من صور تاريخنا المشرقة.. التسامح الديني في العصر العثماني
قدمت الدولة العثمانية نموذجًا تاريخيًا رائعًا في التسامح الديني، وأقامت نظام الملة المستمد من الشريعة الإسلامية السمحة، الذي ضمنت به الدولة حرية العبادة وإقامة الشعائر لغير المسلمين، ومنحتهم ما يشبه الإدارة الذاتية لشؤونهم الدينية.
وعلى امتداد أراضي وممتلكات الدولة الشاسعة عبر ثلاث قارات، ضمت دولة آل عثمان، تنوعًا وثراءً هائلًا وغير مسبوق في الملل والنحل والطوائف الدينية والمذهبية، كان لهم جميعًا الحق في ممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية وأريحية، وارتقى فيها غير المسلمين أرفع المناصب، وازدهرت أحوالهم المعيشية والاقتصادية وتزايد نموهم السكاني على نحو غير مسبوق، منتشرين في كل مدن الدولة العثمانية الكبرى بداية من إسطنبول مرورًا بالقاهرة وبغداد ودمشق وحلب وغيرها.
وبينما كانت الدولة العثمانية تزخر بكل الأديان والطوائف والملل وتقدم أروع الأمثلة في التسامح الديني بين رعاياها، كانت نيران التعصب الديني تحرق أوروبا في القرنين الخامس والسادس عشر، ويضطهد ملوكها كل مخالف لهم في الدين أو المذهب على نحو ما شهدته إسبانيا من إبادة وطرد للمسلمين واليهود الذين لم يجد الكثير منهم إلا أراضي الدولة العثمانية ملجأ من جحيم الاضطهاد الديني.
نظام الملة
نظام الملة هو ذلك النظام الذي ينظم شؤون غير المسلمين في الدولة العثمانية، وذلك بمنحهم الاستقلال بانتخاب رؤساهم الدينيين وحق ممارسة شؤونهم الخاصة في التعليم والقضاء والضرائب تحت إشراف هؤلاء الرؤساء، وكانت كل مجموعة من غير المسلمين تمثل طائفة مستقلة يتحدد وضعها ووضع المنتسبين إليها وفقًا لانتمائهم الديني.
وتمثل هذا المؤسسة مؤسسة وسيطة بين الدولة وأهل الملل المختلفة فيها، بحيث يقوم رئيس كل ملة باستقبال الفرمانات والأوامر السطانية ويبلغها إلى أهل ملته ويتابع تنفيذها بينهم، وكان أفراد كل ملة يبلغون الدولة ما يريديون عبر رؤسائهم الدينيين المنتخبين منهم بموافقة سلطانية معلنة بفرمان خاص.
ونظام الملة، وفق كتاب "الأقليات الدينية في الدولة العثمانية" للدكتور خالد عبد القادر الجندي، يعد استمرارًا تاريخيًا وقانونيًا لمصطلح أهل الذمة، إلا أن الأخير تعبير عن الخبرة العربية، بينما الملة تعبير عن الخبرة العثمانية والسلطان محمد الفاتح هو الذي جعل مؤسسة الملة جزءًا من بنية الدولة ووضع لها القواعد والأسس التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الدولة الإسلامية.
وقد بني نظام الملل العثماني على أسس إسلامية مستنبطة من المذهب الحنفي، ويعود أصل النظام إلى عهد السلطان محمد الفاتح (1451- 1481) الذي اعتبره المؤرخ الإنجليزي أرنولد توبيني المسؤول الأول عن بقاء شعوب دول أوروبا التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية على دياناتهم المسيحية واليهودية.
فلو فعل ما فعله الإسبان بالمسلمين واليهود بعد سقوط غرناطة لكانت اليونان وصربيا ويوغوسلافيا وبلغاريا ورومانيا وجزيرة القرم وشرق النمسا وجنوب بولندا بلدانًا إسلامية لا أثر فيها لأهل الكتاب، لكن الحاكمين باسم الإسلام أبوا إلا أن يطبقوا شريعة الإسلام السمحة، ويعترفوا بكل موحد بالله الواحد القهار ومناد بتعاليمه السماوية مهما كانت ديانته.
ولم يبدأ تعامل السلطنة العثمانية مع المسيحيين واليهود بشكل متسع عمليًا، إلا بعد فتح القسطنطينية، وما قرر بعد هذا الفتح سيكون نظامًا كاملًا يجري العمل فيه في سائر الولايات العثمانية في كل مراحل الدولة العثمانية.
ووفق ما جاء في كتاب "الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل الانحطاط" للدكتور قيس جواد العزاوي، فقد دخل السلطان محمد الفاتح القسطنطينية في 29 مايو/أيار 1453م فأصدر أوامره بمنع كل اعتداء يفسد الأمن حالًا، ثم زار كنيسة أيا صوفيا وأمر بأن يؤذن فيها بالصلاة إعلانًا بجعلها مسجدًا جامعًا للمسلمين، وبعد تمام الفتح على هذه الصورة أعلن في كل الجهات بأنه لا يعارض إقامة شعائر ديانة المسيحيين وإعطائهم نصف الكنائس وجعل النصف الآخر جوامع للمسلمين.
ثم جمع أئمة المسيحية لينتخبوا بطريرك لهم فاختاروا جوروج سكولاريوس واعتمد السلطان هذا الانتخاب وجعله رئيسًا لطائفة الروم واحتفل بتثبيته بنفس الأبهة والنظام الذي كان يعمل للبطارقة في أيام ملوك الروم المسيحيين، وأعطاه حرسًا من عساكر الإنكشارية، ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية بكل أنواعها المختصة بالأروام، وعين معه في ذلك مجلسًا مشكلًا من أكبر موظفي الكنيسة، وأعطي هذا الحق في الولايات للمطارنة والقساوس، وفي مقابل هذه المنحة فرض عليهم دفع الخراج مستثنيًا من ذلك أئمة الدين فقط.
يقول المؤرخ المسيحي ألبرت حوراني إنه بعد سقوط القسطنطينية، تمتعت الطوائف المسيحية واليهودية بالاعتراف بها رسميًا، فقد أقرت السلطنة العثمانية للبطاركة الأرثوذكس والأرمن ولحاخام العاصمة الأعظم بأنهم ليسوا رؤساء طوائفهم الروحيين فحسب، بل رؤسائهم السياسيون أيضًا، أما الطوائف الأخرى كالأقباط في مصر والموارنة والنساطرة والسريان والأرثوذكس في لبنان وسوريا والعراق، فكانت على اتصال أقل بالحكام لإقامتها بعيدًا عن العاصمة، ومع ذلك كان بطاركتها ينالون اعتراف السلطان بهم من وقت لآخر، وكان السلطان يقوم بتنصيب البطاركة والحاخاميين رسميًا، وكان هؤلاء يتعاملون مع حكومته في جميع الشؤون العائدة لأبناء طوائفهم.
وكان للقرارات والأحكام الصادرة عنهم في نطاق الطائفة صفة القانون النافذ، وكانت تسري عليهم في الأحوال الشخصية والدعاوى المدنية أحكام قانونهم الديني وعرفهم.
يشير المستشرق الألماني بروكلمان إلى أن النصاري كانوا يقسمون بحسب الجنسية والطائقة إلى ملل، يتمتعون بالحرية المدنية والدينية الكاملة، خاصة إذا كانوا من اليونان "روم ملتي" والواقع أنه كان لبطريرك الروم في القسطنطينية من القوة والسلطان في ظل العثمانيين، أكثر مما كان عليه في عهد بيزنطة نفسها، وكانت مراسيم العمودية والزواج والدفن تقام علانية وفي فخامة وأبهة في معظم الأحيان.
تتشابه شهادة المستشرق الإنجليزي المتخصص بالدولة العثمانية ستنانفورد شاو مع شهادة المستشرق الفرنسي أندرية ميكال، فيقول الأخير إنه باستثناء إعداد الأطفال إلى الإنكشارية، لم يتم في أي مكان من الإمبراطورية إدخال أي شخص في الإسلام بالإكراه، أما تحول بعض المناطق في أوروبا إلى الإسلام فكانت مثلما حدث على امتداد تاريخ الإسلام نتيجة عوامل اجتماعية بحتة: إما كمحاولة للانتماء إلى الطبقة الحاكمة وإما كرد فعل انتقامي مثلما حدث في البوسنة ضد الاضطهادات الكاثوليكية، وإما هروبًا من ثقل جباية الكنيسة الأرثوذكسية.
ولم يكن بوسع أي سلاح أن يثير نفس الاتساع الذي حدث عندما دخلت البوسنة في الإسلام في القرن الرابع عشر، واختصارًا للقول فإن الإمبراطورية العثمانية بدت في أجمل أيامها في النصف الأول من القرن السادس عشر كملجأ للسلام الديني في مواجهة أوروبا المضطهدين، فلا الطوائف المختلفة والجماعات الإقليمية ستنتزع من جذورها بدليل النشاط والحيوية التي يمارسونها إلى يومنا هذا.
الحرية الدينية
في كتابه "عرب وعثمانيون" ذكر المؤرخ المصري الدكتور محمد عفيفي، أن نظام الملة كان من أشهر النظم العثمانية التي لاقت اهتمامًا خاصًا من جانب الباحثين شرقًا وغربًا، وربما يأتي ذلك من كونه النظام الذي يتعلق بتنظيم أوضاع غير المسلمين في الدولة العثمانية، فلا يزال هذا النظام يقدم كصورة من أهم صور التسامح الديني عبر التاريخ.
إذًا لا ينبغي إهمال السياق التاريخي الذي خرج فيه هذا النظام، فبينما نعم غير المسلمين بالتسامح الديني في أراضي الدولة العثمانية، شهدت شبه جزيرة أيبيريا موجات الاضطهاد المتتالية على يد الإسبان والبرتغال ضد مسلمي الأندلس وحتى اليهود.
وأعطى نظام الملة العثماني الطوائف الدينية المختلفة حرية دينية لا سيما في أمور العبادات والأحوال الشخصية، فضلًا عن الاعتراف الرسمي بالرؤساء الدينيين لهذه الملل.
وفي جميع مدن المشرق العربي كانت توجد طوائف مسيحية من أهالي البلاد وقد استفادت إلى حد كبير من الإمكانات الاقتصادية الجديدة المتاحة بفضل الدولة العثمانية وكذلك بفضل نمو التجارة مع أوروبا، وقام المسيحيون بطبيعة الحال بدور الوسطاء بين الفرنجة والتجار المحليين، ولعب المسيحيون المحليون أيضًا دورًا مهمًا كمعاونيين للحكام باعتبارهم أصحاب كفاءات إدارية، كما كان الكثير منهم يعملون كأصحاب مصارف.
وفي بلاد الهلال الخصيب استفاد الأرمن من نفوذ أبناء جنسهم من أصحاب البنوك لدى حكام الأقاليم ومن سيطرتهم على الطرق التجارية المتجهة إلى بلاد الفرس وآسيا والهند.
وفي مصر عمل الأقباط لدى الأمراء كمديرين ماليين لا غنى عنهم، كما قام المسيحيون السوريون منذ عام 1770 باستغلال الإيجارات الزراعية لصالح الأمراء أيضًا.
وأدى ازدهار وتقدم المسيحيين السوريين وتوطيد اتصالاتهم مع الغرب عن طريق الإرساليات الدينية إلى انتشار التعليم بينهم وفي نهضتهم الثقافية ومن أبرز مظاهر تلك النهضة إقامة المطابع في مراكز عديدة بالمشرق العربي وفي مقدمتها حلب وبيروت.
وفي بغداد والموصل ازداد تنوع الكنائس الشرقية بعد وصول الرهبان الكيوشي عام 1630 والدومينيك عام 1750، وفي نهاية القرن الثامن عشر كان يوجد في الموصل 10 آلاف مسيحي متفرقين بين 4 مناطق، الأمر الذي يؤكد تمتعهم بتسامح كبير، وكان هناك 11 كنيسة منهم 6 كنائس للطوائف الشرقية و5 للطوائف الغربية.
كما حققت الطائفة المسيحية في مدينة حلب نموًا وازدهارًا، يعود لنمو المدينة الاقتصادي وازدهار التجارة الأوروبية التي كانت حلب إحدى أسواقها الرئيسية في المشرق، وخلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، أقام البريطانيون والفرنسيون والهولنديون، قنصليات ووكالات تجارية دائمة في حلب، انتفع غير المسلمين من التوسع في العلاقات مع أوروبا خاصة المسيحيين الذين عملوا كوسطاء مع التجار الفرنجة، كما كانوا يتاجرون لحسابهم الخاص، وكان التجار والحرفيون المسيحيون يقيمون في حي جديدة شمال غرب حلب بطابعه المسيحي الذي برز منذ أمد بعيد.
وفي نهاية القرن الثامن عشر وخلال القرن التاسع عشر، كان عدد المسيحيين في حلب 10% من السكان وكانت هذه الطوائف المسيحية تضم أرمن ومارونيين ومالكنيين وكاثوليك شرقيين، وقد تمتع المسيحيون في حلب برفاهية بدت في وجود عدد كبير من الكنائس وجودة الطرق العامة وترف المنازل والتنظيم الجميل للأحياء التي يعيشون فيها.
الازدهار الديموغرافي للمسيحيين واليهود
لعل أكبر دليل عملي على التسامح الديني في العصر العثماني ذلك هو الازدهار الديموغرافي الذي عرفته الطوائف المسيحية واليهودية في العالم العربي آنذاك.
فالقاهرة العثمانية في نهاية القرن الثامن عشر وعند وصول الحملة الفرنسية وصل عدد سكانها إلى 263 ألف بينهم 10 آلاف قبطي و3 آلاف يهودي ونحو 10 آلاف تركي و20 ألف مغربي وسوري و5 آلاف مسيحي سوري و5 آلاف يوناني وألفي أرمني.
وفي دمشق وصل إجمالي السكان عام 1569م إلى 52400 نسمة، منهم 6300 مسيحي و330 يهودي وبعد ذلك بقرنين ازداد عدد المسيحين ثلاثة أضعاف ووصل إلى 22 ألف، في حين أن عدد السكان لم يصل إلى ضعف ما كان عليه 90 ألف نسمة، وتميزت بغداد بارتفاع أعداد الطائفة اليهودية، إذ وصل عددهم عام 1580 إلى 3015، ويقدر البعض أن عددهم في نهاية القرن الثامن عشر وصل إلى 10 آلاف نسمة، وفي عام 1881 وصل عددهم إلى 25364 نسمة.
ملجأ لليهود
كانت السلطنة العثمانية الملجأ الوحيد لليهود الهاربين من الطغيان والاضطهاد الأوروبي، وشغل اليهود مراكز اقتصادية وسياسية مهمة للغاية في السلطنة، ويجمع معظم المؤرخين أن الدولة العثمانية تحولت لملجأ للحرية الدينية بالنسبة لليهود المطرودين من إسبانيا بعد صدور قرار ملكي في مارس/آذار 1492 يقضي بطرد اليهود الذين لم يتنصروا من أراضي قشتالة خلال أربعة أشهر من تاريخه وألا يعودون إليها أبدًا، ويتعرض المخالف للموت ويقضي أيضًا بمصادرة أموالهم.
ولقد سري الأمر نفسه على المسلمين الذي أجبروا على الطرد أو التنصير وارتكبت بحقهم المجازر المروعة، وكانت إسطنبول ملجأ لليهود الهاربين من مذابح القياصرة والقادمين من النمسا وبولندا حتى بلغ عدد سكان الحي اليهودي في إسطنبول عام 1590 نحو عشرين ألفًا.
"أبواب الحرية هنا مفتوحة دائمًا لكم لتمارسوا شعائركم اليهودية بلا تحفظ"، تلك كانت رسالة اليهودي صموئيل أسك الذي اضطر إلى اعتناق الكاثوليكية في القرن السادس عشر، لكنه ظل يهوديًا في السر داعيًا إخوانه في الديانة اليهودية إلى الهجرة للدول الإسلامية بعد اضطهادهم وطردهم من إسبانيا، وقد استقبلت البلاد الخاضعة للدولة العثماينة وفي مقدمتها مصر وسوريا وفلسطين تلك الجاليات اليهودية الهاربة.
مارس اليهود في البلاد العربية الكبيرة، حيث تمركزت جاليتهم، أنشطة متنوعة، فكانت أشغال المعادن الثمينة وأعمال الصرافة مهنتهم التقليدية، وفي القاهرة كانت حارة اليهود تقع في قلب المدينة بجوار الصاغة، كما كان اليهود يعملون أيضًا في دار سك النقود وكانوا يمارسون أنشطة التجارة الخارجية والتصدير والاستيراد بفضل علاقاتهم مع اليهود الأوروبيين، كما مارسوا الأنشطة البنكية بفضل الأموال التي استطاعوا جمعها من الأنشطة التجارية.
نماذج ووثائق للتسامح الديني
تعبيرًا عن روح التسامح في الدولة العثمانية، اتخذ السلطان سليم الأول طبيبًا خاصًا به من اليهود، وكان يرافقه في معاركه الحربية، وكذلك فعل خلفه السلطان سليمان القانوني الذي استحدث وظيفة جديدة هي "الكغيا"، مهمة القائم عليها رعاية مصالح الطائفة لدى السلطات الحاكمة، ويسمح له بالتواصل بشكل مباشر مع السلطان ووزراء الباب العالي لتقديم ما يتعلق بقضايا الطائفة.
كانت الدولة العثمانية تحرص على ممارسة المسيحيين واليهود لشعائرهم الدينية في جو من الأمان، وكانت تعهد إلى الإنكشارية بحراسة الكنائس.
في كتابه "صفحات مطوية من تاريخ مصر العثمانية"، ذكر الدكتور موسى نصر أن دير سانت كاترين يضم مرسومًا سلطانيًا عن الملل بتاريخ 19 مايو/أيار عام 1525، وآخر في أول يناير/كانون الثاني 1533، يتعهد فيهما السلطان سليمان بحفظ ذمتهم، مشيرًا إلى مرسوم سابق أصدره والده السلطان سليم بحقهم، متعهدًا بإمضاء ما أصدره الوالد من رعايتهم.
كما يستدل الدكتور موسى على تسامح الدولة العثمانية مع أصحاب الملل، بوثائق دير سانت كاترين في مصر التي تتضمن التماسات تقدم بها رهبان طور سيناء، إلى السلطات الحاكمة في العهد العثماني لحمايتهم من العربان المجاورين، فكانت الفرمانات تخرج من إسطنبول أو من الديوان المصري بمنع العربان من مضايقتهم وأن ينال النصارى نصيبهم كافيًا من العناية والرعاية والتأمين.
في رسالة إلى فرانسوا الأول ملك فرنسا 1529، قال السلطان سليمان القانوني: "كل مكان في أيدي النصارى يبقى لهم، ولا أسمح لأحد في مدة حكمي العادل أن يشوش راحتهم، وما داموا تحت حمايتي فأرخص لهم أن يمارسوا أمور دينهم وطقوسهم في معابدهم بلا معارضة".
وجه السلطان بايزيد أمراء الدولة برعاية غير المسلمين الفارين من بطش محاكم التفتيش في إسبانيا، وكان البحارة العثمانيون ينقذون المسلمين في الأندلس بعد سقوطها، ومعهم أصحاب الملل المضطهدين فيها.
ففي عام 1572، ارتكبت مذبحة سانت بارتيليمي في فرنسا، وقتل عشرات آلاف البروتستانت على يد الكاثوليك بمباركة البابا غريغوريوس الثالث عشر، وامتلأ نهر السين بالدماء وأشلاء الجثث، ومع أن فرنسا كانت حليفا مهمًا للدولة العثمانية، فإن ذلك لم يمنع السلطان سليم الثاني من إرسال رسالة احتجاج شديدة اللهجة إلى الملك شارل التاسع يوبخه فيها على تعامله مع الطائفة البروتستانتية، وقدم له نموذج الدولة العثمانية في التعامل مع أهل الملل كملجأ للجماعات الدينية المضطهدة، بحسب المؤرخ الهندي سانجاي سوبرهمانيام في كتابه "الإمبراطوريات بين الإسلام والمسيحية".
من أبرز مظاهر التسامح الديني التي أبداها العثمانيون لأهل الملل، وثائق الأحوال الشخصية الخاصة بهم في المحاكم العثمانية، التي أسهبت في تناولها الكتورة سلوى علي ميلاد، في كتابها "وثائق أهل الذمة في العصر العثماني وأهميتها التاريخية"، حيث أظهرت كثرة وثائق أهل الذمة المقيدة بسجلات المحاكم في العصر العثماني، رغبتهم الأكيدة وحرصهم على التقاضي وتوثيق عقودهم لدى القضاة المسلمين، وتفيد أيضًا موافقتهم على تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية عليهم والمساواة في التقاضي بينهم وبين المسلمين من جميع الوجوه.
وختامًا فإن التسامح الديني في عصر الدولة العثمانية، كان حقيقة لا مراء فيها، وهذا التسامح يمثل إحدى الصور والصفحات المشرقة في تاريخ أمتنا العريق، وبطبيعة الحال لم تكن الدولة العثمانية نموذجًا مثاليًا، لكنها لم تكن أبدًا كما يرميها بعض أعدائها وكارهييها، إمبراطوراية تتسم بالتزمت والتعصب الديني، فقد كانت أبعد ما تكون عن ذلك، وسائر الأديان والممل والمذاهب الكثيرة والمتنوعة التي عاشت وتعايشت خلال ما يربو عن الخمس قرون عبر حدودها المترامية تشهد على ذلك.