مسرح ثربانتس ظل قرابة نصف قرن مهملا في مبنى مظلم وموحش (شترستوك)
في أحد أعرق أحياء مدينة طنجة التاريخية بشمال المغرب يوجد مسرح ثربانتس العريق الذي يعدّ معلما حضاريا نادرا يشهد على تاريخ فني طويل عاشته المدينة ذات الإطلالة المميزة على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.
لكن المسرح ظل قرابة نصف قرن مهملا في مبنى مظلم وموحش يفتقد للإضاءة وجدرانه مسنودة بأعمدة خشبية وكراسيه محطمة ومكوّمة، ولكن بقيت له واجهة مزركشة، عليها شاهدة صفراء بجمالية فريدة كُتب عليها "مسرح سيرفانتس 1913″، في إشارة إلى العام الذي بُني فيه.
وكانت طنجة قد شهدت تنوعا ثقافيا في مطلع القرن الـ20 عند تقسيم المغرب إلى منطقة حماية تابعة للاستعمار الفرنسي وأخرى تابعة للاستعمار الإسباني، في حين أصبحت طنجة منطقة دولية خاضعة لكل من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا.
تاريخ أطول من قرن
وفي خضم هذا التمازج أنشأت أسرة إسبانية مسرح "سيرفانتس" أو "ثربانتس" كما ينطق بالإسبانية، وافتتح عام 1913، إذ أقيمت عليه عروض موسيقية وحفلات غنائية وبات من أكبر مسارح شمال أفريقيا، لكن مع حلول عام 1928 قرر الزوجان الإسبانيان صاحبا المشروع إسبيرانسا أوريانا ومانويل بينيا التنازل عنه لإسبانيا في شخص القنصل العام آنذاك.
كانت بناية المسرح تطلّ على البحر قبل أن تحجبه البنايات الحديثة، وشهد أوج أنشطته الثقافية في خمسينيات القرن الماضي، إلى أن أصابته الشيخوخة وتوقف نشاطه في منتصف السبعينيات. وفي الأول من مارس/آذار 2023 آل رسميا إلى المملكة المغربية بموجب اتفاق مع إسبانيا يقضي بعدم نقل ملكيته إلى طرف ثالث مع تعهد المغرب بتحمل جميع تكاليف الترميم والتجديد والصيانة والحفاظ على اسم المسرح.
وقال المهندس المكلف بترميم وصيانة وإعادة بناء هذا المسرح توفيق مرابط لرويترز "الترميم يتطلب إمكانات وكفاءات كبيرة جدا، سنحاول ما أمكن أن نحافظ على خصوصيات هذا المسرح ونبقي على صبغته المتحفية.. فهو ظل 50 عاما مهملا، ومن الصعب أن يعود إلى سابق عهده من دون تغيير".
ويعود تاريخ المطالبة بترميم المسرح إلى التسعينيات، وقال رشيد تفرسيتي رئيس جمعية "البوغاز" في تقرير سابق للجزيرة نت إن "جمعية تضم مغاربة وإسبانيين أُسّست بهدف وضع دراسة علمية وميزانية لترميم المسرح وناقشناها آنذاك مع القنصل الإسباني العام، لكنّ حالات التوتر السياسي التي مر بها البلدان حالت دون الاهتمام به".

فن عمارة حديث
وتحدث مرابط عن خصوصيات هذا البناء التاريخي، وقال إن المسرح الذي بناه المهندس المعماري الإسباني الشهير ديجو خمينيز صُمّم "بطريقة هندسية كانت سائدة في القرن الـ19، تسمى (آر نوفو) أو الفن الحديث، وهي تتمة للهندسة الكلاسيكية، بنظرة استشرافية على المستقبل، وفق ما كان سائدا في أوروبا آنذاك".




وقال المهندس المكلف بالترميم "هذا المسرح ذو الشكل الإيطالي مكون من 3 مستويات: باحة الاستقبال، والمستوى الثاني المكان الذي فيه أكبر عدد من المتفرجين يتوفر على أبواب وسلالم تصل إلى 8، و9 شرفات، بالإضافة إلى المستوى العالي على واجهتين فيه 10 شرفات في كل جهة".
وكان المهندس خمينيز الذي أسس المبنى قد استخدم الإسمنت المسلح الذي كان في طور التجريب آنذاك، وبرع في دمج الجبس والخزف بحرفية عالية.
وأشرف فنانون كبار حينئذ على تشييد المسرح أمثال فيديريكو ريبيرا الذي جاء خصيصا من باريس لصباغة رسومات السقف وكانديو ماتا الذي صمم المنحوتات الداخلية والخارجية.
أما الستائر الخلفية فقد أنجزها الرسام الإيطالي والسينوغراف جورجيو بوساتو (1836-1917) المعروف بعمله في أهم المسارح الإسبانية، كما صمم سينوغرافيا العرض الأول لأوبرا عايدة في القاهرة بمناسبة افتتاح قناة السويس عام 1871.
وقال مرابط إن رسوم المسرح "مستوحاة من الميثولوجيا الإغريقية، مع إضفاء لمسة بطابع مغربي؛ صور لشبان بطرابيش مغربية حمراء وبآلات موسيقية مغربية تراثية".




ولعل أبرز ما يميز المسرح "خصوصية خشبته التي لها طابع الخشبات المسرحية التي كانت موجودة في أوروبا في القرنين الـ18 والـ19".
وأضاف مرابط أن الخشبة منهارة "سنعيد بناءها.. وخصوصيتها تتمثل أيضا فيما يسمى بالستار الحديدي، وهو نادر الوجود في وقتنا الحاضر، إذ يوجد في بضعة مسارح في إنجلترا وإسبانيا وآخر في أميركا اللاتينية".
ويوضح المهندس مرابط أهمية هذا الستار في كونه عبارة عن ستارة حديدية كانت مصممة لتغلق الخشبة عن الجمهور في حالة اندلاع حريق، إذ إن الإضاءة في زمن تشييد المسرح كانت بالشموع.

ترميم
وعن خطط الترميم وإعادة التأهيل التي ستستغرق 3 سنوات، قال مرابط "طبعا في الترميم سنحافظ على كل هذه الخصوصيات، فالهدف هو الحفاظ على مكونات المسرح وترميم واجهاته وإمكانية إعادة تشغيل كل مكوناته".
وأضاف أن إعادة تشغيل الستار الحديدي "يتطلب آليات لم تعد موجودة ومجهودا كبيرا جدا"، مشيرا إلى أن الهدف هو تشغيل المسرح لكن ليس بالطاقة الاستيعابية التي كانت له في الأصل.
وأوضح أن الطاقة الاستيعابية للمسرح كانت 750 مشاهدا وكانت في الغالب تتجاوزها إلى ألف، "فالمسرح سيتضمن أنشطة، ذلك صحيح ولكنها ليست أنشطة كبيرة في العدد بل في الرمزية التراثية".




وتتضافر جهود شركاء عدة من أجل إعادة ترميم المسرح وتأهيله، فبجانب وزارة الثقافة والسلطات المحلية هناك وكالة تنمية أقاليم الشمال، ومكتب الدراسات، ووكالة المحافظة على المباني التراثية.
وبخلاف المحافظة على الجانب التراثي للمبنى سيتعين على القائمين على أعمال الترميم إضفاء طابع عصري مثل الحماية المدنية وبعض خصوصيات المسرح المعاصر كالإضاءة.
وسيكون مسرحا تراثيا، يخصص لاحتضان المسرحيات الكلاسيكية العريقة كأعمال الفرنسي موليير والإنجليزي شكسبير والإسباني ثربانتس.
وثمّن يونس الشيخ الباحث في التراث، بخاصة تراث مدينة طنجة، انتقال ملكية المسرح إلى الدولة المغربية وإعادة تشغيله من جديد.
وقال لوكالة رويترز "هذه قيمة مضافة لمدينة طنجة، فمن شأن إعادة افتتاح هذا المسرح أن يعزز المشهد الثقافي ويعطي صورة جميلة لما تزخر به مدينة طنجة من تاريخ عريق وحضارة كونية".