على الرغم من عدم تمكن الباحثين من اكتشاف أسباب صمم بيتهوفن، فإن علم الجينوم في تطور سريع، ويمكن مستقبلا الوقوف على أسباب إصابته بالصمم.
حالة بيتهوفن الصحية ظلت محل نقاش بين العلماء منذ وفاته (شترستوك)
مطلع القرن الـ 19، وتحديدا في 27 مارس/آذار 1827، اكتشف اثنان من رفاق الموسيقار الألماني الشهير لودفيغ فان بيتهوفن اليوم التالي لوفاته رسالة مؤثرة كتبها عام 1802 إلى إخوته، اعترف فيها بأنه يعاني من فقدان تدريجي في حاسة السمع وأن حالته ميؤوس منها، ولولا فنه وأنه ما يزال أمامه الكثير ليقدمه لأقبل على الانتحار، وطلب بيتهوفن من طبيبه الخاص الدكتور يوهان آدم شميت أن يعلن تفاصيل مرضه للعامة بعد وفاته.
ومنذ ذلك الحين، ظلت حالة بيتهوفن الصحية محل نقاش بين العلماء. وسابقا، اعتمد الباحثون بشكل أساسي على مصادر وثائقية بما في ذلك رسائل بيتهوفن، ومذكراته، وكتب المحادثة، وملاحظات الأطباء، وتقرير تشريح جثته، ولكن لم يتطرق أحد من قبل إلى الأبحاث الجينية لتفسير أسباب مرضه.
لذلك، أجرى فريق دولي ضم باحثين من جامعة كامبريدج، ومركز بيتهوفن في سان خوسيه، وجمعية بيتهوفن الأميركية، ومستشفى بون الجامعي، ومعهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية، بحثا يكشف معلومات مهمة حول حالة بيتهوفن الصحية وسبب وفاته، وقد نشروا نتائجهم بدورية "كارنت بايولوجي" (Current Biology) في 22 مارس/آذار الجاري.
خصلات من شعر بيتهوفن أرسلها إلى لاعب البيانو يوهان أندرياس شتومف (فيز دوت أورغ)
التحليل الجيني لخصلات شعر بيتهوفن
قام الباحثون بتحليل مكثف لجينوم بيتهوفن من خصل شعر "أصلية" تعود إلى آخر 7 سنوات من حياته ومتطابقة جينيا مع أسلافه للوقوف على أسباب مرضه، وإذا ما كانت جيناته مسؤولة عنها.
ودرس الباحثون 8 خصلات شعر قيل إنها تعود لبيتهوفن، تعرف هذه الخصلات بأسماء من تلقوها من بيتهوفن في حياته كتذكار وهم: مولر، برمان، هالم ثاير، موشيلس، شتومف، كراموليني براون، هيلر، كيسلر. وقد حصل الباحثون على تلك الخصلات لدراستها من مجموعات المقتنيات العامة والخاصة بالمملكة المتحدة وأوروبا والولايات المتحدة.
وقد أثبت الباحثون أن هناك 5 خصلات فقط أصلية، وأهمها خصلة أرسلها بيتهوفن إلى لاعب البيانو يوهان أندرياس شتومف مع رسالة، حيث كانت الخصلة محفوظة جيدا وتوافقت جينيا مع أشخاص على قيد الحياة ومشتركين مع أصول بيتهوفن.
من ناحية أخرى، كانت المفاجأة أن خصلة "هيلر" الشهيرة والتي كان يُعتقد سابقا أنها تعود لبيتهوفن، اتضح أنها خصلة غير أصلية وتعود لامرأة وليست للموسيقار، وكانت ملوثة بالرصاص مما دفع العلماء للاعتقاد بأن بيتهوفن كان مصابا بتسمم الرصاص، وأن كل آلامه التي عانى منها بسبب ذلك.
خصلة هيلر التي اكتشف الباحثون انها تعود لامرأة وليس بيتهوفن (جامعة ولاية سان خوسيه)
استعداد بيتهوفن وراثيا للأمراض
من المعروف أن بيتهوفن عانى منتصف عشرينياته من فقدان تدريجى في حاسة السمع، إلى أن أنتهى به الأمر بإصابته بالصمم عام 1818، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أنه كان يعاني من آلام معوية مبرحة، وتعرض لنوبتين من اليرقان وهو اصفرار بالجلد والعينين ويعتبر دليلا على وجود مرض حاد في الكبد بلغ ذروته قبيل وفاته بشهور عن عمر ناهز 56 عاما.
وكشفت نتائج البحث أن بيتهوفن كان مستعدا وراثيا للإصابة بأمراض الكبد، ومع تناوله للخمور بانتظام أصيب بتليف في الكبد، مما أدى إلى تدهور حالته الصحية، وهذا يعد تفسيرا كافيا لمرض كبده الحاد.
ومن ناحية أخرى تمكن الباحثون من إثبات إصابة بيتهوفن بعدوى فيروس الكبد "بي" (B) ولكن لم يكن من الواضح ما إذا كان المرض مزمنا أي أصيب به في سن صغيرة (انتقل إليه من أمه أثناء الولادة) أم أصيب به نتيجة عدوى حديثة بسبب عمليات جراحية أو بسبب الاتصال الجنسي.
وقال تريستان بيغ المؤلف الأول بالدراسة والباحث في جامعة كامبريدج في بيان صحفي "استنتجنا من كتب المحادثة التي استخدمها بيتهوفن خلال العقد الأخير من حياته -ليتمكن أصدقاؤه ومعارفه من تدوين جانبهم من المحادثة- أنه كان يتناول الخمر بانتظام، وعلى الرغم من صعوبة تقدير الكميات التي استهلكها زعم معظم معاصروه أن استهلاكه كان معتدلا وفقا للمعايير آنذاك. ولكن الوقت الحالي، يعتبر استهلاكه للخمر كان ثقيلا وكان له أكبر الأثر على كبده".
الجينوم لم يكشف سبب صمم بيتهوفن إلا أن العلم في تطور سريع ويمكن أن يكشفه يوما ما (أسوشيتد برس)
أسباب إصابة بيتهوفن بالصمم
وعلى الرغم من التقدم الكبير في علم الوراثة الطبية، فإن الأسباب الجينية للعديد من الأمراض ليست مفهومة تماما، لا سيما في حالة الأمراض متعددة الأسباب، والتي تجمع بين أسباب جينية، وأخرى غير جينية قد تساهم بشكل كبير في تطور المرض، وهنا يزداد الأمر تعقيدا، لذلك لم يجد الباحثون سببا وراثيا مسؤولا عن فقدان سمع بيتهوفن.
يقول الدكتور أكسل شميت من معهد علم الوراثة البشرية بمستشفى جامعة بون "على الرغم من عدم تمكننا من اكتشاف أسباب صمم بيتهوفن، فإن علم الجينوم في تطور سريع، ويمكن مستقبلا الوقوف على تلك الأسباب".
وعلى غرار نتائج فقدان السمع، لم يعثر الباحثون على تفسير وراثي لشكاوى بيتهوفن من معدته. ومع ذلك، تمكنوا من دحض صحة بعض التشخيصات السابقة، على سبيل المثال، استبعاد احتمالية عدم تحمل معدته للاكتوز أو إصابته بالقولون العصبي.
يقول يوهانس كراوس الباحث في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية "لا يمكننا الجزم بأسباب موت بيتهوفن، لكن يمكننا الآن تأكيد استعداده الوراثي للإصابة بمرض الكبد، وإصابته بفيروس التهاب الكبد بي".
ويأمل المؤلف الأول بالدراسة والباحث بجامعة كامبريدج أن تساهم إتاحة تسلسل جينوم بيتهوفن للباحثين في الإجابة عن الأسئلة المتبقية حول صحة الموسيقار الشهير يوما ما.