اسيا زوجة فرعون
سيدة جليلة خلد القرآن الکريم ذکرها مثلاً سامياً للذين آمنوا نساءً ورجالاً في ثباتها على الدين الحق و صدقها في حب الله جل جلاله، إنها آسية بنت مزاحم، التي قال عنها الله عز من قائل في الآية 11 من سورة التحريم:
" وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ".
إذن هي امرأة فرعون وهي من أفضل نساء أهل الجنة کما في الأحاديث المتواترة من طريق الخاصة والعامة التي تصرح بأن أفضل نساء الجنة أو خيرهن أربع : خديجة وفاطمة ومريم وآسية بنت مزاحم .
کانت مؤمنة مخلصة تعبد الله سرا إلى أن قتل فرعون امرأة مومنة من أتباع موسى عليه السلام فعاينت الملائکة يعرجون بروحها فأظهرت إيمانها فأمر فرعون بالأوتاد فقتلها . وفي رواية مر بها موسى عليه السلام فشکت إليه بأصبعها، فدعا لها بالتخفيف فلم تجد للعذاب مسا وألما.
جاء في تاريخ مدينة دمشق – ابن عساکر – في الجزء الحادي والستين :
کان فرعون قد استنکح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وکانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء وکانت أما للمؤمنين ترحمهم و تتصدق عليهم وتعطيهم وعندما عثر جنود فرعون على تابوت موسى الوليد وجاؤوا به إليه قال لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه هذا الوليد أکبر من ابن سنة وإنما أمرت أن تذبح الغلمان لهذه السنة فدعه يکن " قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " أي لا يشعرون بأن هلاکهم على يديه فاستحياه فرعون وومقه وألقى الله عليه محبته ورأفته وقال لامرأته عسى أن ينفعک أنت فأما أنا فلا أريد نفعه وروي عن ابن عباس أنه قال: لو أن فرعون عدو الله قال في موسى کما قالت آسية عسى أن ينفعنا لنفعه الله به ولکنه أبى للشقاء الذي کتبه الله عليه.
وتذکر عدة من الأحاديث الشريفة أن الله عزوجل أکرم هذه المؤمنة بأن جعلها زوجة لرسول الله – صلى الله عليه واله – في الجنة، ففي تفسير الميزان قال السيد الطباطبائي:
أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى " .
أقول: وامرأة فرعون على ما وردت به الروايات في کيفية قتلها . ففي بعضها أنه لما اطلع على إيمانها کلفها الرجوع إلى الکفر فأبت إلا الايمان فأمر بها أن ترمى عليها بصخرة عظيمة حتى ترضح تحتها ففعل بها ذلک. وفي بعضها لما أحضرت للعذاب دعت بما حکى الله عنها في کلامه من قولها: " رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ " الخ، فاستجاب الله لها ورأت بيتها في الجنة وانتزعت منها الروح وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح. وفي بعضها أن فرعون وتد لها أربعة أوتاد وأضجعها على صدرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس.
وقد آمنت آسية منذ أن رأت معجزة موسى (عليه السلام) أمام السحرة، واستقر قلبها على الإيمان، لکنها حاولت أن تکتم إيمانها، غير أن الإيمان برسالة موسى وحب الله ليس شيئا يسهل کتمانه ، وبمجرد أن أطلع فرعون على أيمانها نهاها مرات عديدة وأصر عليها أن تتخلى عن رسالة موسى وربه، غير أن هذه المرأة الصالحة رفضت الاستسلام إطلاقا. وأخيرا أمر فرعون أن تثبت يداها ورجلاها بالمسامير، وتترک تحت أشعة الشمس الحارقة ، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة کبيرة. وفي تلک اللحظات الأخيرة کانت امرأة فرعون تدعو بهذا الدعاء إذ قالت: " رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " وقد استجاب لها ربها و يلاحظ أن امرأة فرعون کانت تستصغر بيت فرعون ولا تعتبره شيئاً مقابل بيت في الجنة وفي جواره تعالي، وبذلک ردت على نصائح الناصحين في أنها ستخسر کل تلک المکاسب وتحرم من منصب الملکة (ملکة مصر) وما إلى ذلک. لسبب واحد هو أنها آمنت برجل راع کموسي. وفي عبارة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين تضرب مثلا رائعا للمرأة المؤمنة التي ترفض أن تخضع لضغوط الحياة، أو تتخلى عن إيمانها مقابل مکاسب زائلة في هذه الدنيا .
لم تستطع بهارج الدنيا و زخارفها التي کانت تنعم بها في ظل فرعون، والتي بلغت حدا ليس له مثيل. لم تستطع کل تلک المغريات أن تثنيها عن نهج الحق، کما لم تخصع أمام الضغوط وألوان العذاب التي مارسها فرعون. وقد واصلت هذه المرأة المؤمنة طريقها الذي اختارته رغم کل الصعاب واتجهت نحو الله معشوقها الحقيقي. وتجدر الإشارة إلى أنها کانت ترجو أن يبني الله لها بيتا عنده في الجنة لتحقيق بعدين و معنيين: المعنى المادي الذي أشارت إليه بکلمة " فِي الْجَنَّةِ " ، والبعد المعنوي وهو القرب من الله " عِندَكَ " وقد جمعتهما في عبارة صغيرة موجزة .
ما رواه الحافظ إبن عساکر في تأريخ دمشق عن مقام هذه المؤمنة الجليلة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" أربع نسوة سادات عالمين مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و أفضلهن عالما فاطمة" .