البُلغار.. المحمية التاريخية الشاهدة على جذور الإسلام في روسيا
"لقد شرع البُلغار بالاستماع إلى القرآن على ضفاف الفولغا بينما لم يكن الروسي قد بدأ -بعد- في بناء الكنائس المسيحية على ضفاف الأوكا، أو غزو كل الأماكن التي غزاها باسم الحضارة الأوروبية".. بهذه العبارة برهنَ المؤرخ والفيلسوف الروسي الشهير، سرجي سولوفييف (1820-1879)، على جذور الإسلام في روسيا القديمة، ودور شعب البُلغار في الحفاظ على دينهم منذ نشأتهم في القرن الثالث عشر الميلادي.
وعلى مدار أكثر من 1000 عام تقريبًا، استطاع البُلغار التمسُّك بهويتهم الإسلامية وممارسة طقوسهم التعبُّدية تحت حكم القياصرة، ضاربين أروع المُثُل في الإيمان بالمعتقد والحفاظ عليه، رغم المحطات التاريخية الصعبة التي تعرّضوا لها قديمًا وحديثًا، ويذهب المؤرِّخون إلى أن البُلغار كانوا البوابة الأولى لدخول الإسلام إلى روسيا بصفة عامة وتثبيت أركانه حتى اليوم.
ويعدّ الإسلام ثاني أكبر ديانة في روسيا بعد الأرثوذكسية، إذ يصلُ عدد المسلمين حوالي 25 مليون شخص، يمثّلون 11% من إجمالي سكان البلاد، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى ما يقارب الـ 13% بحلول عام 2030 ونحو 17% بحلول عام 2050، بحسب الإحصاءات التي يقدِّمها مركز بيو للأبحاث.
وينتمي البُلغار إلى جمهورية تتارستان، أحد الكيانات الفيدرالية في روسيا، وتقع في السهل الأوروبي الشرقي، على مساحة 70 ألف كيلومتر، وسكانها يقتربون من 4 ملايين نسمة، ويمثّلون النواة الأبرز لنشر الثقافة الإسلامية في مناطق شرق أوروبا، وهو ما توثِّقه مواقعهم الأثرية الشاهدة على أعماق الإسلام الغائرة في الأراضي الروسية لمئات السنين.. فماذا نعرف عن هذه الطائفة؟
خلفية تاريخية
عرفَ البُلغار الإسلام عن طريق العالم المسلم أحمد بن فضلان (877-960) بناءً على طلب من ملك البُلغار في أواخر القرن العاشر للميلاد (عام 921) قدّمه للخليفة المقتدر، لإيفاد بعثة إلى بلاده من أجل نشر الإسلام والتعريف بأصوله داخل بلاطه، مع تولي بناء مسجد ورفع الآذان وإطلاق عملية دعوة واسعة للإسلام كان فضلان على رأسها، وقد وثّقَ ذلك في رسالته للخليفة التي وصفَ فيها بلاد الترك والبُلغار والروس والخزر وأيضًا البلاد الإسكندنافية، وكانت الأبجدية العربية هي اللغة الأساسية في ذلك الوقت واستمرَّت حتى عام 1928 حينما اُستبدلت بها الأبجدية اللاتينية.
وسمعَ بُلغار الفولغا، كما يُطلق عليهم، لأول مرة عن الإسلام في القرن السابع الميلادي، غير أن المعرفة الأكثر حضورًا وقربًا كانت مع البعثة القادمة من العراق، ومع بدايات القرن الثالث عشر سقط البُلغار في قبضة الدولة المغولية التي غزت روسيا فاحتلّت البُلغار وأُطلق عليهم "القبيلة الذهبية".
وشارك البُلغار الروس في المقاومة ضد الاستعمار المغولي لعقود طويلة، حتى توثّقت العلاقة بين الإسلام والدولة الروسية رغم الخلافات المذهبية بينهما، وفي منتصف القرن الخامس عشر تفكّكت الإمبراطورية المغولية إلى 4 قبائل كانت على رأسها القبيلة القازانية (نسبة إلى مدينة قازان عاصمة تتارستان)، والتي تحولت إلى دولة البُلغار فيما بعد.
وفي عام 1552 نجح القيصر الروسي الشهير، إيفان الرابع، الملقّب بـ"إيفان الرهيب" في حصار قازان وإسقاط قبيلتها وفرض السيطرة على البلاد بأكملها، وفي عام 1920 أعلنَ رسميًّا ضمّ جمهورية تتارستان كإحدى الجمهوريات التابعة للجمهورية الروسية السوفيتية، لتبقى تحت مظلتها قرابة 70 عامًا.
وبنهاية حكم ميخائيل غورباتشوف عام 1990، أعلنت تتارستان استقلالها عن السوفيت في 30 أغسطس/ آب 1990، لكنه استقلال مشروط بحكم مذكرة التفاهُم الموقَّعة بين قازان وموسكو في مارس/آذار 1990، بأن تكون الدولة المسلمة ضمن الفيدرالية الروسية، وظلت على تلك الوضعية الإدارية والقانونية حتى الساعة.
خصوصية مغايرة
في علوم الديموغرافيا والجيوسياسة يذهب المؤرِّخون إلى أن خارطة تقسيم المسلمين في العالم تنقسمُ إلى شقَّين لا ثالث لهما، إمّا مسلمون داخل بلدان ذات أغلبية مسلمة، وإما أقليات مهاجرة داخل بلدان غير إسلامية، وهذا هو الطراز التقليدي للتعامُل مع المسلمين على مرِّ التاريخ.
لكنّ مسلمي البُلغار يتمتّعون بوضعية مغايرة تمامًا لهذا التقسيم التراثي المعروف، فهم لا يقيمون في أرض إسلامية ولا يستظلّون بحكم نظام إسلامي، وفي الوقت ذاته هم ليسوا مغتربين ولا مهاجرين حتى يُطلق عليهم "أقليات" كما الحال مع غيرهم، ومن هنا يأتي هذا التمايز.
فهُم مسلمون أبًّا عن جد في روسيا، بل إن وجودهم أسبق من المسيحيين بأكثر من 100 عام في بعض الروايات التاريخية، ومن ثم لا يتعاملون مع روسيا أو تتارستان كوطن بديل يرتكنون إليه، لكنه موطنهم المتجذِّر الذي نشأوا فيه وترعرعوا في أحضانه، ومن هنا حين يدافعون عن هويتهم فإنهم يستندون إلى قاعدة الدفاع عن الوطن، وتلك الثنائية تجعلهم أكثر قوة وأصلب في التشبُّث بالتراب والدين معًا.
وعليه يمكن تفسير الاستماتة في الدفاع عن بلادهم في مواجهة الإمبراطورية المغولية قديمًا والدولة السوفيتية في العصور الحديثة، فمنطلقهم واحد، الحياة تعني الأرض، والأرض هنا تجمع روابط الدين والهوية والثقافة، ومن ثم جاء الصمود مبهرًا واستطاعوا التحدي وعبور الكثير من المِحَن التي تعرضوا لها، دون أن تنخر قواهم ولا تتفتّت وحّدتهم.
وتشير الإحصاءات إلى أن هناك أكثر من 60 شعبًا من الشعوب التي تسكن الاتحاد الروسي وتعتنق الإسلام كدين أساسي، تتقسم بين دول مستقلة وأخرى ذات استقلال ذاتي ضمن الاتحاد، فيما تتوزّع البقية الباقية على الدول الأخرى كأقليات وقبائل متفرِّقة، وذلك وفق إحصاء 1989.
الدفاع عن الإسلام تحت حكم القياصرة
العلاقة بين الروس والمسلمين لم تكن على الوضعية المأمولة كما يروِّج لها المؤرِّخون الروس في كتبهم ومقالاتهم، التي يسعون من خلالها إلى تبرئة ساحتهم من سجلّهم الدامي بحقّ المسلمين، إذ كان العهد السوفيتي واحدًا من أكثر العهود ديكتاتورية على مرّ التاريخ، حيث تجرّع في كنفه المسلمون مرارة الاضطهاد والتنكيل كؤوسًا وأكوابًا.
كان التحدي الأكبر بعد الثورة البلشفية عام 1917 التي كوّنت النواة الأولى للإمبراطورية السوفيتية، إذ وجدَ المسلمون صعوبة بالغة في التوفيق بين دينهم الإسلامي من جانب والأفكار الشيوعية الجديدة من جانب آخر، لكنه التوفيق الذي لم يتحقّق بالشكل المُرضي للسلطات البلشفية فكان الاستهداف.
ومع الإعلان رسميًّا عن استراتيجية إلحادية في فكر الإمبراطورية السوفيتية الجديدة، تعرّض المسلمون لحملة تنكيل غير مسبوقة، حيث أُغلقت المساجد التي تحوّلت إلى مخازن فيما بعد، ونُكِّل بعلماء المسلمين ما بين السجن والنفي، فيما كان الاتّهام الأبرز حينها للكنيسة الأرثوذكسية كونها رأس الحربة في هذا الاستهداف.
ولعلّ خطابات الساسة والحكّام السوفيت وقتها توثِّق لغة الخطاب العنصرية الطائفية بشكل أوضح، وهو ما يمكن الوقوف عنده عبر الكلمات المنسوبة إلى الرئيس غورباتشوف عام 1988، حين قال: "إن أي حرب تخوضها روسيا ستكون باسم الإنسان الأبيض ومباركته، ويجب أن تتخذ صورة الحرب الصليبية باسم المسيحية".
وقد واجه المسلمون البُلغار تضييقات حادة، على مستوى الأفراد والمؤسسات على حد سواء، فأُلغيت المحاكم الشرعية ومحاكم الأعراف عام 1924، كما أُغلقت المدارس الدينية والكتاتيب، والتي تجاوزت حينها 15 ألف مؤسسة، هذا بجانب استهداف المسلمين ديموغرافيًّا من خلال التهجير والتوطين القسري.
وعلى مدار أكثر من 70 عامًا تحت مظلة الحقبة السوفيتية، عاشَ المسلمون في مآسٍ لا يمكن حصرها، من مضايقات في أداء الشعائر، وحملات تنصير لا تتوقف، واستهداف ممنهَج للطقوس والعبادات الإسلامية، إلى حدّ أن المسلمين كانوا يؤدّون شعائرهم سرًّا فيما التزموا منازلهم خشية الاعتقال أو القتل.
وفي تلك الوضعية الصعبة كان البُلغار حاملين راية الإسلام والدعوة، فنشروا الفكر الإسلامي والثقافة الدعوية بصورة أذهلت الجميع، حتى انتشرَ بفضلهم الدين الإسلامي داخل كل بيت في تتارستان، وتجاوزت الدعوة حدود دولتهم الصغيرة إلى العاصمة موسكو، فكان رجال الدين التتارستان يتوافدون إلى هناك في صورة بعثات لتعليم الروس الإسلام، حتى اعتنق الكثير من أبناء الدولة الروسية الإسلامَ خلال العقود الماضية، وهو ما أقلقَ الكنيسة الأرثوذكسية حينها.
حضارة الـ 1000 عام
جولة داخل جمهورية تتارستان، خاصة في شوارع العاصمة قازان، تأخذك في رحلة روحية لأكثر من 1000 عام تقريبًا، فبالكاد لا يخلو شارع من معلَم إسلامي بارز، يتصدّره مسجد قول شريف أو كما يُطلق عليه المسجد الجامع، ويعدّ واحدًا من أعظم مساجد أوروبا على الإطلاق بُني في القرن السادس عشر، وسُمّي بهذا الاسم تكريمًا للبطل التتاري قول شريف الذي دافعَ عن مدينة قازان المسلمة، واستشهد خلال الاجتياح الروسي عام 1552 بقيادة إيفان الرهيب.