من منّا لم يسمع أو يقرأ مقاطع من كتاب
"طوق الحمامة"
للكاتب الفقيه الوزير ابن الوزير
ابن حزم الأندلسى؟!!
لا أزعم أننى قرأت هذا الكتاب كاملاً برغم من وجوده فى مكتبة الأسرة التى تضم زهاء الثلاثة آلاف كتاب
إلا وأننى قد طالعت أجزاء كثيرة منه استهوتنى إلى حدّ بعيد
فهذا الفقيه قد كتب كتابه وهو فى الثلاثين من عمره وأهداه إلى أحد أصدقائه
وقد استمد كلَ مافيه من وقائع وأحداث من حياة الناس حوله وإن لم يشأ أن يذكر أسماءهم لأن أسماء المحبين عورة
وابن حزم قد فتّح عينيه على النساء فى بيته هن اللاتى علمنه القراءة والقرآن وقد سمع إليهن طويلاً
وتعلم منهن حب الإستطلاع والفضول ..لكنه عاش ومات عفيفاً
وفى الحقيقة أن ابن حزم لم يذكر لقرائه معنى طوق الحمامة أو سبب إختياره لهذا الإسم لكتابه
لكن المحللين ممن جاءوا بعده رأوا أنه اختار الحمامة ذات الطوق فى عنقها وهو نوع من أنواع الحمام
فى عنقه علامة زرقاء كالطوق كى يكون سفيرا بين المحبين
فإختيار السفير فى الحب مهم , ففى يديه وخياله وذاكرته وأخلاقه حياة الحب وموته
فى هذا الكتاب يروى ابن حزم قصة قاضِ عظيم رأى فتاة فى السوق فطار عقله ومشى وراءها , وأحست به الفتاة
فكان هذا الحوار الرقيق الذى يشبه تلك الحوارات التى نسمعها فى أحد الأفلام الحديثة :
قالت له: لماذا تمشى ورائى؟
قال :جمالك!
قالت: لا تفضحنى
قال: بل أنتِ فضحتنى
قالت: ماذا تريد
قال : أراكِ
قالت: هذا مباح!
قال: حرّة أو مملوكة؟
قالت:مملوكة
قال:اسمك؟
قالت: خلوة!
قال: ومن الذى يملكك؟
قالت: السماء أقرب لك !
قال: متى أراكِ؟
قالت: فى نفس المكان
وظل القاضى يذهب إلى نفس المكان فى نفس الوقت حتى مات ولم يرها
وفى هذا الكتاب عرض لنا ابن حزم أكثر من نوع للحب :
فهناك من يحب من أول نظرة ليس عنده وقت ولا صبر , إنه يسلّم سلاحه من أول معركة ويريح نفسه
من عناء البحث وعذاب الإنتظار
وهناك حب بعد المطاولة : أى الحب من ألف نظرة ويرى ابن حزم أن هذا الحب يدوم
فالذى يدخل القلب بصعوبه يخرج منه بصعوبه حيث يقول: مادخل عسيراً لا يخرج يسيراً فهكذا يطول عمر الحب
كما يرى ابن حزم أنه من صفات المحب الكتمان
فإن كتمان الحب مثل أن تطبق يدك على النار أنها تحرقك ولكن لابد وأن تدارى حبك عن عيون الناس حماية لك ولمن تُحب
ورسولنا الكريم عليه السلام يقول: من أحب فكتم فعف! مات شهيداً
ويرى أيضاً ابن حزم ان أروع مافى الحب الوصل حيث يقول:
وهو خط رفيع ومرتبة سرّية , ودرجة عالية , وسعد طالع , بل هو الحياة المتجددة والسرور الدائم ..ولولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر, والجنة دار جزاء وأمان من المكاره لقلنا :إن وصل المحبوب هو الصفاء الذى لا كدر فيه والفرح الذى لا شائبة له ولا حزن معه
وكمال الأمانى ومنتهى الأراجى ...."
وحين يتحدث ابن حزم عن السلوى يقول:
ان العاشق يلجأ إليها لينسى المحبوب ..لكن كل شىء يذكّره به كورقة بعث بها إليه , أو منديلاً أو خصلة شعر
ويقول أنه رأى عاشقاً ضربه المحبوب بسكين فأخذ يقبل مكان الجرح
وفى هذا يرى ابن حزم أن المحبوب لم يضربه أحد بسكين وإنما الدم فى عروقه قد أحسّ بقرب المحبوب فخرج لتحيته يقول:
يقولون شجك من هِمتَ فيه
فقلت لعمرى ماشجنى
ولكن أحسّ دمى بقربه
فطار إليه ولم ينثن!
ومن أروع ما يمكن أن تقرأه فى هذا الكتاب وصف الفتاة التى أحبها ابن حزم حيث يقول:
جارية نشأت فى دارنا كانت غاية فى حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخفرها ودماثتها
عديمة الهزل, منيعة البذل, بديعة البشر, مسبلة الستر, فقيدة الذام , قليلة الكلام
مغضوضة البصر,شديدة الحذر, نقية من العيوب, دائمة القطوب, حلوة الأعراض , مطبوعة الأنقاض
مليحة الصدود , رزينة القعود, كثيرة الوقار, مستلذة النفار, وجهها جالب كل القلوب وحالها طارد من أمها تزدان فى المنع والبخل مالا يزدان غيرها بالسماحة والبذل ..أحببتها حباً مفرطاً شديداً فسعيت عامين أن تجيبنى بكلمة وأسمع من فيها لفظة غير مايقع فى الحديث الظاهر فما وصلت من ذلك إلى شىء "
ثم يروى كيف يطاردها وهى وراء ستار ..يقترب منها ..لعله يسمعها ...ولم تشعر الجاريات بكل ذلك
إلى هذه الدرجة كان حريصاً وكان قادراً على إخفاء مشاعره يقول لها:
منعت جمال وجهك مقلتيا
ولفظك قد ظننتِ به عليا
أراك نذرت للرحمن صوماً
فلست نكلمين اليوم حيا
فى النهاية سواء اختلفنا معه أو أتفقنا فإن ابن حزم يرى أنه ماقال إلا حقاً لذا فهو لم يعتذر للمؤرخين على هذا الذى كتبه عن الحب والمحبين والعشق والعشاق
كما يطلب من الناس ألا يسيئوا الظن به فيقولون: خالف طريقته وتجافى عن وجهته
أى أنه كان رجل دين فإذا هو رجل دنيا ..وأنه كان وقوراً , فإذا به رجل هازل
قال تعالى: "ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم"
ويرى ابن حزم الذى يؤمن بالله واليوم الآخر أنه قال خيراً