حذر الباحثون من أن سطوع سماء الليل لن يؤثر فقط على علماء الفلك المحترفين والمراصد الكبرى، بل يهدد علاقتنا بالفضاء عن طريق إضعاف قدرة المراصد على رصد الأجرام والحركات السماوية.
نظرا لزيادة التلوث الضوئي، لم تعد هناك أماكن تلبي جميع الخصائص اللازمة لتثبيت المرصد (نيتشر أسترونومي)
قبل أقل من 100 عام، كان بإمكاننا النظر لأعلى ورؤية سماء الليل المرصعة بالنجوم الزاهية. لكن هذه التجربة الرائعة على وشك أن تصبح أمرا من الماضي بسبب الاستخدام المتزايد والواسع النطاق للضوء الاصطناعي في الليل، الذي يتسبب في إضعاف نظرتنا إلى الكون، ويؤثر سلبا على بيئتنا وسلامتنا واستهلاكنا للطاقة وصحتنا.
في 4 دراسات نشرت معا يوم 20 مارس/آذار الجاري في دورية "نيتشر أسترونومي" (Nature Astronomy)، حذر باحثون من أن زيادة الأضواء من الأرض والأقمار الصناعية، فضلا عن الحطام الفضائي، كلها أمور تثير مخاوف الفلكيين بشأن الآثار المحتملة للتلوث الضوئي، بالإضافة إلى التداخل المحتمل مع المراصد الأرضية والفضائية.
ووفقا للمؤلفين، فإن التلوث الضوئي من الأرض وكذلك من الأقمار الصناعية في مدار الأرض المنخفض آخذ في الازدياد، إذ لا توجد الآن تقريبا أماكن نائية على الأرض تفي بالمعايير المناسبة لتثبيت مرصد بسبب التلوث الضوئي.
ويعتقد المؤلفون أن المشكلات المرتبطة بمكافحة التلوث الضوئي والتلوث الفضائي هي مشاكل اجتماعية وسياسية وليست تكنولوجية، ويقترحون أنه يجب وضع أغطية ملزمة لوقف تصاعد الضوء الاصطناعي في الليل والأبراج الفضائية.
سماء الليل في ناميبيا (يسار) مقارنة بالسماء في بورتو بالبرتغال ويبدو الفرق في التلوث الضوئي (نيتشر أسترونومي)
زيادة غير مسبوقة
خلال الأعوام الخمسة الماضية، شهدت أعداد الأقمار الصناعية زيادة غير مسبوقة بلغت الضعف، منذ إطلاق شركة "سبيس إكس" الأميركية آلاف الأقمار الصناعية عام 2019 في المدار الأرضي المنخفض، الذي يقل عن ألفي كيلومتر فوق الأرض. يزيد كل قمر صناعي جديد من خطر اصطدامه بجسم آخر يدور حول الأرض، مما يسبب مزيدا من الحطام.
ومع زيادة التلوث الضوئي، تخلق الاصطدامات المتتالية بين الأقمار الصناعية والأجسام التي تدور حول الأرض تفاعلا بين الشظايا الصغرى من الحطام، مما يكون سحابة "النفايات الفضائية" التي تعكس الضوء إلى الأرض.
وفي تصريح للجزيرة نت، قال فابيو فاليتشي، الباحث في معهد التلوث الضوئي والتكنولوجيا في إيطاليا، والباحث الرئيسي في إحدى الدراسات الأربع، إن النتائج التي توصل لها فريقه تمثل أول محاولة ناجحة لقياس مدى تأثير سماء الليل الأكثر إضاءة على عمل المراصد الفلكية، بالإضافة إلى كلفتها المالية العالية.
وأوضح فاليتشي أن وصف التلوث الضوئي يتوافق من حيث التركيز الحجمي للفوتونات البشرية المنشأ في الغلاف الجوي، مع التعريفات المعتمدة من الأمم المتحدة لتلوث الهواء.
إذ تعرف المنظمة الدولية تلوث الهواء بأنه إدخال الإنسان، بشكل مباشر أو غير مباشر، المواد أو الطاقة في الهواء، مما يؤدي إلى آثار ضارة لهذه الطبيعة تعرض صحة الإنسان للخطر، وتضر بالموارد الحية والنظم البيئية والممتلكات المادية وتضعف أو تتداخل مع وسائل الراحة والاستخدامات المشروعة الأخرى للبيئة.
ويرى الباحث أنه لو طبقنا هذا المفهوم على الطاقة، فسنجد أنها تشمل الحرارة والضوء والضوضاء والنشاط الإشعاعي وتنطلق في الغلاف الجوي من خلال الأنشطة البشرية.
ويضيف فاليتشي أن "الحقيقة هي أن كثيرا من الإضاءة الخارجية المستخدمة في الليل غير فعالة، ومشرقة للغاية، وموجهة بشكل سيئ، ومحمية بشكل غير صحيح، وفي كثير من الحالات، غير ضرورية على الإطلاق. ويتم إهدار هذا الضوء والكهرباء المستخدمة في إنشائه من خلال تسليطه إلى السماء، بدلا من تركيزه على الأشياء الفعلية والمناطق التي يريد الناس إضاءتها".
سطوع سماء الليل يهدد علاقتنا بالفضاء عبر إضعاف قدرة المراصد على رصد الأجرام والحركات السماوية (فيز دوت أورغ)
إضعاف قدرة المراصد الفلكية
وفي الدراسة الثانية، أوضح الباحثون أن النمذجة التي أجريت على مرصد "فيرا روبين"، وهو تلسكوب عملاق قيد الإنشاء حاليا في تشيلي، كشفت عن أن الجزء الأكثر ظلمة من سماء الليل سيصبح أكثر إشراقا بنسبة 7.5% خلال العقد المقبل. ويعتقد مؤلفو الدراسة أن ذلك من شأنه أن يقلل عدد النجوم التي يستطيع المرصد رؤيتها بنحو 7.5%.
وقد استخدمت دراسة أخرى نمذجة مكثفة للإشارة إلى أن القياسات الحالية للتلوث الضوئي تقلل بشكل كبير من هذه الظاهرة. ووفقا للبيان الصحفي المنشور على موقع "فيز دوت أورغ" (Phys.org)، حذر الباحثون من أن سطوع سماء الليل لن يؤثر فقط على علماء الفلك المحترفين والمراصد الكبرى، بل يهدد علاقتنا بالفضاء عن طريق إضعاف قدرة المراصد على رصد الأجرام والحركات السماوية.
اليوم، ونظرا لزيادة التلوث الضوئي، لم تعد هناك تقريبا أماكن نائية متوفرة على الأرض تلبي جميع الخصائص اللازمة لتثبيت المرصد. تعمل معظم التلسكوبات التي يبلغ ارتفاعها 3 أمتار أو أعلى تحت سماء الليل التي تتجاوز الحد الأقصى المسموح به في الاتحاد الفلكي الدولي للتداخل المقبول بواسطة الضوء الاصطناعي. ونظرا لندرة المواقع المناسبة لإنشاء المراصد، يدعو المؤلفون للحفاظ على ظلام سماء الليل للمواقع الفعلية والمحتملة.
ودعا علماء الفلك إلى الحد بشكل جذري من الأبراج الضخمة، مضيفين أنه يجب ألا تقابل فكرة إمكانية حظر هذه الأبراج بالرفض، خاصة أن مثل هذه الأبراج ترفع الكلفة الاقتصادية -الضخمة بالفعل- لدراسات الفضاء.