العراق بعد 20 عاما على سقوط صدام: "من المستحيل أن يصبح الشيعة مرة أخرى مواطنين من الدرجة الثانية"
نشرت في: 20/03/2023
كيف هو حال العراق بعد 20 عاما على سقوط نظام صدام حسين؟ هل تمكن من بناء مؤسسات ديمقراطية والتأسيس لاقتصاد متين بفضل ثرواته النفطية الهائلة، أم إنه لا يزال رهينة الصراعات والتجاذبات الإقليمية والدولية؟ كيف تؤثر الدول المجاورة على قراره السياسي الداخلي، وهل بقدرة بغداد الدفاع عن سيادتها؟ كيف تحولت التركيبة السكانية في بلاد الرافدين، وما مصير الطائفة السنية التي فقدت مكانتها عقب سقوط صدام حسين ونظام البعث؟ فرانس24 تعطيكم بعض المفاتيح لفهم "عراق اليوم".
مرت عشرون سنة على الغزو الأمريكي للعراق، ولا يزال هذا البلد الغني بالنفط يتخبط في مشاكل سياسية واقتصادية خانقة. فشلت الحكومات التي تناوبت على السلطة منذ سقوط نظام صدام حسين في 2003 في بناء اقتصاد قوي رغم الثروات الطبيعة الهائلة التي تملكها بغداد. وفشلت أيضا في إرساء الديمقراطية الحقيقية والحكم الرشيد والتناوب السلمي على السلطة ومحاربة الفساد واحترام كل مكونات المجتمع العراقي ومختلف الثقافات.
وفي العقدين الماضيين، تغيرت الجغرافية السياسية العراقية بشكل كبير، بعدما سيطرت الطائفة السنية على جميع مؤسسات الدولة مدة 24 عاما (أي منذ وصول صدام حسين إلى الحكم في 1979 إلى غاية سقوطه في 2003).
الغزور الأمريكي للعراق.. بين الأهداف والواقع
وأصبحت التركيبة الشيعية -والتي تتمتع بالغالبية مع حوالي 65 بالمئة من العراقيين- تتمسك بمفاصل المشهد السياسي برمته وتحت رقابة الحليفة الجارة إيران والميليشيات الشيعية المسلحة المدعومة من قبل رجال دين عراقيين وإيرانيين والممثلة من قبل شخصيات سياسية نافذة في مؤسسات الدولة.
أما العراقيون الذين كانوا يحلمون بحياة سعيدة في وطن جديد تسود فيه العدالة الاجتماعية والرخاء والديمقراطية، فأصبحوا يشككون في قدرة دولتهم على توفير العيش الكريم لأبنائها، بعيدا عن التجاذبات السياسية والصراعات الإقليمية والطائفية. والسؤال الذي يطرحه العديد من المراقبين بعد مرور عقدين على سقوط نظام صدام حسين، هل تحسن المشهد السياسي العراقي أم تعفن؟
"سياسة الحصحصة عززت الفكر الطائفي والانتماء إلى المراجع الدينية"
بالنسبة للباحثة الفرنسية روميانا أوغراتشنسكا، وهي أستاذة جامعية متخصصة في الشأن العراقي، فإن "الغزو الأمريكي دمر" البلاد "بشكل كبير وتسبب بمقتل مئات الآلاف من العراقيين وزعزع الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وأدى إلى ظهور جماعات إرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية".
مقاتلو سرايا السلام التابعة للصدر يتجمعون خلال اشتباكات مع قوات الأمن العراقية قرب المنطقة الخضراء، بغداد، العراق في 30 أغسطس/آب 2022. © رويترز.
وقالت لفرانس24: "بعد مرور 20 عاما على الغزو الأمريكي، تحول العراق إلى طنجرة يمكن أن تنفجر في أية لحظة، إذ إن الدولة غائبة والميليشيات تتحكم في الوضع. أما نسبة الفقر، فقد ارتفعت رغم أن العراق يحتل المرتبة الخامسة عالميا في قائمة الدول الغنية بالنفط".
وأضافت الباحثة أن الولايات المتحدة، "بعدما حلت حزب البعث والجيش العراقيين في 2003، فرضت سياسية الحصحصة السياسية (الرئيس كردي ورئيس الحكومة شيعي ورئيس البرلمان سني) على غرار ما هو متعامل به في لبنان. لكن رغم ذلك، لم تتوصل إلى بناء نظام سياسي ديمقراطي وعادل. بالعكس سياسة الحصحصة عززت الفكر الطائفي والانتماء إلى المراجع الدينية وحالت دون بناء دولة وطنية تتسع للجميع ولا ترتكز على الطائفية أو على الدين".
الغزور الأمريكي للعراق.. بين الأهداف والواقع -الجزء 2
وتابعت: "الأكراد والشيعة عززوا سلطتهم على حساب السنة، والميليشيات أصبحت هي التي تسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد بدعم من إيران، التي تسعى لنشر الثورة الإسلامية واستغلال الفراغ الأمني الذي تركه الأمريكيون والتأثير على القرار السياسي العراقي بفضل دعم السياسيين الشيعة الموالين لها والميليشيات المسلحة التي أسستها ومولتها بهدف محاربة تنظيم الدولة الإسلامية ما بين 2014 و2017".
وبخصوص مستقبل العراق، أكدت روميانا أوغراتشنسكا أن "طالما الفكر الطائفي هو السائد والمهيمن في العراق، من الصعب جدا بناء نظام ديمقراطي حقيقي ودولة تحترم جميع مكونات المجتمع وتقف على الحياد إزاء الطوائف".
وتخشى هذه الباحثة من ظهور جماعات إرهابية جديدة في العراق بسبب تهميش الطائفة السنية، والتي قالت إنها أُرغمت على مغادرة منازلها وترك ممتلكاتها بالقوة. وأضافت: "هناك خلايا إرهابية نائمة لـداعش بالمناطق السنية كالأنبار وتكريت والموصل، ومقاتلون مستعدون لرفع السلاح مجددا وفي أية لحظة".
لكن رغم كل هذا، تأمل أن يعود الاتفاق السعودي-الإيراني الأخير بإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، "بالخير على العراق وأن يساعد في التقارب بين الشيعة والسنة ويخفف من حدة الصراعات الطائفية والتدخل الإيراني"، مشيرة أن من بين الحلول التي يمكن أن تُخرج العراق من دوامة التجاذبات السياسية هو أن "يلتحق بمجلس التعاون الخليجي، وهو مطلب قديم لبغداد يعود إلى عام 1981".
أنصار مقتدى الصدر يتظاهرون أمام مقر البرلمان في بغداد، في28 سبتمبر/أيلول 2022. © أ ف ب
"صحيح أن هناك تأثير إيراني على القرار السياسي في بغداد... لكن أن يتبع العراق إيران فهذا أمر مرفوض"
من جانبه، يرى المحلل السياسي العراقي رعد الكعبي -الأستاذ في كلية الإعلام بجامعة بغداد- أن الشعب العراقي لا يزال يدفع ثمن الأخطاء التي ارتكبها صدام حسين وبعض السياسيين الذين حكموا البلاد في مرحلة ما بعد صدام.
وتساءل "كيف يمكن أن نحل المشاكل السابقة ونخوض في بناء عراق جديد يكون توافقيا ويؤمن بالمكون الآخر وبالنظام الديمقراطي في حين لا زلنا ندفع ثمن الأخطاء التي ارتكبت بالماضي. نحن نحتاج إلى وقت أكثر وإلى إمكانيات أكبر".
أنصار الصدر يقتحمون مبنى البرلمان في بغداد، العراق في 27 يوليو/تموز 2022. © رويترز
وخلافا للذين ينتقدون الدور الذي تلعبه إيران في العراق منذ 20 عاما، أكد رعد الكعبي أن طهران بالعكس ساعدت العراقيين ولعبت دورا محوريا بمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، منتقدا في الوقت نفسه تركيا والسعودية اللتين تريدان أن يكون لهما موطئ قدم في أرض العراق.
وقال المحلل لفرانس24: "كثير من الدول بما فيها فرنسا والولايات المتحدة والسعودية وتركيا تخلت عن العراق. الدولة الوحيدة التي وقفت معنا في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية هي إيران. لهذا السبب لا يمكن للشعب العراقي أن ينكر الدور الذي لعبته طهران. لكن في نفس الوقت لا يمكن أن ندفع أبدا ثمن هذا الموقف البطولي الإيراني بالتخلي عن سيادتنا الوطنية. هذا أمر مرفوض تماما. صحيح هناك تأثير إيراني على القرار السياسي في العراق، كالتأثير الذي تمارسه دول أخرى على بلادنا مثل الولايات المتحدة وتركيا ودول أخرى. لكن أن يتبع العراق إيران فهذا أمر مرفوض".
هل يمكن أن يحذو سنة العراق حذو الأكراد ويصبحون كيانا سياسا واقتصاديا؟
وفيما يتعلق بتبعية بعض الميليشيات الشيعية المسلحة لشخصيات ومراجع دينية إيرانية، أكد رعد الكعبي أن هذا الأمر صحيح "لكن هذا لا يعني بأن هذه الميليشيات تابعة لإيران بل هي تقلد السيد السيستاني أو الإمام خامنئي".
وأوضح: "الناس لا تفرق بين التقليد الديني والتبعية إلى المرجع في المذهب الشيعي. نحن لا نؤمن أنه يجب أن تكون المرجعية داخل البيت حتى تقلد. هناك مثلا العديد من الفرنسيين العرب الذين يقلدون السيد السيستاني فلماذا لا يقال عنهم بأنهم يتبعون لإيران؟".
الضربات الإيرانية في 27 سبتمبر/ أيلول 2022 في كردستان العراق © استوديو غرافيك فرانس ميديا موند
وحول معاناة المواطنين السنة في ظل حكم الشيعة، صنف هذا الباحث التركيبة السنية إلى ثلاثة أصناف. الأول هم السنة الذين لا يزالون يحنون إلى نظام صدام حسين. أما الثاني هم الذين فهموا بأنه يتوجب عليهم الانخراط في العملية السياسية مع الشيعة لبناء عراق جديد متعدد الأطياف. أما الصنف الثالث فهم يمثلون السنة الذين انخرطوا في صفوف تنظيم "الدولة الإسلامية".
وقال رعد الكعبي إن على سنة العراق أن يفهموا بأنه "من المستحيل أن تعود الأمور إلى الوراء ويصبح الشيعة مواطنين من الدرجة الثانية مرة أخرى". ودعاهم إلى أن يحذوا حذو التجربة الكردية و"يأسسوا كيانا سياسيا واقتصاديا وإداريا متماسكا وقويا في إطار ما يسمى بالفيدرالية شرط أن يخضعوا لراية الدولة العراقية ويتم هذا عن طريق الانتخابات".
ويعتقد الكعبي أن غدا مشرقا ينتظر العراق الذي يملك ثروات هائلة، معترفا بأن "الحكومات والبرلمانات السابقة كانت ترحل المشاكل وتعلقها عوض أن تحسم الملفات التي تراكمت منذ سنين كما تقوم به اليوم حكومة السوداني".
رئيس الحكومة العراقية الجديد محمد شياع السوداني، 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2022. © أسوشيتد برس عبر البرلمان العراقي
فعلى الصعيد الاقتصادي، ورغم الموارد النفطية الهائلة التي يملكها العراق، يواجه المواطنون مشاكل اجتماعية كبيرة على غرار البطالة التي تطال أكثر من 15 بالمئة من السكان.
"الخطة في 2003 كانت ترمي لإسقاط الدولة العراقية وليس فقط نظام صدام حسين"
وكتبت صحيفة "نيويورك تايمز" أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية السيئة السائدة في العراق لم تكن هي الصورة التي ينشدها العراقيون عقب الإطاحة بنظام صدام حسين قبل 20 عاما.
وأضافت أن العراقيين يرون أن مستقبل بلادهم الاقتصادي قاتم، إذ تم إهدار جزء كبير من الثروات في مشاريع كبرى لم تنته بعد، وفقدت نسبة ضخمة جراء الفساد المستشري، في حين ذهبت نسبة كبيرة من المداخيل إلى القطاع العام الذي أصبح أمل العراقيين في النجاة من قبضة الفقر.
من جهتها، أكدت وزارة التخطيط العراقية أن ربع العراقيين يعيشون إما على أو تحت عتبة خط الفقر (2,5 دولار في اليوم) إضافة إلى الفساد المستشري بالمجتمع والدوائر الحكومية وارتفاع المديونية إلى حوالي 100 مليار دولار.
ويعتقد الباحث والمحلل السياسي العراقي كفاح محمود أن جل المشاكل السياسية والاقتصادية التي يعاني منها العراق سببها "الإطاحة بالدولة العراقية في 2003 مع الإطاحة بنظام صدام حسين".
وقال: "في 2003، كانت الخطة تهدف إلى إسقاط الدولة العراقية وليس فقط إسقاط نظام صدام حسين. كنا نأمل أن تأتي بعد ذلك نخب سياسية واقتصادية لقيادة البلاد نحو الأفضل، لكن للأسف الشديد عندما نتمعن في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يصاب الانسان بإحباط كبير".
وتساءل كيف على العراق، الذي يصدّر 4 ملايين برميل من النفط يوميا، أن يعيش فيه 10 ملايين شخص بدون عمل ويصاب حوالي 40 بالمئة من سكانه بالفقر. أما في المجال الأمني أشار كفاح محمود أن القوات العراقية نجحت في تحطيم الهيكل العسكري لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق" لكن هذا الأخير تحول إلى خلايا نائمة.
حقل نفطي في البصرة على مقربة من الحدود مع إيران في 25 آذار/مارس 2019 © أ ف ب/ أرشيف
وأنهى بنوع من الحسرة والأسى عندما قال: "داعش أنجبت الكثير من الدواعش لكن بمسميات أخرى. أقصد هنا الفصائل والميليشيات التي تعبث بالبلاد من سنجار إلى البصرة وتهيمن على كثير من مفاصل الدولة الاقتصادية والأمنية والسياسة، ما يثير الكثير من الشكوك حول مستقبل العراق".