الحفاظ على التنوع البيولوجي في أعالي البحار هو الهدف الرئيسي للاتفاقية (بيكسابي)
بعد عدة جولات ماراثونية من المفاوضات الرسمية التي دامت أكثر من 5 سنوات، أصبح للعالم منذ الرابع من مارس/آذار الجاري اتفاقية دولية لحماية أعالي البحار، هدفها الرئيسي هو حماية واستغلال التنوع البيولوجي في هذه المناطق على نحو مستدام.
وجاء الإعلان عن الاتفاق بعد نهاية المرحلة الثانية من الجولة الخامسة من المفاوضات التي جرت بمقر الأمم المتحدة في نيويورك على مدار 15 يوما، وكانت المرحلة الأولى من الجولة الخامسة من المفاوضات قد جرت الصيف المنصرم في الفترة الممتدة ما بين 15 و26 أغسطس/آب الماضي، علما أن الجولة الأولى منها كانت قد جرت بين 4-17 ديسمبر/كانون الأول 2018.
وتشكل أعالي البحار نحو 64% من المحيطات والبحار، وهي تقع على بعد 357 كلم خارج الحدود الإقليمية البحرية للدول، وهو ما جعلها من دون حماية وعرضة لكل الخروقات البيئية بعيدا عن أي حسيب أو رقيب.
ورغم أن هذا الإنجاز اعتبره كثير من الخبراء ومنظمات المجتمع المدني كبيرا، لأنه يشكل الإطار القانوني الدولي الوحيد الذي سيحمي من الآن فصاعدا أعالي البحار، فإنه أثار عديدا من التساؤلات الموضوعية حول الثغرات الموجودة فيه وقدرة الدول على تطبيقه، وضمان مراقبة ما يجري في أعالي البحار.

السلطة الدولية لقاع البحار تتكفل بإصدار التراخيص للشركات الناشطة في التعدين في أعالي البحار (الجزيرة)
ماذا بعد الاتفاق؟
تتشكل الاتفاقية من 70 بندا، ستتم ترجمتها إلى اللغات الست المعتمدة لدى الأمم المتحدة قبل عرضها على دول العالم للمصادقة عليها، وهنا يُشترط نصاب 60 دولة على الأقل.
بعدها سيتم عرض الاتفاقية على مؤتمر الأطراف الأول كما هي الحال في اتفاقية التغير المناخي، فمن المرتقب أن يتم عقد المؤتمر الأول عام 2025 الذي سيكون مؤتمرا حاسما، لأنه سيعرف دخول الاتفاقية حيز التنفيذ واستكمال بعض التفاصيل التي تم إرجاؤها.
ومن بين هذه التفاصيل التي لا تزال محل نقاش، تحديد نسبة الاستفادة من العائدات التجارية في استغلال الموارد البيولوجية لأغراض طبية أو صيدلانية أو غيرها من المنتجات وأيضا التنسيق مع السلطة الدولية لقاع البحار (International Seabed Authority) التي تتكفل بإصدار التراخيص للشركات الناشطة في التعدين في أعالي البحار لأن الاتفاقية لا تنطبق على هذا النشاط، وهذا من بين الثغرات التي جاءت فيها.




وتبقى قضية التمويل لضمان تنفيذ بنود الاتفاقية حجر الأساس، ومن المنتظر أن يتم إنشاء صناديق لتمويل المشاريع، فضلا عن صندوق التبرعات وصندوق مساهمات الدول السنوية، وهي النقطة التي لم يتم الفصل فيها، حيث لم يتم بعد تحديد قيمة مساهمة كل دولة صادقت على الاتفاقية.

تحالف أعالي البحار يضم عديدا من المنظمات المعنية بالحياة البحرية (الجزيرة)
كيف يتم إنشاء المناطق المحمية؟
يُعتبر موضوع إنشاء المناطق البحرية المحمية في أعالي البحار من بين أهم النقاط التي جاءت بها الاتفاقية، وبالرغم من استحالة حماية كل المساحة البحرية الواقعة خارج الحدود الإقليمية للدول، فإن الاتفاقية ستسهم من دون شك في بلوغ هدف حماية 30% من المياه الإقليمية والدولية الذي تم الاتفاق عليه في اتفاقية التنوع البيولوجي 2020-2030.
وتوجد في العالم حاليا المئات من المحميات البحرية، لكنها تقع داخل الحدود الإقليمية للدول، وهي تسهم من دون شك في الحفاظ على التنوع البيولوجي بها، لكن المساحة الإجمالية التي تغطيها لا تزال بعيدة جدا عن بلوغ الأهداف المسطرة.
ويحق لأي دولة أو مجموعة من الدول إنشاء محمية بحرية في أعالي البحار بغرض حماية تنوعها البيولوجي من الانقراض، حيث يُعرض مشروع المحمية على قمة الأطراف التي توافق بالأغلبية في حال استيفاء المشروع الشروط المطلوبة المتمثلة أساسا في تحديد مدى هشاشة تنوعها البيولوجي وكيف سيتم الاعتناء بها وتسييرها.
وقال جوليان جاكسون، رئيس قسم حماية الحياة البحرية في منظمة "بيو تشاريتابل تراست" (The Pew Charitable Trusts) وهي طرف في تحالف أعالي البحار (High Seas Alliance)، الذي يضم العديد من المنظمات البيئية التي تُعنى بالحياة البحرية، إن "المحميات البحرية تلعب دورا أساسيا في الحفاظ على التنوع البيولوجي، لأنها تشكل ملجأ لكثير من الأنواع التي تضطر لهجرة مساكنها لعدة أسباب، كالتغيرات المناخية أو النشاطات الصناعية".
وأوضح جاكسون -في تصريح للجزيرة نت- أن "نص المعاهدة يترك بعض القرارات والتفاصيل لتقررها الدول التي ستصادق على الاتفاقية، ولكن بشكل خاص فهي تشكل الإطار القانوني لإنشاء محميات بحرية في أعالي البحار".




ويبقى الإشكال المطروح في موضوع المحميات البحرية هو كيفية مراقبة هذه المحميات البعيدة، وذلك لضمان السير الحسن لها والوقوف على الخروقات، إذ اقترح بعض الخبراء اللجوء إلى الأقمار الاصطناعية، وهذا الخيار ليس في متناول كثير من الدول.

الاتفاقية لا تطول السفن الحربية وأيضا نشاط التعدين إلا في حالات خاصة (بيكسابي)
استغلال الموارد البيولوجية وضمان تقاسم المنافع
ومن بين النقاط الرئيسية التي جاءت بها الاتفاقية تنظيم استغلال الموارد البيولوجية بطريقة مستدامة، وضمان تقاسم المنافع الناتجة عنها بين كل الدول. وتلجأ الصناعات الصيدلانية مثلا إلى استغلال الموارد البيولوجية للبحار والمحيطات في تطوير منتوجاتها، وهنا جاءت الاتفاقية لضمان استغلال هذه الموارد بطريقة مستدامة واقتسام العائدات، وفق ما سيتم تحديده في مؤتمر الأطراف.
وفي هذا السياق، فإن الاتفاقية تنص أيضا على ضرورة المشاركة في نقل التكنولوجيات ونتائج آخر الأبحاث العلمية التي تم إجراؤها في أعالي البحار، حيث سيتم إنشاء منصة رقمية خاصة بذلك لتعميم الفائدة وأيضا إنشاء لجنة علمية ستوكل إليها مهام التكفل بهذا الموضوع.
وحسب الاتفاقية، فإن الموارد الجينية المنصوص عليها في الاتفاقية هي كل النباتات أو الحيوانات أو الميكروبات أو مشتقاتها التي يتم استغلالها في صناعة الأدوية أو مواد التجميل وغيرها من المنتوجات التجارية.
وأوضح جوليان جاكسون أن "الوصول إلى الموارد الجينية في أعالي البحار يكون في العادة مكلفا جدا ويتطلب سفن أبحاث علمية عابرة للمحيطات ومركبات وغواصات تعمل عن بعد، وهي باهظة الثمن. ولكن بمجرد وضع التسلسل الجيني الخاص بالكائن الحي ومشاركة ذلك في قاعدة بيانات، سيصبح ذلك متاحا لكل الدول التي لا تمتلك الإمكانيات لإجراء البحوث العلمية، وبالتالي ستتمكن من استغلال ذلك في الصناعات التجارية. وتحدد الاتفاقية وسائل متعددة لتقاسم المنافع غير النقدية، مثل مشاركة نتائج البحث بما في ذلك العينات والسماح للعلماء من البلدان النامية بالمشاركة في الرحلات العلمية البحرية".

نشاط الصيد البحري سيتم تنظيمه بعد مفاوضات أخرى (بيكسابي)
لماذا لا تطول الاتفاقية نشاطات التعدين والصيد البحري؟
من بين الثغرات التي جاءت في الاتفاقية والتي ستحتاج إلى مزيد من المشاورات والمفاوضات أنها لا تطول الصيد البحري ونشاط التعدين وحتى السفن الحربية، لأن هذه النشاطات يتم تسييرها من طرف هيئات أخرى كالسلطة الدولية لقاع البحار التي تشرف على تسيير عمليات التنقيب عن البترول.
وأكد الخبير جوليان جاكسون أن "هناك إطارا قانونيا جديد يتم التفاوض عليه خارج اتفاقية أعالي البحار لمعالجة هذه الإشكالية، فهناك مفاوضات في جامايكا بمقر السلطة الدولية لقاع البحار لإيجاد الحلول التي تتماشى مع الاتفاقية الجديدة، لأن الدول ستكون ملزمة بتطبيقها".




وفي ما يخص السفن الحربية، قال محدثنا "فعلا الاتفاقية لا تطول السفن الحربية، لأن ذلك يتعلق بالحصانة السيادية المضمونة في اتفاقيات دولية، ولكن هناك استثناء إذا تعلق الأمر بالالتزامات المتعلقة بالموارد الجينية وقيام أي دولة بالبحث عنها باستخدام سفينة حربية".
ورغم كل ذلك، فإن الاتفاقية تنص على أنه من حق الدول المطالبة بإجراء دراسات حول التأثير السلبي لأي نشاط يتعلق بالتنقيب عن البترول أو الصيد البحري على التنوع البيولوجي ومن هنا يمكن -إذا جاءت نتائج الدراسات سلبية- المطالبة بوقف هذا النشاط.
كما تنص الاتفاقية على مشاركة نتائج هذه الدراسات ونشرها على مركز تقاسم المعلومات الذي سيتم إنشاؤه خصيصا لذلك الغرض.