الساحة الثقافية اليمنية شهدت انتعاشا ملحوظا رغم الحرب التي تعيشها البلاد. (الألمانية)
من بين أنياب الحرب، ينتزع اليمنيون سلوتهم بأنشطة فنية وثقافية أبت إلا أن تظهر جمالا فريدا يعكس مدى الإصرار والتحدي في مواجهة أوجاع البلاد الناجمة عن سنوات صراع مريرة مستمرة حتى اليوم.
واليمنيون -المعروف عنهم حب الأدب وعشق الفن- دأبوا على ممارسة أنشطة ثقافية متعددة خلال فترة الحرب، تعبيرا عن عزيمة متواصلة تسير في طريق عسير لم يخل من يسر الجمال الثقافي المنتشر.
ومع أصوات القذائف والرصاص وأزيز الطائرات الحربية، ترن في أسماعهم أغان جميلة أنتجت وقت الحرب، وقصائد شعرية تم نظم جمالها رغم صعوبة ظروف البلد الغني بالثقافة والتراث العريق.
واللافت بروز حراك ثقافي حقيقي مؤخرا في مختلف المحافظات اليمنية، سواء تلك الواقعة تحت سلطة الحكومة الشرعية، أو التي يحكمها الحوثيون.
وإضافة إلى الحراك الداخلي، نشط اليمنيون في الخارج بشكل لافت، فنظموا معارض فنية وثقافية، وأسهموا في نشر الكتاب اليمني، والتعريف بثقافة بلادهم خارجيا.


اليمنيون ينظمون معارض فنية وثقافية للتعريف بثقافة بلادهم رغم أجواء الحرب (الألمانية)

وعلى مدار السنوات الماضية، تم تنظيم معارض للكتاب شهدت إقبالا كبيرا في عدة محافظات، مثل تعز ومأرب وشبوة رغم الحرب الدائرة.
ومن المفارقات مثلا أن محافظة مأرب (شرقي البلاد) لم تحظ بتنظيم أي معرض كتاب في تاريخها سوى خلال فترة الحرب، إذ أقامت معرضين حضرهما مئات الآلاف من الزائرين، وفق إحصاءات رسمية.
وجود على قيد الكتابة
يكافح اليمنيون مرارا لإثبات ذواتهم عن طريق وسائل متعددة، بما في ذلك البقاء "على قيد الكتابة" ومطالعة كل جديد. ويُعد الكاتب والصحفي صقر الصنيدي أحد أبرز المؤلفين خلال فترة الحرب، إذ أصدر كتابا تحت عنوان "رحلة رأفت".




يقول الصنيدي -لوكالة الأنباء الألمانية- إن "كتاب (رحلة رأفت) جزء من المشهد العام الذي يعكس الصورة التي أصبح عليها اليمني، فالرحلة تغطي جانب التشرد والضياع الذي وقع فيه اليمني الذي لم يعتد على الخروج إلى العالم، أو لم يكن جاهزا لخوض تجربة الابتعاد عن الوطن في هذه المرحلة، وكان مجبرا على هذا الخروج".
وفي تعليقه بشأن الحراك الثقافي في زمن الصراع، يوضح الصنيدي أن "الحرب أوقفت معارض الكتاب، خاصة في صنعاء، لكنها لم توقف الكتابة".
وأردف أن الكتّاب استمر حضورهم وحاولوا إثبات وجودهم في أكثر من مناسبة، وأن السنوات الأخيرة شهدت افتتاح دار نشر يمنية "عناوين" بالقاهرة، بالإضافة إلى "أروقة" و"الدار اليمنية".
وأوضح أن جميع هذه الدور تشارك في معارض دولية، وقدمت مئات من العناوين لكتاب لا يزالون في الداخل، أو ممن شردتهم الحرب.
وتابع الصنيدي "يعيش الكاتب اليمني واقعا جعله يندفع لإثبات أنه ما زال موجودا على قيد الكتابة والحياة، وأن الحرب لم تنل منه ومن قدراته الكتابية".




كما أن الحرب، حسب الصنيدي، اعتُبرت بالنسبة لكثيرين مادة خصبة لإعادة تشكيلها، وتحويلها إلى نصوص، حيث طالعنا كثيرا من المؤلفات القادمة من وسط الركام.
ويشدد الصنيدي على أن "الحرب تلقي مسؤولية مضاعفة على المشتغلين في المجال الأدبي والفني، وتجبرهم على محاولة الوقوف والتعبير عن وجودهم بكل ما يمكنهم من قوة، ومحاولة أن يكون لصوت أوراقهم وقع أقوى من صوت الرصاص".
حضور لافت لليمنيات
لم يقتصر الإسهام الثقافي على فئة الرجال، بل ثمة نساء برزن بشكل كبير وقت الصراع، واستطعن الخوض في معترك الفن والثقافة والتراث بشكل لافت.
في هذا السياق، ترى جهاد جار الله، كاتبة وفنانة تشكيلية، أنه "في زمن الحرب اليمنية تجلت المساهمات الثقافية أكثر من أي وقت مضى، حيث الظروف القاسية تدفع دائما الإنسان إلى التساؤل حول الحياة وماهية وجوده، وربما تدفعه لاكتشاف وسائل أخرى للتعبير عن مشاعره".
وأضافت "نشهد حراكا في مجال الثقافة والفنون، فهناك عديد من الكاتبات والفنانات التشكيليات ظهرن في زمن الحرب، وربما أكثر من الرجال. المرأة في طبيعتها ترغب في البحث عن فسحة عن طريق الفنون، للتعبير عن أفكارها وهوياتها وأسئلتها حول الحياة والوجود والظروف المختلفة".




جار الله ردت على من يعتقد أن الأنشطة الثقافية تعد رفاهية في زمن الصراع، بقولها إن المجتمع يحتاج إليها بالقدر ذاته المطلوب في وقت السلم، فهي "لا تمثل وسيلة للتقارب والتعبير ونوعا من العلاج النفسي فحسب، بل أداة هامة لحفظ الذاكرة".
وفي ظل الظروف الصعبة التي يعيشها اليمن، تعوّل الفنانة "على المبادرات والمنظمات غير الرسمية، والجهود الفردية من الناشطين والمهتمين في المجال الثقافي، بأن يستمروا في الدفع بنشاط هذا المجال حتى يعم السلام في البلاد ويأتي بعدها دور الجهات الرسمية".

حراك ثقافي عابر للحدود

على مدار السنوات الماضية، استطاع عديد من المؤلفين اليمنيين طباعة ونشر كتبهم في دور نشر خارجية، ضمن الحراك الثقافي الذي تقوده النخبة. على سبيل المثال، تمت طباعة ونشر عديد من الكتب اليمنية في العاصمة المصرية القاهرة، إضافة إلى إقامة معارض ثقافية وفنية هناك، وكانت آخر هذه الأنشطة الفاعلة خارجيا إقامة معرض للفن التشكيلي في القاهرة شارك فيه 70 فنانا يمنيا.
وفي هذا المعرض الذي أقيم قبل أيام، تم استعراض لوحات متعددة من التراث والبيئة والثقافة والحضارة اليمنية، مع نقل فكرة عن الحركة التشكيلية في اليمن لجيل الشباب، وصمود هؤلاء الفنانين في وجه الظروف الصعبة التي يمر بها بلدهم.
وفي سياق هذا الحراك، يقول محمد سبأ، مدير الدار اليمنية للكتب والتراث في القاهرة، لوكالة الأنباء الألمانية "نقوم بمحاولة نشر الكتاب اليمني وتوزيعه على المكتبات في الخارج، إضافة إلى المشاركة في المعارض الثقافية الخارجية، وإيصال الكتاب اليمني إلى بلدان أخرى".
وأضاف سبأ أن "وجود الكتاب اليمني في المعارض الدولية مهم جدا… نؤمن بضرورة أن تصل الكتب اليمنية إلى القراء في الخارج، ليعرف العالم ماذا يجري داخل اليمن، ومعرفة حضارة وثقافة وتراث وأدباء وشعراء البلاد، وجميع المجالات".




وشدد على أن "نشر الكتاب اليمني مسؤولية الجميع، مطالبا بضرورة دعم المؤلفين في مسألة نشر كتبهم"، مشيراً إلى أن أغلب المؤلفين اليمنيين يتحملون تكاليف نشر كتبهم لعدم وجود جهات مساندة "بينما يفترض أن يتم دعمهم في هذا المجال الثقافي المعرفي المهم".