النقد الأدبي عند العرب


رأينا أن النقد الأدبي في فرنسا ابتدأ وسار سيرًا تدريجيًّا، إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن، وكانت أطواره ظاهرة ظهورًا تامًّا، وهو تابع في طريقه وسيره لقانون الارتقاء، وأنه لم ينبت في بلاده، ولم ينشأ بين أهله، بل جاء من الاطلاع على كتب اليونان القديمة، وعلى الحركة الأدبية أيام النهضة في إيطاليا، وأنه أوجد صلة بين النقاد أنفسهم وبين آثارهم في كتاباتهم.

أما النقد الأدبي عند العرب فهو بعيد عن كل فكرة أجنبية، وعن كل أثر خارجي، وليس الغرض منه تقويم حركة العقول والأفكار، بل شرح الشعر العربي وتقرير طريقة الشعر الجاهلي؛ لتكون نموذجًا ومنهجًا للشعراء. وقد سار النقاد في هذا الطريق بعزم صادق، وكلهم أنصار الطريقة العربية الأولى، وساعدهم على بلوغهم ما أرادوا، مزجهم الأدب بالدين؛ فتمكنت الطريقة العربية القديمة وطريقة الخيال والتصور عند العرب من الاستيلاء على أفكار الشعراء والكتاب.

ومع أن اللغة العربية اتسعت بما دخلها من الشعر والنثر، ونتائج العقول والقرائح الكثيرة، فإن النقاد لم يتحولوا عن اتباع القديم، ولم يرقَ الأدب الرقيَّ الذي كان يكون له، ولا سيما الشعر الذي هو أظهر مزايا البلاغة العربية، بل لا يزال الشعر القديم إلى الآن أرقى أنواع بلاغة العرب، وأصحها وأمتع ما فيها؛ ذلك لأن النقاد وأئمة اللغة والأدب قصروا العقول على تقليد الشعر القديم، في الطريقة والأسلوب والصناعة، وحتى في الأفكار والموضوعات …

كان العربي يتأثر بالكلام وضروب البلاغة، وساعدته فطرته على سهولة التعبير، ونبغ في هذا النوع من الشعر الذي دعته الحاجة إليه، ولم يتجه فكره إلى الخروج عن الدائرة التي كان يعيش فيها.

ولم يكد يفهم الناس من بلاغة الشاعر وبراعته إلا ذمًّا مقذعًا، ومدحًا يرفع الممدوح ويجله؛ فدخل المدح والذم في حياة البدوي، وامتزج بنفسه امتزاجًا. وكان تبجيل الشاعر لا يقل عن تبجيل أعظم رجل له أعظم أثر في الحياة، وكان النظر إلى الشعر كالنظر لأكبر أعمال الإنسان في الحياة؛ لذلك فاقت العناية بالشعر ونقده كل عناية، ولقد كان حكمهم على الشعر لا من جهة أنه أثر من آثار العقول والأفكار، بل لأنه من الأشياء الحيوية للإنسان التي تساعده على فهم حياته.

وكأنهم لم يفهموا الشعر إلا بالنسبة لأثره في الخارج، ولم يتذوقوه لِما به من الأفكار أو من حيث إنه فن من فنون الجمال، بل لأنه يرفع من شأن العشيرة ويحط من قدر العدو. وعلى ذلك لم تكن البلاغة معتبرة وسيلة من وسائل تكميل النفوس، ومظهرًا من مظاهر الفنون، بقدر ما كانت معتبرة آلة من آلات المدح أو الذم، أو مظهرًا من مظاهر ميول الشخص وأهوائه.

ومن هنا كانت البذرة الأولى من بذور الشعر الوجداني الشخصي في بلاغة العرب، التي ملكت عقول الشعراء وخيالاتهم وصناعاتهم، ومن هنا أيضًا كان سبب جفاف النقد، فقد اقتصر على الملاحظة بدون أن يغير من حركة الأدب.

ذلك لأن حركة النقد عند العرب كانت مثل حركة الأدب سواء بسواء، ليست نتيجة كدِّ الأفهام وإعمال الفكر، فلم يكن هذا النقد من دواعي التقدم والانتقال في بلاغة العرب. وإذ كان الشعر القديم الجاهلي نموذج الشعر العربي في جميع أزمنته، كانت الحركة الشعرية ضربًا من التقليد المحض في الألفاظ والديباجة، وهذا التقليد هو الذي قاد عقول الكتاب والشعراء وكان مقياسًا لها. وذلك في جملته هو مثال النقد الأدبي العربي في مجموعه، وعليه بُنيت كل فكرة أدبية، ولم يحاول أحد من النقاد الانحراف عن هذا الطريق، فلم يحرر الشعر من الطريقة الأولى، ولم يسلك مسلكًا آخر لا من جهة الأفكار، ولا من جهة الصناعة؛ فوقف النقد أيضًا في طريق واحد وثبت على حال واحدة.

من أجل ذلك كان النقد الأدبي عند العرب فهْم الشعر وتأويله على الطريقة القديمة، التي جعلت الشعر الجاهلي نموذجًا لها؛ فلم يكن له من القوة ما يمكنه من تغيير سَيْر الأفكار، ولا من تقويم حركة العقول.

ولقد يتساءل الإنسان: أكان يكون تقليد الشعر الجاهلي سببًا في وقوف حركة النقد والأدب عند العرب؟ أجل؛ فإن العرب منذ ظهور الشعر فيهم ظنوا أنهم ابتدءوا في ذلك بطريقة كاملة، وأن هذا كل ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من صناعة الكلام، وأنهم طرقوا كل موضوع فوقفوا عند ذلك، بل حافظوا على عدم التوسع، أو الخروج من عاداتهم في صناعة الكلام، وامتلأت نفوسهم بهذا الرأي، فتوارثها الأجيال منهم، وليس تقليد القدماء عند العرب مثل تقليد الفرنسيين لليونان والرومان؛ لأن تقليد هؤلاء كان من الأسباب التي حملت الفرنسيين على الاطلاع على آداب أخرى غير آدابهم؛ فحركت فيهم الميل إلى البحث والموازنة، ووسعت فيهم دائرة النقد.

أما العرب فقد أبقوا النقد على ما هو ثابت في أفكارهم وتابع لآرائهم، بدون أي اقتباس آخر، وبدون أن يرجعوا إلى شيء سوى العمل على تأييد آرائهم؛ وعلى هذا كانت كل قواعد اللغة والبلاغة، فكان مثلهم كمثل صانع يتبع مناهج صنعته ونماذج أعماله، وهو معتقد بدقة عمله، فلا يرغب في أن يعرف أثرًا آخر ينسج على منواله. هذا مثل النقد الأدبي عند العرب. ومثل هذا النقد المحدودة قواعده وطرقه، كان من شأنه أن ينتهي إلى نوع من المباحث اللغوية والقواعد النحوية. نعم، وقد كان ذلك؛ فقد عُني النقاد عناية تامة بالمباحث اللغوية والقضايا اللفظية. ولم يصل النقد إلى حمل الشعراء على النظر في بعض المذاهب الكتابية الأخرى التي ظهرت عند غيرهم من الأمم، ولا إلى البحث في الشعر من حيث إنه باعث من بواعث الأفكار، ومظهر من مظاهر النفس الإنسانية، بل اقتصروا على مباحث دقيقة في الأساليب وضروب التركيب، بدون نظر إلى ما يرقِّي الأفكار، وإلى ما كان يمكن أن يكون سببًا في رقي الشعر وانتقاله من طور إلى طور. وكان النقاد إذا بحثوا في المعنى بحثوا فيه من حيث إنه مظهر من مظاهر براعة الكاتب أو الشاعر، أو من حيث الخيال والتشبيه والاستعارة، وقالوا: «من لوازم الشعر أن يشتمل كل بيت على معنًى تام يصح أن ينفرد به.» فصار نقد القصيدة نقدًا لكل بيت على حدة، ومثل هذا لا يمكن أن يُنتِج في النقد إلا آراءً متقطعة أو أفكارًا مفككة عن الشاعر وعن طريقته؛ إذ لا تظهر براعة الكاتب أو الشاعر إلا في اتصال أفكاره بعضها ببعض، ولا يمكن أن تظهر قوة النقد إلا في بحث وتحليل متسلسلين؛ بحيث يقود الفكر إلى فكر آخر، ويتصل الرأي بالرأي، وإلا كان مثل ذلك مثل باب مصنوع مفكك قطعًا قطعًا، تظهر فيه براعة النجار، ولا يمكن أن يحكم الناظر على صناعته إلا حكمًا ناقصًا.

•••

وإذا بحثنا عن تاريخ النقد الأدبي عند العرب وجدناه ابتدأ مع الشعر، وسار معه وظهر بظهوره؛ فإن المجتمعات والمجالس الكثيرة التي كانت للشعر والشعراء فيها المنزلة الأولى، ربما كانت أكثر ما تكون في التفضيل بين الشعراء، والحكم على أحسن الشعر وأفضله؛ فقد كانوا يفتخرون بالشعراء المجيدين، ويميلون كل الميل إلى حفظ الشعر الجيد وسماعه، ويضربون به المثل في الحِكَم والعظة وفنون الجمال؛ إذ لم يكن لديهم من الفنون غير هذا النوع من جمال القول، وفصاحة اللسان، ودقة البيان؛ ولذلك عظم اهتمامهم به، واتجهت هممهم إلى الإكثار منه، فكانت لهم آراء في الشعر والشعراء، ومذاهب في تفضيل بعضهم على بعض، تناقلها السلف من بعدهم، وأصبحت شيئًا من أصول النقد في بلاغة العرب. ولكنَّ أكثر هذه الآراء فردية، مبنية إما على الذوق الخالص والميل الشخصي، وإما على الأهواء والأغراض الخاصة، وما كان أسهل على أحدهم أن يعجبه البيت فيقول: هذا والله أشعر ما قالته العرب، ثم يسمع بيتًا آخر لشاعر آخر، فيقول: هذا أشعر الناس.

مثل هذه الآراء لا يصح أن تعد من النقد الصحيح، ولو كانت آراء لأكبر الشعراء أو الأدباء؛ لأنها مبنية على الميول الصرفة والأهواء الشخصية، لا على مذهب ثابت، ولا على رأي صحيح؛ فلا يصح أن يكون هذا من النقد في شيء.

كذلك ابتدأ النقد عند العرب، وكان لا بد أن يكون في أول أمره على هذه الحال. ولكنه انتهى أيضًا بنحو ذلك أو ما يقرب من هذا. ولا يمكننا أن نجعل هذه الآراء النقدية داخلة في المذهب النقدي المعروف بمذهب «التأثير والانفعال»؛ لأن هذا المذهب مبني على ذوق سليم، تهذب بالتربية والتعليم والقراءة الكثيرة لأنواع بلاغات الأمم المختلفة، والموازنة بينها.

لهذا كان النقد الأدبي ليس له تاريخ في بلاغة العرب، (ولا بد من الفرق بين النقد الأدبي الذي شرحنا شيئًا منه عند الأمم الأخرى، وبين علوم البلاغة عند العرب)، ولم يبحث فيه باحث بحثًا خاصًّا يبين المذاهب المختلفة، التي كانت تكون هداية الكُتَّاب والشعراء وقدوة البلغاء. فمن العبث أن يبحث الإنسان عن أطوار النقد، أو عن المذاهب المختلفة فيه عند العرب؛ لأنه من الفنون التي لم تنضج في الآداب العربية، ويخيل إلينا أن أدباء العرب لم يفهموا النقد بالطريقة التي يفهمها أدباء اليوم من «تحليل» الأفكار والآراء، وصلة الكتابة بالكُتَّاب أنفسهم، والمؤثرات الأخرى، وأنهم لم يعتبروا أن البلاغة مظهر من مظاهر الاجتماع، وغير ذلك من الأسباب التي دعت إلى رقي الأدب الحديث.

ونعود فنقول: إن كل ما وُجد من النقد هو أفكار فردية، وآراء لبعض كبار الأدباء، منثورة مبعثرة في كتب الأدب والأخبار، وفي طبقات الشعراء وتراجمهم (ومن أراد أن يطلع على ذلك فليراجع مقدمة «الشعر والشعراء» لابن قتيبة، ومقدمة «جمهرة أشعار العرب» لابن أبي الخطاب، وترجمة النابغة الذبياني في الأغاني، وغيره من فطاحل الشعراء، كجرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم).

•••

إذا بحثنا عن هذه الآراء في النقد وجدناها ناشئة من طبيعة العربي ومزاجه؛ لأن العربي شجاع، شديد التأثر بالكلام، سريع الغضب، لا يحب السكون كثيرًا، ولا يميل إلى الهدوء، يهيج لأقل سبب، ويغضب لأدنى مناسبة، شريف النفس، لا يقبل الضيم، يضحي بكل شيء في الدفاع عن شرفه، أكثر أخلاقه ظهورًا الشهامة وحب الانتقام، كانت تكفيه الكلمة يسمعها، فتهيج من نفسه، وتثير فيها حب النزال، وتؤجِّج حربًا عوانًا. على هذه الأخلاق وعلى هذا الشعور وعلى هذه الفطرة المتأججة كان مظهر آراء العربي في كل ما يفهم وفي كل ما يدرك؛ فظهر ذلك في نقده الشعر والشعراء، وتذوقه الكلام البليغ، فكان أحسن الكلام لديه أكثره أثرًا في النفس وهياجًا للعواطف، وأحسن الشعر ما احتوى على عبارات ضخمة وألفاظ تستولي على السامعين، وتملك من نفوسهم وتنال منهم، بقطع النظر عن كل شيء آخر؛ من أجل ذلك كان للألفاظ المنزلة الأولى في الكلام، وكان لها المكان الأول في نفس السامع، وربما كان ذلك من البواعث على استقلال كل بيت من الشعر بمعنًى تام، وعلى أنه كان يكفي سماع بيت واحد يهز النفس، ويشغل الفكر، ليحكم الشاعر بأن هذا أفضل بيت قالته العرب؛ لهذا أيضًا قلَّما اجتمع الناس على شاعر واحد يفضلونه.١
•••

وبعدُ، فإمَّا أن يكون النقد عبارة عن قضايا الغرض منها إرشاد الكتاب والشعراء إلى الطريقة المثلى في الأساليب وصناعة الكلام، وهذا هو النقد البياني — نسبة إلى علوم البيان التي هي علوم البلاغة — ويدخل تحت هذا القسم البحث في الألفاظ والأساليب، وما بها من: الاستعارة، والتشبيه، والمجاز، والمحسنات البديعية. وهذا النوع من النقد أكثر ما يكون شيوعًا في النقد الأدبي عند العرب.

وإما أن يكون النقد عبارة عن البحث عمَّا في الكتابة والشعر من الأفكار والآراء، واختيار الموضوعات واستيعابها ودقة الملاحظة في المعاني الصحيحة الاجتماعية، والغرض الذي يعود على القراء من ذلك، ثم «تحليل» النفوس الذي ذكرت أثناء الكلام — كما في القصص التي يقصد منها تصوير الطبائع ورسم النفوس الإنسانية — ثم ترتيب الكلام، ومعرفة طريقة الكاتب في الفهم والإدراك والتصور، ومقدار ما عنده من الحذق في الصناعة، وعلى الجملة كل ما له صلة بنفسه وكتاباته. وهذا هو النقد «التحليلي» وهو الذي يكشف أسرار العقول، ويوضح المؤلفات وما بها، ويظهر قيمتها الفنية ويبين منزلتها من العلوم والفنون، وأكثر ما يكون هذا النقد في الآداب الاجتماعية والفلسفية المملوءة بالآراء والأفكار وأشكال الناس وصور الحياة، وهو أقل ما يكون ظهورًا في الوصف والوجدانيات. وبدون هذا النقد لا يُفهم العقل السليم من العقل السقيم، ولا الكلام الصحيح من الخطأ؛ فالنقد «التحليلي» يعتبر البلاغات نتيجة من نتائج العقول والقرائح، ويبحث عن الصلة بين الكتَّاب والشعراء وبين حركاتهم العقلية، والمؤثرات التي دعت إلى ذلك، وذلك لا يظهر كثيرًا في الشعر الوجداني المبني على الخيال الصرف.٢
أما أكبر مظاهر النقد الأدبي عند العرب فهي علوم البلاغة. ولا يكاد يوجد كتاب في النقد إلا وكان اهتمامه بشرح ما في الكلام من أنواع البيان والبديع أشد اهتمام، ولم يفرق الأدباء بين علوم البلاغة وبين النقد، فإن كتاب قدامة بن جعفر «نقد الشعر» كتاب في علوم البلاغة لا غير. على أنه معدود من كتب النقد الأدبي. وكتاب ابن رشيق «العمدة في نقد الشعر وصناعته» يدل على أن النقد كان لفظًا مبهمًا غامضًا لم يُحدَّد معناه بعد، أو أنه لفظ عام كلفظ الأدب نفسه؛ فقد احتوى هذا الكتاب على كثير من الموضوعات المختلفة من أدب، وسِيَر، وعلوم البلاغة، واشتمل على ذكر أيام العرب، وفيه قسم كبير في علم البيان والبديع. على أن هذا الكتاب من الكتب المعتبرة في النقد، وهو على رأي ابن خلدون «أوعى وأجمع كتاب في النقد لم يساوِهِ قبلَه ولا بعدَه كتابٌ آخر.» مع أننا نرى أن كل ما فيه من النقد هو كلام عام، لا يضبط طريقة ولا يؤيد مذهبًا (من هذا ما رواه ابن رشيق في أغراض الشعر وصنوفه. راجع صفحة ٩٢، جزء٢). نرى من هذا أن أدباء العرب مزجوا النقد بعلوم البلاغة، بل لم يعرفوا من النقد غير علوم البلاغة.٣
مع هذا فقد وُجد من بين النقاد مَن كانت آراؤه صحيحة نافعة، وحام حول هذه الطرق الجديدة. ولو أن هذا النوع من النقد سار تدريجيًّا لوصل إلى ما وصل إليه النقد البياني من المكانة والتأثير في الأدب، فقد ابتدأ هؤلاء النقاد أن يعرفوا النقد الصحيح، وأن تكون لهم آراء خاصة، وذهبوا إلى نوع من النقد «التحليلي». ولولا أنهم كانوا لا يميلون في جملة آرائهم إلى تقليد القديم وإلى التقيُّد بعلوم البيان، لخطا النقد خطوة واسعة ولرقت الآداب رقيًّا.

هذا النوع من النقد يظهر في بعض الكتب الخاصة ببعض الشعراء، والموازنة بين بعضهم بعضًا. ومن أشهر هؤلاء النقاد القاضي عبد العزيز الجرجاني (المتوفى سنة ٣٩٢ﻫ)، فقد جاء في كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه» (طبع في صيدا بالشام سنة ١٣٣١) ما دل على براعته في الأدب العربي، وبشَّرنا بشيء جديد في النقد. وهو من أحسن وأمتع كتب النقد في بلاغة العرب؛ لِما فيه من المنافع الجمة المبنية على ذكاء المؤلف نفسه، واستعداده الخاص في النقد، ودرجة فهم الكلام «وتحليله». وقد احتوى هذا الكتاب على كل ما يصح أن يخطر ببال أديب في ذلك العصر، وما يمكن أن يفيد القارئ فائدة إجمالية صحيحة عن بلاغة العرب وصناعة الشعر، ومعرفة الآراء الشهيرة فيه؛ ومثل كتاب الوساطة في موضوعه وأسلوبه النقدي كتاب «إعجاز القرآن» للقاضي الباقلاني (المتوفى سنة ٤١٣)، وهو أيضًا من أفضل كتب النقد ومن أوضح الأدلة على أن النقد «التحليلي» أخذ يتسرب إلى عقول الأدباء، فقد حلل الباقلاني كثيرًا من آيات القرآن الكريم تحليلًا بديعًا لا يكاد يوجد في غيره، ولم يعتمد في ذلك على قواعد البلاغة فقط، بل قصد إلى تحليل المعاني نفسها، وهو من أصح الكتب التي يمكن أن تتخذ نموذجًا للنقد التحليلي، ولولا أنه خاص بالقرآن لكان نافعًا في نشر هذه الطريقة التحليلية. على أن الباقلاني لم يخلُ من الغموض في كلامه واتباع الألفاظ العامة.

ولم يظهر هذا النوع من النقد في بلاغة العرب ظهور النقد البياني لقلة أتباعه، ولأن نفوس الأدباء كانت تميل إلى فهم الأساليب وشرح الألفاظ أكثر منها إلى غيره، ووُجدت غير هذه الكتب كتبٌ أخرى كثيرة، أكثرها لا يخرج عمَّا ذكر من الطرق المعروفة، وجملة القول: أن النقد الأدبي لم ينضج عند العرب ولم يتميز من علوم البلاغة.

القدماء والمحدثون عند العرب
لا نريد هنا أن نتبع تقسيم الأدباء لشعراء العرب إلى جاهلي ومخضرم وإسلامي ومحدث، وإنما نريد أن ندرس تحت هذا العنوان ما أدرك الشعر العربي من الأطوار والانتقال من حال إلى حال؛ لنعرف إن كان هناك خلاف ظاهر أو مذاهب بلاغية أو كتابية في الشعر العربي أثناء مروره بالعصور المختلفة.

إذا تتبعنا حركة النقد الأدبي عند العرب وجدنا أن الباعث على الاشتغال بالأدب والعناية بجمع أشعار العرب، هو القرآن الكريم والمحافظة على لغته التي هي العربية الفصحى الصحيحة. ولم يظهر الإسلام دينًا محمديًّا فقط، بل ظهر دينًا عربيًّا جاء بكتاب عربي مبين، فنهض المسلمون نهضة دينية، ودفعهم إيمانهم بكتابهم وإخلاصهم له إلى دراسة العلوم والفنون المختلفة، ولا سيما علوم اللغة والأدب لفهم القرآن وإدراك أسراره، وتأييد معجزته الإلهية، واهتموا بذلك اهتمامًا فاق كل اهتمام، فجمعوا الأشعار الكثيرة الجاهلية لصحتها وخلوها من الخطأ اللغوي، واختص بذلك جماعة من الحفاظ والرواة؛ فكبرت منزلة الشعر الجاهلي في نفوسهم، وكان في الحق أن يفضلوه على غيره، وأن يجعلوه قاموسًا لهم في العبارة، ونموذجًا لهم في الأسلوب، وأن يتحدَّوا به ما عداه. وكان أكثر علماء اللغة والأدب من علماء الدين؛ فكثر تمجيدهم للقدماء، وخلطوا الغرض الديني بالغرض الأدبي، وقالوا: لا بد من اقتفاء آثار القدماء. وفهموا أن جمال الشعر القديم مبني على الاستعارة والتشبيه، فعَرَّفُوا الشعر بأنه الكلام الموزون المقفَّى المبني على الاستعارة والتشبيه، إلى آخر ما قالوا. وانصرفوا إلى شرح العبارات والألفاظ، وتشاجروا في حد البلاغة والفصاحة، ولم يتفقوا على شيء اتفاقهم وإجماعهم على تتبُّع طريقة القدماء؛ ذلك لأن اهتمامهم بالشعر كان يفوق اهتمامهم بالنثر؛ إذ احتجاجهم على صحة اللغة والمعاني كان بالشعر لا غير، وكأنهم فهموا أن أكبر مظاهر البلاغة العربية لا تظهر إلا في الشعر؛ لذلك لم يكن أثر النثر في الأدب العربي كأثر الشعر؛ ولهذا أيضًا كان الشعراء أكثر من الكُتَّاب، وكانت كتب النثر سواء في النقد أو في الأدب أقل من كتب الشعر ونقده.

ولعلَّ السبب في الميل إلى الشعر عند العرب أن الباعث على القول في بلاغتهم هو الوجدان والخيال، وذلك أكثر ما يكون جولانًا في ميادين الشعر؛ إذ النثر أظهر ما يكون في تقرير الحقائق ورسم النفوس والاجتماع، وذلك ليس من طبيعة العربي في بلاغته؛ لأن العربي — كما قلنا في غير هذا الموضع — مرتجل بطبيعته، ميال إلى البديهة. والارتجال والبديهة لا يصلحان لعمل النثر الجيد المبني على الفكر والتعقل، ومن هنا قلَّ النثر الأدبي عند العرب فيما يظهر لنا.

مع أن كل اهتمام أدباء العرب كان موجهًا للشعر لا غير، فإن الذي ينظر إلى حالة الشعر العربي لا يجده تغير في جملته. وما يوجد من الفروق بين الأشعار وطرائقها في العصور المختلفة، أكثره أو كله يرجع إلى الاختلاف في الأسلوب والديباجة، وإدخال بعض الألفاظ والعبارات التي لم تكن، ثم اختلاف طرق الخيال باختلاف المنظورات؛ كالفرق بين وصف الصحراء ووصف البساتين، والفرق بين وصف الأطلال والكلام في الخمر. وهذا لا يُعَدُّ من الأطوار الأدبية المعروفة؛ لأنه مبني على أصل واحد، وهو تقليد القدماء في الشعر الوجداني، فالقديم والحديث من نوع واحد، خصوصًا أن الأدباء والنقاد حدَّدوا الموضوعات وقسموها تقسيمًا نهائيًّا، ووضعوا القواعد لمن يأتي بعدهم، وحصروا أنواع الفكر والخيال فيما فكَّر وتخيَّل القدماء. وكُتُب النقد والبلاغة مملوءة بذلك. فلم يكن البحث إلا في الأسلوب والعبارات، وحسن الديباجة والفصاحة والبلاغة؛ لذلك قالوا عندما أرادوا أن يتكلموا على أنواع الشعر: من «الشعر الجاف المشتمل على الغريب، ومنه العذب الرقيق السهل، ومنه ما هو «كالفستق المقشر»، ومنه ما دخلته ألفاظ إسلامية، وما احتوى على ألفاظ فارسية وعبارات اقتضتها الحضارة.» وتكاد تكون هذه الملاحظات هي المذاهب الكتابية المعروفة عند العرب.٤
وهذا دليل على أنهم لم يقدروا الجديد قدره، ولم يقولوا بوجوب «التطور» والانتقال؛ فإن من عُني بالمحدَثين منهم لم يرَ لهم أثرًا في غير الصناعة. قال ابن رشيق: «والعرب لا تنظر في أعطاف شعرها بأن تجنِّس أو تطابق أو تقابل، فتترك لفظة للفظ، أو معنًى لمعنًى كما يفعل المحدَثون. ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجَزَالَتِه، وبسْط المعنى وإبرازه، وإتقان بِنْيَة الشعر وإحكام عقْد القوافي، وتلاحُم الكلام بعضِه ببعض.» وقال عن المحدَثين أيضًا: «وليس يتجه البتة أن يتأتَّى من الشاعر قصيدة كلها أو أكثرها متصنَّع من غير قصد، كالذي يأتي من أشعار حَبيبٍ والبُحتريِّ وغيرِهما، وقد كانا يطلبان الصنعة ويولعان بها. فأمَّا حبيبٌ فيذهبُ إلى حُزُونة اللفظ، وما يملأ الأسماعَ منه مع التصنُّع المُحكَم طوعًا وكرهًا، يأتِي للأشياء من بُعْد ويطلبها بكلفة ويأخذها بقوة. وأما البحتريُّ فكان أملحَ صنعةً وأحسنَ مذهبًا في الكلام، يَسلُك منه دماثةً وسهولةً، مع إحكام الصنعة وقُرْب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة، وما أعلم شاعرًا أكمل ولا أعجب تصنُّعًا من عبد الله بنِ المُعتَزِّ؛ فإن صنعتَه خفيةٌ لطيفة، لا تكاد تَظهَر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطفُ أصحابه شعرًا وأكثرهم بديعًا وافتنانًا وأقربهم قوافي وأوزانًا. ولا أرى وراءه غايةً لطالبها في هذا الباب.

غير أنَّا لا نجد المبتدئ في طلب التصنع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعًا منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد لِما فيهما من الفضيلة لمبتغيها؛ ولأنهما طَرَقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقًا سابلة، وأكثَرَا منها في أشعارهما تكثيرًا سهَّلها عند الناس وجسَّرهم عليها. على أن مسلمًا أسهلُ شعرًا من حبيب وأقلُّ تكلفًا، وهو أول من تكلف البديعَ من المولَّدين وأخذ نفسَه بالصنعة، ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل مسلم إلا النُّبَذ اليسيرة، وهو زُهَيْرُ المولَّدين كان يبطئ في صنعته ويُجيدها» (عمدة، جزء أول، ص٨٣–٨٥).

كل هذا يدل على أن الخلاف لم يكن في اختراع نوع جديد من أنواع الشعر الذي لم يكن عند العرب القدماء، وإنما هو في الأسلوب والديباجة والصناعة لا غير …٥
على أن المحدَثين أنفسَهم لم يقولوا إنهم اقترحوا جديدًا، أو جاءوا بنوع لم يكن عند العرب، وكل ما قالوه يرجع إلى الخيال الذي يرجع في جملته إلى الشعر الوجداني، ولا يدل على شيء من الأطوار الأدبية، ولا أنبئكم بباب «السرقة في الشعر» وانتشاره في كتب النقد؛ فكم أخذ الأواخر من الأوائل، وكم معنًى ابتكره البدوي فأخذه عنه الحضري المحدث، وغَيَّرَ من لفظه لينسبه إلى نفسه. وباب السرقات طويل جدًّا يدل على أن المحدثين في جملتهم لم يخترعوا ولم يبتكروا. قال عبد العزيز الجرجاني في كتابه «الوساطة»: «والسرق — أيَّدكَ اللهُ — داءٌ قديم، وعيب عتيق. وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخَر ويستمد من قريحته، ويعتمد على معناه ولفظه. وكان أكثره ظاهرَ التوارُد، الذي صدرنا بذكره الكلام، وإن تجاوز ذلك قليلًا في الغموض لم يكن فيه غير اختلاف الألفاظ، ثم تسبَّب المحدثون إلى إخفائه بالنقل والقلب، وتغيير المنهاج والترتيب، وتكلفوا جَبْرَ ما فيه من النقص بالزيادة والتأكيد، والتعريض في حال، والتصريح في أخرى، والاحتجاج والتعليل؛ فصار أحدهم إذا أخذ معنًى أضاف إليه من هذه الأمور ما لا يقصر معه عن اختراعه وإبداع مثله … ومتى أنصفتَ علمتَ أن أهل عصرنا ثم العصر الذي بعدنا أقرب إلى المعذرة، وأبعد من المذمة؛ لأن مَن تقدَّمَنا قد استغرقَ المعانيَ وسبق إليها، وأتى على معظمها، وإنما يحصل على بقايا؛ إمَّا أن تكون تُرِكت رغبةً عنها واستهانة بها، أو لبُعْد مطلبها واعتياص مراميها، وتعذر الوصول إليها. ومتى أجهد أحدُنا نفسَه وأعمل فكره، وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنًى يظنه غريبًا مبتدعًا، أو يجد له مثالًا يغضي من حسنه، ثم تصفح عنه الدواوين لم يخطئ أن يجده بعينه، أو يجد له مثلًا يغضي من حسنه …» إلخ (ص١٦٦-١٦٧).

ومع ذلك فقد لمحوا في نفوسهم الحاجة إلى التغيير والانتقال، فقال الفرزدق في شعر عمر بن أبي ربيعة: «هذا الذي كانتِ الشعراءُ تطلُبه، فأخطأته وبكتِ الديار» (أغاني، أول، ص٣٦). ولعل هذا أول مَن شعر بالحاجة إلى شيء جديد في الشعر قبل مطيع بن إياس، الذي رَوَى خبرَه صاحبُ الأغاني، قال: قال مطيع بن إياس: جلستُ أنا ويحيى بنُ زياد إلى فتًى من أهل الكوفة، كان يُنسب إلى الصبوة ويكتُم ذلك، ففاوضناه وأخذنا في ذكر أشعار العرب ووصْفِها الْبِيدَ، وما أشبه ذلك فقال:

لأَحسنُ مِن بِيدٍ يَحَارُ بها الْقَطَا ومِن جَبَلَيْ طَيٍّ ووصْفِكُما سَلْعًا
تَلاحُظُ عَيْنَيْ عاشقَيْنِ كلاهما له مقلةٌ في وجْهِ صاحِبِه تَرْعَى٦
كان ذلك في مدة الأمويين وفي أوائل الدولة العباسية. فلما تربع الفرس في دولة بني العباس وعلا شأنهم، أثَّروا في كل شيء وأثروا في الشعر أيضًا. وكان يمكن أن يكون هذا الأثر سببًا لانقلاب عظيم في تاريخ الشعر العربي. ولكنَّ هذه العاصفة الآرية التي هبَّت من بلاد الفرس، لم توشك أن تظهر حتى ذهبت هباء في صحراء العرب، فهزم الساميُّ الآريَّ؛ لأن الدولة كانت له واللغة لغته والدين دينه، بل لم يكتفِ الآريُّ بهذه الهزيمة حتى اندمج في الساميِّ وأخذ عنه، وبدل أن يؤثِّر فيه تأثَّر منه. وهذه من مزايا اللغة العربية؛ فإنها لم تَظهَر في أمة من الأمم التي دانت بكتابها الكريم إلا أثَّرت في عقولها ومعلوماتها، وجذبتها إليها ومحت منها خواصَّ لغتها، واستولت على خيالاتها وتسربت إلى لغاتها، واحتلت بحقٍّ أو بغير حق مواضع البلاغة منها؛ شأن القويِّ في الإنسان والحيوان والنبات؛ وذاك ما نراه حتى الآن في بلاد الفرس وفي بلاد الترك وفي بلاد البربر وفي مصر، مع ذلك ظهر أثر الفرس في الشعر العربي، فقد أراد الشعراء أن يُدخِلوا في الشعر العربي أثر المدنية الحديثة، وأن يَخرُجوا من مضيق البلاغة وفنون البيان إلى العبارات النفسية.

ولكنَّ هذا التغير أبعدهم عن الزمن العربي الأصلي وصبغته، التي كانت تدل على الإخلاص في القول وعدم التعمُّل والبعد من التكلف؛ فوقعوا فيما كانوا يخشَوْن. ولم يظهر أثر الحضريِّ في الشعر العربي إلا في نقله من الشعر المطبوع إلى الشعر المتكلف المصنوع، فلم يُوجِد فيه شيئًا جديدًا، ولم يبتكر نوعًا حديثًا، وأصبح الشعر صنعة من الصناعات أكثر منه في كل عصر. وأخذ الشعراء يتناسَوْن ما كان عند سلفهم من الشعر الصادر عن الشعور والعواطف إلى التصنع والبحث، لا في الصناعة لا غير، بل في الأفكار والخيال. حتى إن الغزل والنسيب اللذين أخذا شكلًا جديدًا سائغًا على النفس، مع شيء من الفكاهة وخفة الروح مدة الأمويين، عند جميل بن مَعْمَر، وعمر بن أبي ربيعة، وكُثَيِّر عَزَّة، صار إلى نوع من المُجون والمزح عند والبةَ ومَن جارَاه.٧
لا نقول: إن حركة المحدَثين كان نصيبها الخيبة وعدم التمكن من رقي الأدب، وإيجاد نوع جديد فيه فقط، بل نزيد على ذلك أن المحدثين أبعدوا الشعر العربي عن طريقته الأولى، ومحَوْا منه خلَّتين كانتا من أكبر أسباب المتانة والجمال فيه، وهما السذاجة الطبعية والإخلاص. فقد كان الشعر الجاهلي بهذين الخلتين قريبًا جدًّا من الشعر الاجتماعي، الذي يمثل صور النفوس وأخلاق الأمم العامة. ولكن مِن أَسَفٍ أن المحدثين زجُّوا به في طريق التصنُّع والتعمُّل، وقصروه على ضرب من البراعة في الصناعة المتكلفة، وطريقة أبي تمام من المثل المُضحِكات في ذلك.

ولو أن حركة الشعر سارت تدريجيًّا كحركة النثر لصح القول بأن الشعر العربي تدرج وانتقل، واتبع قانون «النشوء والارتقاء» — كما يقولون — ككل شيء حي. ولكن ذلك أظهر ما يكون في النثر كما هو معروف، فقد كان النثر في الجاهلية عبارة عن سجعات قصيرة أشبه بالشعر، من حيث الاستقلال بمعنًى تام، ولم يظهر أثره إلا في الخُطَب والنصائح، كخُطَب قُسِّ بنِ ساعدةَ وغيره، ثم ارتقى برقيِّ الخطابة في صدر الإسلام، واتسع وزاد بالمناقشات السياسية بين الخلفاء وعمَّالهم ومن كان ينازعهم السلطان، وكان أول ظهور ذلك بين أبي بكر وعليٍّ رضي الله عنهما، ثم بين الإمام عليٍّ ومعاويةَ، ولو صحت نسبةُ نهج البلاغة لابن أبي طالب — كرم الله وجهه — لكانت خطوة النثر في نحو أربعين عامًا أوسع خطوة خطتها بلاغة العرب في التقدم والارتقاء؛ لأن الفرق كبير جدًّا بين سجْع كُهَّان العرب وهذا الكلام البليغ الممتع. ثم أخذ النثر شكلًا أوسع في آخر الدولة الأموية. أما مدة العباسيين فقد ارتقى فيها النثر ارتقاء عظيمًا ليس له مثيل في عصر من عصور الدولة العربية؛ إذ ظهرت فيه المقالات الطويلة في موضوعات مختلفة، وأشهر الكُتَّاب والمؤلفين في ذلك العصر: الجاحظ وابن المُقَفَّع، وكان لكل منهما مذهب خاص وطريقة معروفة في الأسلوب، ولم يعد النثر منذ ذلك الزمن مقصورًا على الخطب والرسائل. ثم انتقل إلى درجة أخرى وهي طريقة السجع والصناعة في تحسين العبارة، كما في طريقة ابن العميد والصاحب بن عبَّاد وبديع الزمان الهمذاني، الذي اخترع فنَّ المَقَامات، وأخذها عنه الحريري؛ وبذلك أخذ النثر طريقًا آخر وأسلوبًا جديدًا يصح أن يُطلَق عليه من بعض الوجوه أنه نثر قصصي.

ذكرنا هذا لنبيِّن معنى الأطوار الأدبية، وكيف تتحوَّل وتتوالد أنواع البلاغة. وقد اخترنا أن نضرب مثلًا بالنثر العربي لوضوحه وضوحًا تامًّا لا يوجد في الشعر.

والكلام يحتاج إلى توسع نرجو أن نوفق لدراسته دراسة تامة في المستقبل إن شاء الله.

١ قال ابن رشيق في العمدة: والشعراء أكثر مِن أن يحاط بهم عددًا، منهم مشاهير قد طارت أسماؤهم وكثر ذكرهم، حتى غلبوا على سائر من كان في أزمانهم، ولكل أحد منهم طائفة تفضله وتتعصب له؛ ولذلك قلما يُجتمع على واحد، إلا ما رُوِي عن النبي ﷺ في امرئ القيس أنه أشعر الشعراء وقائدهم في النار، يعني شعراء الجاهلية المشركين (جزء أول، صفحة ٥٩).
٢ وإلا فماذا يمكن أن يفهم الإنسان من الصلة بين الشاعر وشعره وأثر الاجتماع في قول من قال:
نحن قومٌ تُذِيبُنا الأعيُنُ النُّجـْ ـلُ على أنَّنا نُذِيبُ الحديدا
وترانا لدى الكَرِيهةِ أحرا رًا وفي السِّلْم للحِسَانِ عَبِيدًا
مثل هذه البلاغة لا تُنقَد إلا نقدًا بيانيًّا، مبنيًّا على تحليل اللفظ وشرح الاستعارة والتشبيه، ومثل هذا النقد يحمل الشعراء على التكلف والاهتمام باللفظ؛ إذ خير أنواع الشعر عند هؤلاء ما اشتمل على الاستعارة والتشبيه، كقول الشاعر:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المَطِيِّ الأباطحُ
فقد اهتم علماء «البلاغة» بهذا البيت، واختلفت آراؤهم، راجع مقدمة «الشعر والشعراء» وكتاب «دلائل الإعجاز».
٣ ذلك إلى ما هو مشهور عندهم من النقد اللغوي، والنقد الذي مرجعه قواعد النحو والصرف، وإلى الآراء الكثيرة المنتشرة في كتب الإعراب وتراجم الشعراء والكتاب. وإذا كانت هناك أطوار للنقد، فإنما هي في النقد البياني، أي في الآراء المختلفة في تعريف البلاغة والفصاحة، ومباحث اللفظ والمعنى، وتفضيل أحدهما على الآخر، ثم فيما جاء به عبد القاهر الجرجاني من مذهبه في تعريف البلاغة والفصاحة، ثم ما زيد من أنواع البديع منذ مسلم بن الوليد إلى السكاكي؛ فهذه يصح أن تكون من الأطوار التي تخطَّتها علوم البلاغة. ولكن علوم البلاغة غير فن النقد.
٤ كما مدح البحتريُّ ابنَ الزيات بقوله:
في نظام من البلاغة ما شك امرؤ أنه نظام فريد
وبديع كأنه الزهر الضا حك في رونق الربيع الجديد
حُزْنَ مستعمَلَ الكلام اختيارًا وتجنَّبْنَ ظُلْمةَ التعقيد
ورَكِبْنَ اللفظَ الغريبَ فأدْرَكـْ ـنَ به غايةَ المُراد البعيد
وكل ما ورد من ذلك يدل على العناية بالصناعة لا غير بين القدماء والمحدثين؛ كما ذكر ابن رشيق في كتابه «العمدة في نقد الشعر وصناعته»، قال في الكلام على القدماء والمحدثين: «وإنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزيَّنه؛ فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسُن، والقدْرة ظاهرة على ذاك وإن خشُن»، فلم يرَوْا أنه كان للمحدثين شيء من الاختراع، أو أثر من البلاغة يستحق العناية، فقد قالوا في أشعار المولَّدين: «إنما تروى لعذوبة ألفاظها ورقَّتها وحلاوة معانيها وقرب مأخذها … وإنما تكتب أشعارهم لقربها من الأفهام، وأن الخواص في معرفتها كالعوام. فقد صار صاحبها بمنزلة صاحب الصوت المطرِب، يستميل أمةً من الناس إلى استماعه، وإن جهل الألحان وكسر الأوزان» (عمدة أول، ص٥٨).
وبلغ من تعصبهم للقديم أن أبا عمر بنَ العلاء لم يكن يروي شعر المحدثين على ما كان ظاهرًا فيه من الرقة والانسجام، قال: لقد حسُن هذا المولَّد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته. وكان لا يعدُّ الشعر إلا للمتقدمين، قال الأصمعي: جلستُ إليه ثماني حجج، فما سمعتُه يحتج ببيت إسلامي، وسُئِلَ عن المولَّد فقال: ما كان من حَسَن فقد سُبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو عندهم، ليس النمط واحدًا؛ ترى قطعة ديباج وقطعة مسح وقطعة نطع.
٥ ولا يصح أن تُقابَل هذه الحركة بحركة القدماء والمحدثين في فرنسا؛ لأن الخلاف هناك كان مبنيًّا على فكرة فلسفية كما بينا ذلك؛ وهي فكرة التقدم والارتقاء في الأفكار والموضوعات وفي لب الكلام. فإن آدابهم كانت مأخوذة عن آداب الأمم الأخرى، فأرادوا أن يجعلوها آدابًا وطنية قومية، على أن يستمدوا الصناعة ومتانة الأسلوب وإمتاع الكلام من الآداب القديمة، وأن ينسجوا على منوالها في ذلك، وهذا لم يمنعهم من الابتكار والاختراع.
أما الخلاف بين القدماء والمحدثين عند العرب فهو على العكس من ذلك، فإنه ليس في الموضوعات ولا في الأفكار ولا في أصل البلاغة، وإنما هو في الأسلوب فقط؛ لأن علماء الأدب والنقاد لم يعترفوا للمحدثين بشيء جديد إلا في بعض التشبيهات والمعاني المخترعة، أي طرق الخيال التي تقع في بيت أو بيتين؛ كقول أبي تَمَّام:
وإذا أرادَ اللهُ نَشْرَ فضيلةٍ طُويَت أتاحَ لها لِسَانَ حَسُودِ
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرَت ما كانَ يُعرَف طِيبُ عَرْفِ العُودِ
وكقول أبي نُوَاسٍ:
بَنَيْتُ علَى كِسْرَى سَماءَ مُدَامَةٍ مُكَلَّلَةً حَافَاتُهَا بنُجُومِ
فلَوْ رُدَّ في كِسْرَى بنِ ساسانَ رُوحُهُ إذنْ لاصطَفَانِي دونَ كلِّ نَدِيمِ
٦ أغاني، ج١٢، ص١٠٢.
٧ وهذا ما يسميه بعض المشتغلين بالأدب أطوارًا للشعر وانتقالًا للخيال وشيئًا جديدًا في الأدب. أما نحن فلا نسمِّي ذلك نوعًا جديدًا في الشعر العربي؛ لأن أقدم شعراء العرب وصف الخمر وتكلم فيها، وأشهرهم أعشى قَيْس في قصيدته الشهيرة التي يُشبِّب فيها بهُرَيْرة قال:
نازعتُهم قُضُبَ الريحان متكئًا وقَهْوةً مُزَّةً راوُوقُها خَضِلُ
لا يستفيقون منها وهْيَ راهنةٌ إلا بهَاتِ وإن علُّوا وإن نَهَلُوا
يسعى بها ذو زجاجات له نطف مقلِّصٌ أسفلَ السربال معتملُ
وقال أيضًا:
فقمنا ولمَّا يَصِحْ دِيكُنا إلى خَمْرَة عندَ حَدَّادِها
فقلتُ له هذه هَاتِها بأدْماءَ في حَبْل مُقْتَادِها
فقامَ وصبَّ لنا قَهْوة تُسكِّننا بعْدَ إرْعادِها
كُمَيْتًا تَكَشَّف عن حُمْرَة إذا خرجت بعدَ إزْبادِها
فجالَ علينا بإبريقه فخضَّب كفِّي بفِرْصادِها
فرُحْنا تنعِّمنا نَشْوة تخور بنا بعدَ قصادها
وتكلم الوليد بن يزيد في الخمر، ووصفها بما لا يقل عن وصف أبي نواس لها، قال:
من قهوة زانَها تقادُمُها فهي عجوزٌ تعلُو على الحقَبِ
أشهى إلى الشُّرْبِ يومَ جلْوَتِها من الفتاة الكريمة النسب
فقد تحلَّت ورقَّ جوهرُها حتى تبدَّت في منظرٍ عجَبِ
فهي بغير المِزَاج من شَرَر وهي لدى المَزْج سائلُ الذهب
كأنها في زجاجِهَا قَبَس تذكو ضياء في عين مُرتَقِبِ
كما ذكرها الأخطل أيضًا في شعره، فليست صرخة أبي نواس في دعوة الشعراء إلى الجديد جديدة في بابها، ولا تعد في شيء من أطوار الشعر العربي. وكأن أبا نواس — حامل لواء المحدَثين — لم يجد ما يستحق الاهتمام غير وصف الخمر، فلم يشنَّ هذه الغارة على القدماء؛ لأنه كان يشعر بالحاجة إلى نوع جديد، فإنه لم يُرِدْ ذلك، بل كان من غرضه نشر مذهبه في الخمر والفجور؛ إذ لم يكن لديه أي فكرة أدبية، وكل آرائه التي ذكرها في هذه الثورة لا تخرج عن رأيٍ واحدٍ كرَّره مرات في افتتاح خمرياته مثل قوله:
صفةُ الطُّلولِ بلاغةُ الفَدْمِ فاجعلْ صفاتِكَ لابنةِ الكَرْمِ
وكقوله:
لا تَبْكِ ليلى ولا تَطرَبْ إلى هِنْدِ واشربْ على الوِرْد من حمراءَ كالوَرْدِ
وكقوله:
تبكي على طلل الماضين من أسد لا درَّ درُّك قل لي مَن بنو أسدِ
لا جفَّ دمعُ الذي يبكي على حَجَرٍ ولا صفَا قلبُ مَن يصبو إلى وَتَدِ
كم بينَ ناعِتِ خَمْرٍ في دَساكِرِها وبينَ باكٍ على نُؤْيٍ ومنتضِدِ
وكثير من قصائده في الخمر مبتدأة بمثل ذلك، وكأنه لم يجد غير ذلك في الشعر العربي، ممَّا يدل على أنه كان متعصبًا ضد العرب؛ لأنه أراد أن يفتح على الشعراء بابًا جديدًا أو يرقى بالشعر. ولما سجنه الخليفة على تهتُّكه واشتهاره بشرب الخمر وطلب إليه ألَّا يصف الخمر بعد ذلك قال:
أَعِرْ شِعْرَكَ الأطلالَ والمنزلَ القَفْرَا فقدْ طالَما أزْرَى به نعتُكَ الخَمْرَا
دعاني إلى نَعْتِ الطُّلولِ مُسلَّطٌ تضيقُ ذِرَاعي أنْ أرُدَّ له أمْرًا
فسَمْعًا أميرَ المؤمنين وطاعةً وإن كنتَ قدْ جشَّمتَنِي مَرْكبًا وَعْرًا
ولم يخطر ببال الأدباء إذْ ذاك أن أبا نواس أراد بذلك أن يدعو إلى نوع جديد من الشعر، بل رأَوْا أن ذلك ليس إلا حنقًا على الطريقة الأولى. قال ابن رشيق: «ومن الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطًا من التشبيب، بل يهجم على ما يريده مكافحة، ويتناوله مصافحة، وذلك عندهم هو الوثب والبتر والقطع والكسع والاقتضاب … إلى أن قال: وزعموا أن أول من فتح هذا الباب وفتق هذا المعنى أبو نواس بقوله: لا تبكِ ليلى ولا تطرب إلى هند … إلخ.» نعم، كان يدعو أبو نواس إلى ترك الأوصاف القديمة ووصف المدن والبساتين، كما قال:
دعْ ذا عدِمتُك واشرَبْها معتَّقة صفراءَ تفرق بين الروح والجسد
أما رأيتَ وجوهَ الأرض قد نضرت وألبستها الزرابي بثرة الأسد
حاكَ الربيعُ بها وشيًا وجلَّلها بيانع الزهر من مَثْنى ومن وحدِ
وهذا كل ما كان يرمي إليه أبو نواس من ترك الوصف للصحراء إلى ذكْر آثار الرياض والبساتين ومجالس اللهو، ولم يقل إنه جاء بشيء جديد. وكان الأدباء يرون ميزته وحذاقته في الصنعة. قال المبرد: ما تعاطى قولَ الشعر أحدٌ من المحدثين أحذَق من أبي نُوَاس؛ فإنه شبَّب ومدح في أربعة أبيات، فقال:
تقولُ غَدَاةَ البَيْنِ إحدى نسائهم ليَ الكبدُ الحرَّى فسِرْ ولَكَ الصبرُ
وقالت إلى العباس قلتُ فمَن إذن وما لِي عن العباس معدًى ولا قَصْرُ
وهل يكفلَنْ إلا براحتِهِ النَّدَى وهل يزهُوَنْ إلا بأوصافِه الشُّكْرُ