نصوص من كلام الجاحظ


اللسان


هو أداة يظهر بها البيان، وشاهد يعبر عن الضمير، وحاكم يَفْصل الخطاب، وناطق يُرد به الجواب، وشافع تُدَرك به الحاجة، وواصف تُعرَف به الأشياء، وواعظ ينهى عن القبيح، ومعز يبرد الأحزان، ومعتذر يرفع الضغينة، ومُلهٍ يونق الأسماع، وزارع يحرث المودة، وحاصد يستأصل العداوة، وشاكر يستوجب المزيد، ومادح يستحق الألفة، ومؤنس يذهب الوحشة.

العقل
ليس على ظهرها إنسان إلا معجب بعقله، لا يسرُّه أن له بجميع ما له ما لغيره، ولولا ذلك لماتوا كمدًا ولذابوا حسدًا، ولكن كل إنسان وإن كان يرى أنه حاسد في شيء، فهو يرى أنه محسود في كل شيء.

الكلام البليغ
ومتى شاكل — أبقاك الله — اللفظ معناه، وكان لذلك الحال وفقًا، ولذلك القدر لَفْقًا، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف؛ كان قمنًا بحسن الموقع، وحقيقًا بانتفاع المستمع، وجديرًا أن يمنع صاحبه من تأوُّل الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، ولا تزال القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة.

ومتى كان اللفظ أيضًا كريمًا في نفسه، متخيَّرًا من جنسه، وكان سليمًا من الفضول، بريئًا من التعقيد، حُبِّبَ إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والْتحم بالعقول، وهشت له الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالِم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريض. ومن أعاره من معرفته نصيبًا، وأفرغ عليه من محبته ذَنوبًا، خبت إليه المعاني، وسلس له نِظَام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع عن كد التكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم.

كلام النبي
عاب النبي ﷺ التشديق، وجانَب أصحاب التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُف بالعصمة، وشُيد بالتأييد، ويُسر بالتوفيق، وألقى الله عليه من المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام والإيجاز. ومع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلَّت به قدم، بل يبذ الخُطَب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر.

وما سُمع كلام قط أعم نفعًا، ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا من كلامه ﷺ.

جوامع كلمه
يجب للرجل أن يكون سخيًا لا يبلغ التبذير، شجاعًا لا يبلغ الهَوَج، محترسًا لا يبلغ الجبن، ماضيًا لا يبلغ القحة، قوَّالًا لا يبلغ الهذر، صموتًا لا يبلغ العي، حليمًا لا يبلغ الذل، منتصرًا لا يبلغ الظلم، وقورًا لا يبلغ البلادة، ناقدًا لا يبلغ الطيش. ثُمَّ وجدنا رسول الله ﷺ قد جمع ذلك في كلمة واحدة، وهي قوله: «خير الأمور أوساطها»، فعلمنا أنه ﷺ قد أُوتي جوامع الكلم، وعُلِّم فصل الخطاب.

سحر البيان
قال بعض الربانيين وأهل المعرفة من البلغا، ممن يكره التشادق والتعمق، ويبغض الإغراق في القول والتكلف والاجتلاب، ويعرف أكثر أدواء الكلام ودوائه، وما يعتري المتكلم من الفتنة بحسن ما يقول، وما يعرض للسامع من الافتتان بحسن ما يسمع: أنذركم حسن الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظًا حسنًا، وأعاره البليغ مخرجًا سهلًا، ومنحه المتكلم قولًا متعشِّقًا؛ صار في القلب أحلى، وللصدر أملأ. والمعاني إذا كسبت الألفاظ الكريمة، وأُلبست الأوصاف الرفيعة؛ تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها، بقدر ما زُيِّنت، وعلى حسب ما زُخرفت، والقلب ضعيف، وسلطان الهوى قوي، ومدخل خدع الشيطان خفي.

عدوى الإسفاف
اعلم أن المعنى الحقير الفاسد واللفظ الساقط يعشش في القلب، ثُمَّ يبيض، ثُمَّ يفرخ، ثُمَّ يستفحل الفساد؛ لأن اللفظ الهجين الرديء عَلِقٌ باللسان، وآلف للسمع، وأشد التحامًا بالقلب من اللفظ النبيه الشريف والمعنى الرفيع الكريم. ولو جالست الجهال والحمقى والسفهاء شهرًا فقط، لكسبت من أوضار كلامهم وخبال معانيهم ما لم تكتسبه من مجالسة أهل البيان دهرًا؛ لأن الفساد أسرع إلى الناس وأشد التحامًا بالطبائع. والإنسان بالتعلم والتكلف، وبطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء، يجود لفظه، ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخير.

العفو
من انتقم فقد شفى غيظ نفسه، وأخذ أقصى حقه، وإذا انتقمت فقد انتقصت، وإذا عفوت تطوَّلت. ومن أخذ حقه وشفى غيظه لم يجب شكره، ولم يُذكر في العالمين فضله. وكظْم الغيظ حلم، والحلم صبر، والتشفي طرف من العجز، ومن رضي أن لا يكون بين حاله وحال الظالم إلا ستر رقيق، وحجاب ضعيف، لم يجزم في تفضيل الحلم، وفي الاستيثاق مِن ترك دواعي الظلم، ولم ترَ أهل النُّهى والمنسوبين إلى الحجى والتقى، مدحوا الحكام بشدة العقاب، وقد ذكروهم بحسن الصفح، وبكثرة الاغتفار، وشدة التغافل.

وبعدُ، فالمعاقب مستعد لعداوة أولياء المذنب، والمعافي مستدعٍ لشكرهم، آمنٌ من مكافأتهم أيام قدرتهم.

ولَأَنْ يُثنى عليك باتساع الصدر خيرٌ من أن يُثنى عليك بضيق الصدر، على أن إقالتك عثرة عباد الله موجب لإقالتك عثرتك من رب عباد الله، وعفوك عنهم موصول بعفو الله عنك، وعقابك لهم موصول بعقاب الله لك، والموت الفادح خير من اليأس الفاضح.

بلاغة العرب
كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يَمْتح على رأس بئر أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع أو في حرب؛ فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالًا وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثمَّ لا يقيده على نفسه ولا يدرِّسه أحدًا من ولده، وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه في البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ أو يحتاجوا إلى تدارُس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب. وإن شيئًا الذي في أيدينا جزء منه، لبالمقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب وعدد التراب، وهو الذي يحيط بما كان والعالِم بما سيكون.

ونحن — أبقاك الله — إذا ادَّعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول في مثل ذلك إلا في اليسير والنبذ القليل، ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة، إذا كان مثل ابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عبيد الله وعبد الحميد وغيلان وفلان وفلان يستطيعون أن يولِّدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السير.

وأخرى أنك متى أخذت بيد الشعوبي، فأدخلته بلاد الأعراب الخلص، ومعدن الفصاحة التامة، ووقفته على شاعر مفلق، أو خطيب مصقع، علم أن الذي قلت هو الحق، وأبصر الشاهد عيانًا.

فهذا فرق ما بيننا وبينهم، فتفهم عني — فهَّمك الله — ما أنا قائل في هذا، واعلم أنك لم ترَ قومًا قط أشقى من هؤلاء الشعوبية، ولا أعدى على دينه، ولا أشد استهلاكًا لعرضه، ولا أطول نصبًا، ولا أقل غنمًا من أهل هذه النحلة. وقد شفى الصدور منهم طويل جثوم الحسد على أكبادهم، وتوقد نار الشنآن في قلوبهم، وغليان تلك المراجل الفائرة، وتسعُّر تلك النيران المضطرمة. ولو عرفوا أخلاق كل ملة، وزي كل لغة، وعللهم في اختلاف إشاراتهم وآلاتهم وشمائلهم وهيئاتهم، وما علة كل شيء من ذلك، ولِمَ اختلقوه ولِمَ تكلفوه؛ لأراحوا أنفسهم، وتخففت مؤنتهم على من خالطهم.

البكاء
البكاء صالح للطبائع، ومحمود المغبة إذا وافق الموضع، ولم يجاوز المقدار، ولم يعدل عن الجهة، ودليل على الرقة، والبعد من القسوة، وربما عد من الوفاء، وشدة الوجد على الأولياء، وهو من أعظم ما تقرب به العابدون، واسترحم به الخائفون. قال بعض الحكماء لرجل اشتد جزعه من بكاء صبي له: لا تجزع فإنه أفتح لجرمه، وأصح لبصره. وضرب عامر بن عبد قيس بيده على عينه، فقال: جامدة شاخصة لا تندى. وقيل لصفوان بن محرر عند طول بكائه وتذكر أحزانه: إن طول البكاء يورث العماء، فقال: ذلك لها شهادة. فبكى حتى عمي. وقد مُدح بالبكاء ناس كثير منهم يحيى البكَّاء وهيثم البكَّاء، وكان صفوان بن محرر يسمى البكَّاء.

الضحك
ما ظنك بالضحك الذي لا يزال صاحبه في غاية السرور إلى أن ينقطع عنه سببه، ولو كان الضحك قبيحًا من الضاحك وقبيحًا من المضحك، لَمَا قيل للزهرة والحبرة والحلي والقصر المبني كأنه يضحك ضحكًا. وقد قال الله جل ذكره: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا، فوضع الضحك بحذاء الحياة، ووضع البكاء بحذاء الموت، وأنه لا يضيف الله إلى نفسه القبيح، ولا يمن على خلقه بالنقص.

وكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيمًا، ومن مصلحة الطباع كبيرًا، وهو شيء في أصل الطباع، وفي أساس التركيب؛ لأن الضحك أول خير يظهر من الصبي، وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوته. ولفضل خصال الضحك عند العرب تسمي أولادها بالضحاك وببسَّام وبطَلْق وبطليق. وقد ضحك النبي ﷺ وفرح، وضحك الصالحون وفرحوا. وإذا مدحوا قالوا: هو ضحوك السن، وبسام العشيات، وهش إلى الضيف، وذو أريحية واهتزاز. وإذا ذمُّوا قالوا: هو عبوس، وهو كالح، وهو قطوب، وهو شتيم المحيا، وهو مكفهر أبدًا، وهو كريه ومقبض الوجه وحامض الوجه، وكأنما وجهه بالخل منضوح.

وللضحك موضع وله مقدار، وللمزح موضع وله مقدار، متى جازهما أحد، وقصر عنهما أحد، صار الفاضل خطلًا والتقصير نقصًا؛ فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر، ولم يعيبوا المزح إلا بقدر، ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي جُعل له الضحك، صار المزح جِدًّا والضحك وقارًا.