، الذي يكره الشيوعيين لأنه يُزعم أنهم سرقوا منه المال والعقار". إلا أن نابوكوف سُلب الحرية التي يمنحها المال لشاب في مقتبل العمر، وفي المقابل حُكم عليه أن يعيش شبه فقير وبائس إلى حد ما في مهجره. بالطبع، حرمه قدره من الوطن، قبل أن يلقي البلاشفة القبض على والده الذي كان يحبه كثيراً، ثم أعدم بابوكوف الأب رمياً بالرصاص سنة 1922.
يُقال إن انهيار الحب الأول يكمن في جوهر كل موهبة أدبية عظيمة، إلا أن ما تأصل في جوهر موهبة نابوكوف هو انتزاع الوطن منه أو انتزاعه من الوطن، وعمله على تأصيل هذه المأساة. فشخصية الأمير المنفي تعتبر الشخصية الرئيسة في أعماله وتعكس ما كان يشعر به شخصياً، ولعل بطل "الهبة" فيدور جودونوف – تشيردينتسيف من الأمثلة الصارخة على ذلك.
كان شاباً فقيراً فخوراً، يحمل معه ثروة كبيرة هي الذاكرة، وفيها روسيا والأدب الروسي. بطله رومانسي، يعلو فوق الحشد، يوزّع تقييمات محتقرة للأشخاص المبتذلين الصغار ولا يخشاهم على الإطلاق (مما جاء على ألسنة أبطاله: "الجميع سيديرون لك ظهورهم"، "أنا أفضّل الجزء الخلفي من الرأس"). اعتزّ نابوكوف بصورة بطله هذه لعقود، حتى في رواية "لوليتا"، حين بدأ بطله الرومانسي بالتعفّن، وفي قصة "النار الباهتة" حيث تحوّل موضوع الأمير بأكمله إلى محاكاة ساخرة صريحة. وبعد "النار الباهتة"، بالمجمل، انتهى مشوار نابوكوف الكاتب.

توظيف النقمة
كان فلاديمير يحلم بالعودة إلى روسيا. في خمسينيات القرن الماضي، تحدّث عن "جواز سفر مزوّر" يمكن له أن يسافر به حاملاً اسم عائلة أخرى، مثل "نيكربوكر". في الستينيات والسبعينيات، لم يمنعه أحد من العودة وكان ليسمح له بدخول البلاد سائحاً إن أراد. كثيرون عادوا من المهاجر إلى مدنهم في الوطن السوفياتي الكبير ولم يمسسهم أحد بسوء، منهم من عاد ليعيش ومنهم من أتى زائراً.
كان الموقف تجاهه تحت حكم ليونيد بريجنيف إيجابياً نسبياً، آنذاك ظهر مقال محايد تماماً عنه في الموسوعة السوفياتية الكبرى. نابوكوف لم يسافر إلى الاتحاد السوفياتي قط، وكان موقفه مبدئياً، أو كأنه استرشد بمبدأ الشاعر السوفياتي غينادي شباليكوف (1937-1974)، الذي ربما لم يقرأه، وهو يقول: "لا تعد أبداً إلى أماكنك السابقة".
لكنه، بدلاً من العودة بنفسه كان يرسل أبطال قصصه إلى روسيا، وإلى مدينته التي تحوّل اسمها إلى لينينغراد، ويصف الحياة فيها بأبشع الألفاظ التي تثير التقزّز في النفوس. لذلك إذا ما نظرنا في مقابلات نابوكوف، التي نشرت ترجمتها الروسية قبل سنوات، نجد فيها كمية كبيرة من الأحكام القاسية الصارمة. على حد قول الكاتب دينيس كورساكوف "كان يسهل عليه أن يقذف كل ما لا يعجبه باللهب". كانت تلك الأحكام بألطف العبارات "غير عادية" و"مستغربة" بالمجمل، طالت الأعمال الكلاسيكية لكبار كتّاب العصر الروسي الفضي وبطبيعة الحال الأدباء السوفياتيين، وتعدت الأدب إلى العادات والأعراف الطارئة والحياة اليومية.
احتضنت روسيا الحديثة، في العقود الثلاثة الأخيرة، أدب فلاديمير نابوكوف، وذلك لأنها كانت قد تخلّصت بسرعة من الرداء السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي وتبنّت الاتجاه غرباً. يسهل فهم احتضان الغربيّين له، إذ رأوا فيه أحد أحصنتهم الرابحة في الصراع الطويل البارد مع الاتحاد السوفياتي، وهو أديب صلب يجيد توظيف نقمته الأصيلة ضد الشيوعيين.
كان نابوكوف صادقاً مع نفسه في حقده على الاتحاد السوفياتي والشيوعية بكل مظاهرها. اعتبر أن "جحافل الوحوش" استولت على وطنه الذي بات "ريفياً بشكل ميؤوس منه". عندما اندلع صراع عام 1969 بين الاتحاد السوفياتي والصين في جزيرة دامانسكي، حلم نابوكوف المتعطش للدماء بحرب كاملة بين الدولتين الشيوعيتين، حيث تلتهم كل منهما الأخرى. وفي موقف معاكس، أيّد نابوكوف وزوجته حرب فيتنام، معتبرين أنها "حرب مقدّسة ضد الشيوعية ليس في سبيل الحياة، بل في سبيل الموت"!
اليوم، تقف روسيا الحديثة على مفترق طرق جديد. فقد قامت قيامة الغرب ضدها وحاصرتها بـ "الروسوفوبيا"، وحظرت كل ما هو روسي على الساحة الأدبية خصوصاً والثقافية عموماً. من المبكر التكهّن في الموقف العام تجاه أولئك الحاقدين على الاتحاد السوفياتي، إلا أن الدرب الأسلم هو الوسطية، إذ لم ينكر أحد على نابوكوف عبقريته وموهبته الأدبية الفذة، ولو خرج على المألوف وحطّم القيم السائدة تحت عنوان الإبداع، لكن في المقابل لم يعد هناك أي داعٍ لتلك النقمة التي وظّفها وتابعه في توظيفها أبناء الغرب من الروس، على الأقل محلياً. وستبدي لنا السنون المقبلة ما نجهله.