حقق العلم والتكنولوجيا تقدما ملحوظا يتمثل في ابتكار مواد جديدة، وتندرج تحت هذه المواد 4 أقسام أساسية، هي البوليمرات والمواد السيراميكية والفلزات والمواد الذكية
أطراف الأخطبوط تتميز بنتوءات لديها خاصية التصاق رائعة حتى على الأسطح غير المسامية (شترستوك)
في عام 1941 خرج مهندس سويسري يدعى جورج دي ميسترال للتنزه مع كلبه في جبال الألب، ففاجأته ملاحظة مثيرة عند عودته إلى المنزل، إذ وجد دي ميسترال أن هناك عددا كبيرا من البذور الملتصقة بصوف ردائه وأيضا فراء كلبه، كانت هذه البذور تعود لنبات الأرقطيون، لاحظ دي ميسترال أن هذه البذور تتمتع بشعيرات قوية دقيقة للغاية لها نهايات تشبه الخطاف.
لم تمر هذه الملاحظة على المهندس السويسري مرور الكرام، فعكف على دراستها، ومن هنا قرر تقليد الطبيعة وتحويل هذه الخاصية الطبيعية إلى اختراع مفيد، فكانت النتيجة لاصق الفيلكرو (Velcro) الشهير.
سُجل هذا الاختراع عام 1955 وطوّر ليستخدم حتى يومنا هذا في العديد من المنتجات في الحياة اليومية، مثل الأحذية والملابس والحقائب والمعدات الطبية والأثاث والكثير من التطبيقات الأخرى التي تتطلب إغلاقا سريعا ومريحا.
المواد الذكية وثورة الابتكار في العلوم والتكنولوجيا
حقق العلم والتكنولوجيا منذ ذلك الوقت تقدما ملحوظا يتمثل في ابتكار مواد جديدة، وتندرج تحت هذه المواد 4 أقسام أساسية، هي "البوليمرات" (Polymers) والمواد السيراميكية (Ceramics) و"الفلزات" (Metals) والمواد الذكية (Smart Materials).
من بين هذه المواد أصبحت المواد الذكية الأكثر شيوعا لتطبيقاتها المختلفة وخصائصها المتميزة التي تفوق المواد التقليدية، ووصف العلماء هذا النوع من المواد بالذكية لقدرتها على تغيير شكلها أو حالتها المادية أو حتى اتجاهها على الفور عند تعريضها لأي مؤثر خارجي كالضغط أو الحرارة مثلا.
تقليد الطبيعة ومواد الجيل القادم
هناك العديد من المواد الذكية -من بينها على سبيل المثال لا الحصر المواد الكهروضغطية (Piezoelectric Materials)- التي تستجيب للإجهاد الميكانيكي بتوليد مجال كهربائي والعكس.
وتوجد هذه الخاصية في بعض المواد الطبيعية والكائنات الحية مثل الكوارتز والتورمالين وقشور بعض الأسماك، وتوظف عادة في الأجهزة الإلكترونية مثل الساعات والراديو، لكن التطبيق الأكثر شيوعا لها هو شاشات اللمس.
وهناك أيضا "المواد ذاتية الاستشفاء" (Self-Healing Materials)، وهي مواد لديها القدرة على إصلاح نفسها من التلف دون الحاجة إلى مساعدة أو تدخل خارجي.
ويتميز جلد الإنسان وعظامه بهذه الخاصية، لكنها موجودة بكثرة في الكائنات الحية مثل ديدان الأرض والصبار، وقد ألهمت هذه المواد الطبيعية ذاتية الاستشفاء في الكائنات الحية الباحثين لتطوير مواد جديدة ذكية في مجالات الهندسة وعلوم المواد.
الطبيعة ثرية بمثل هذه الأمثلة، ولذلك اهتم الباحثون لعدة عقود بفهمها والعمل على اكتساب فن محاكاتها لإنتاج مواد وتصاميم ذكية تفيد الإنسان وتيسر حياته على الأرض حتى صار اتجاه "تقليد الطبيعة" (Biomimicry) اتجاها علميا ثوريا.
في السطور التالية سننظر في بعض الأبحاث والمشروعات العلمية المستلهمة من الطبيعة.
دي ميسترال قرر تقليد الطبيعة وتحويل هذه الخاصية الطبيعية إلى اختراع مفيد فكانت النتيجة لاصق الفيلكرو (شترستوك)
الديدان الأرضية ذاتية الاستشفاء
طوّر فريق بحثي من الأكاديمية الصينية للعلوم مادة جديدة ومبتكرة للتشحيم تتميز بخاصية الإصلاح الذاتي، واستوحى فكرته البحثية من ديدان الأرض.
ودودة الأرض قادرة على اختراق التربة والتنقل بين طبقاتها دون خدوش، وسر هذا الكائن الأرضي الذي يبدو ضعيفا هو طبقة التشحيم السميكة التي تغطي القشرة الخارجية للجسم.
تعمل طبقة التشحيم على حماية قشرة الدودة من الاتصال المباشر بجزيئات التربة، وبالتالي تجنب تآكل سطحها.
وعلاوة على ذلك، إذا حدث أي تلف في هذه الطبقة فإن ميزة الاستشفاء الذاتي تساعد الدودة على استعادة طبقة التشحيم وبقائها ثابتة، وبالتالي الحفاظ على السطح محمي من التآكل.
وفي ورقة بحثية منشورة في دورية "ترايبولوجي إنترناشونال" (Tribology International) طوّر الباحثون مادة بوليمرية تتميز بقدرتها على إصلاح نفسها بعد التآكل باتباع مفهوم الاستشفاء الذاتي في ديدان الأرض، ويمكن أن تستمر عملية الإصلاح الذاتي في المادة المطورة 353 مرة على الأقل.
التصميم الفريد للحوت الأحدب ألهم فريقا من العلماء الذين عكفوا على دراسة آلية عمل الزعنفة والذيل (شترستوك)
توربينات الرياح المستوحاة من الحيتان
جمل البحر أو الحوت الأحدب (Humpback) أحد أنواع الحيتان البالينية التي تنتمي إلى فصيلة الحيتان القافزة، ويتميز هذا الحوت بجسم قصير وزعنفة ظهرية صغيرة نسبيا وذيل مروحي الشكل.
كان هذا التصميم الفريد للحوت الأحدب ملهما لفريق من العلماء الذين عكفوا على دراسة آلية عمل الزعنفة والذيل، فتوصلوا إلى ابتكار جذري لتصميم ريشة لتوربينات الرياح أكثر فعالية في توفير الطاقة، وأثبتت كفاءة وزيادة في الإنتاج الكهربائي السنوي بنسبة 20% جنبا إلى جنب مع تقليل الضوضاء بشكل كبير.
ووفقا لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، تساعد هذه الريش في توليد "نفس القدر من الطاقة بمعدل 10 أميال في الساعة التي تولدها التوربينات التقليدية بسرعة 17 ميلا في الساعة".
ويمكن أيضا تطبيق هذه التقنية على المراوح والمضخات والضواغط، مما يوفر تحسينات في الحفاظ على الطاقة المتجددة وجمعها.
وقد نشرت العديد من الأبحاث التي تناولت دراسة تأثير هذه التقنية على الحد من الضوضاء وإنتاج طاقة في ظروف سرعة الرياح المنخفضة.
لاصق مغناطيسي ذكي مستوحى من الأخطبوط
وفي دراسة أخرى نشرت في دورية "أدفانسد فانكشنال ماتيريالز" (Advanced Functional Materials) كان الأخطبوط هو الملهم لتطوير مادة لاصقة ذكية.
تتميز أطراف الأخطبوط بنتوءات لديها خاصية التصاق رائعة حتى على الأسطح غير المسامية، وقد ألهمت الكثير من الأبحاث المستفيضة لتطوير مواد لاصقة صناعية، من بينها تصميم جديد لمادة لاصقة ذكية تعمل مغناطيسيا وموفرة للطاقة، وتتميز بقوة التصاق قابلة للضبط بسرعة وقابلة للتحويل والانعكاس مستوحاة من آلية تخزين الطاقة المرنة في ماصات الأخطبوط.
الكريستالات تولّد اللون في جلد الحرباء من خلال تأثيرات التداخل البصري (بيكسابي)
جلد الحرباء الذكي
القدرة على تغيير اللون بسرعة مفيدة للتمويه والتزاوج وترهيب الحيوانات المفترسة، ويوصف التلون في الكائنات القادرة على ذلك بأنه "بنيوي"، وذلك لأنه ينشأ بفعل صفوف متراصة بشكل دوري من البنى النانومترية والميكرومترية والمعروفة بالكريستالات الضوئية.
تولد هذه الكريستالات اللون من خلال تأثيرات التداخل البصري، على عكس إستراتيجيات التلوين الشائعة باستخدام الأصباغ ومواد التلوين، والتي تعتمد على امتصاص موجة ضوئية ذات طول موجي محدد.
ووفقا لقانون براغ للحيود (Bragg Law Of Diffraction)، فإن المسافة الدورية بين العناصر في هذه الكريستالات الضوئية الطبيعية تحكم لون المادة، وتبعا لذلك فإن الآلية الديناميكية لتغيير اللون للعديد من هذه الأنواع تستخدم مصفوفات من البنى النانومترية سريعة الاستجابة للبيئة المحيطة، والتي بدورها تضبط المسافة الفاصلة بين الكريستالات الضوئية.
ومن خلال تحليل آلية تغير لون جلد الحرباء نشر فريق من جامعة إيموري بالولايات المتحدة بحثا في دورية "إيه سي إس نانو" (ACS Nano) قام خلاله بتطوير جلد ذكي سريع الاستجابة للإجهاد، ويحافظ على حجم ثابت أثناء التحول اللوني.
قابلية الابتلال المتكيفة مع المحيط خاصية محيرة وموجودة في الطبيعة ومن أمثلتها بلح البحر (بيكسابي)
بلح البحر لمعالجة المياه
قابلية الابتلال المتكيفة مع المحيط خاصية محيرة وموجودة في الطبيعة بكثرة، ولكنها نادرة جدا وعصية على الإدراك في المواد الصناعية.
وقد لوحظت هذه الخاصية في عدد من المواد الطبيعية، مثل قشور البطاطس وأكواز الذرة وصخور "الدياتومايت" (Diatomite)، و"التورمالين" (Tourmaline)، والعوادم الناتجة عن احتراق الشمع، بالإضافة إلى بلح البحر (Mussel).
وتتمكن الكائنات الحية بفضل هذه الخاصية من التكيف في أوساط مختلفة، فبإمكانها أن تظهر قابلية للبلل في الوسط المائي أو الزيتي.
وتعتبر أغشية الفصل التي تتمتع بقابلية البلل المتكيفة هذه ذات أهمية كبيرة للتطبيقات العملية، لأنها يمكن أن تحقق فصل الزيت عن الماء عند الطلب وفقا لخصائص خلطات الزيت مع الماء المستهدفة.
واجتهد فريق علمي في تطوير أغشية فصل ذكية تتميز بهذه الخاصية مستوحاة من بلح البحر ونشرت النتائج في دورية "جورنال أوف ميمبرين ساينس" (Journal of Membrane Science).
وحقق الغشاء المستحضر من شبكة فولاذية معالجة بـ"بوليمر البولي دوبامين" أداء متميزا في فصل مختلف خلطات الزيت والماء غير القابلة للامتزاج والمستحلبات القابلة للامتزاج تحت تأثير الضغط.
الوقوف على أكتاف الطبيعة
لقد كان للمواد الذكية المستلهمة من الطبيعة تأثير على جميع جوانب الحضارة في الماضي، وسيكون لهذه الثورة التكنولوجية الجديدة المتمثلة في مواد الجيل القادم وقدراتها الاستثنائية تأثير كبير على البشرية في المستقبل القريب.
وفي هذا السياق، نتذكر قول السير إسحاق نيوتن عندما كتب إلى منافسه العالم روبرت هوك في إحدى رسائله عام 1676 يقول "وأنا إذ نفذت بصيرتي لأبعد مما حالفتك بصيرتك فهذا لأنني وقفت على أكتاف العمالقة"، أي تعلمت منهم.
والطبيعة هي العملاق الأكبر الذي ألهم جميع عمالقة العلوم وقاد ابتكاراتهم، لذا، فإن كل ما علينا هو أن نراقبها بدقة لكي ننهل منها ونتعلم بدلا من استغلالها وتدميرها.