أبو بكر الكرجي.. مؤسِّس المدرسة الجبرية ومهندس المياه الجوفية
هو أحد أعلام الرياضة والهندسة في التاريخ الإنساني، ورغم الاختلاف على مسقط رأسه، وتاريخ مولده، وتبايُن الآراء بشأن اسمه الحقيقي، إلا أنه منارة مضيئة فوق بحر العلم وقبلة لا يخطئها دارسو وباحثو العلوم في العصر الحديث، لما أثرى به مكتبة الحضارة الإنسانية بأمّهات الكتب التي لا تزال مرجعًا أساسيًّا للكثير من طالبي العلم في الوقت الحالي.
فخر الدين، أبو بكر محمد بن الحسن الكرجي (وأحيانًا يطلق عليه الكرخي)، المولود في مدينة الكرج (تقع بين همذان وأصبهان في إيران)، والتي سُمّي باسمها، لا يعرف تحديدًا متى وُلد، لكن الراجح من أقوال المؤرخين أنه عاش خلال فترة سيطرة البويهيين على إيران والعراق بين عامَي 945 و1055.
له إسهامات خالدة في مجال الهندسة والرياضيات، فهو أول من وضع اللبنة الأولى لبناء مدرسة "حسبنة الجبر"، وهي إحدى المدارس الجبرية التي تُخضع الجبرَ للمسائل الحسابية العددية، ما أدّى في النهاية إلى تسهيل دراسة الجبر وبلورة المسائل المعقدة كثيرة الحدود، كما أن له إضافات لا يمكن تجاهلها في مجال المياه الجوفية وكيفية الاستفادة منها واستخراجها.. فمن هو هذا العالِم متعدد المواهب؟
في كنف الدولة البويهية
عاش الكرجي في تلك الفترة التي هيمنت فيها الدولة البويهية (934-949) على إيران، وكان عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه الديلمي البويهي، وهو مؤسِّس تلك الدولة يتمتّع بشعبية كبيرة، إذ ذاع صيته في الدول المجاورة ومنها العراق، التي راودته نفسه في السيطرة عليها بينما كانت في قبضة العباسيين وتحت سيطرة الخليفة المستكفي بالله، الذي شهدت بغداد خلال فترة حكمه عددًا من الانتكاسات على مستوى الحكم وإدارته، ما تسبّب في إضعافها وجعلها مطمعًا للكثير من القوى.
الروايات التاريخية تجاهلت أو أغفلت المعلومات التوثيقية عن نشأة فخر الدين، إلا أنه وبمنطق القياس الزمني، استنادًا إلى الوثائق التي تطرّقت لنخبة الحكم في تلك الفترة وارتباطها بالمؤلفات العلمية آنذاك، فإن الكرجي عاش في الفترة التي كان فيها الوزير فخر الملك، وزير بهاء الدولة البويهي، والوزير أبو غانم معروف بن محمد معروف، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بشأن فترة حياة العالم المسلم.
لكن ما يميز هذا العصر أنه أولى اهتمامًا كبيرًا بالعلم والعلماء، إذ كان يجزلهم العطاء ويقرّبهم من الحكّام وينزلهم في منازلهم التي يستحقونها، وكان ذلك مرجعه إلى إيمانهم بدور وقيمة العلم في مواجهة الإمارات الأخرى، حيث زخرت تلك الفترة بحروب الحكم ونزاعات الملك بين أمراء الدول والأقاليم.
واستغلَّ أبو بكر الكرجي هذه الأجواء المفعمة بحب العلم، بصرف النظر عن دوافع هذا الحب، لتنمية قدراته والنهل من آبار فطاحل وأقطاب الرياضيات والهندسة في بغداد التي كانت قبلة لعلماء العالم وقتها، حتى بات أحد أعلامها فيما بعد، وما يميزه أنه حاول الربط بين العلم الذي يتعلمه وما تحتاجه بلاده، ما وضعه في مرتبة مرموقة لدى العراقيين والعرب والمسلمين من جانب والغرب من جانب آخر.
إسهاماته في الجبر والحساب
أثرى الكرجي المكتبة العلمية بأكثر من 15 مؤلَّفًا في مجال الجبر وعلوم الحساب، بعضها عُثر على نسخة وحيدة منه والآخر فُقد رغم توثيقه من قبل بعض المصادر التاريخية الأخرى، إلا أن هناك 3 كتب تحديدًا هي الأكثر شهرة لما تضمّنت من إسهامات وإضافات كانت مثار إعجاب وتقدير لدى الجميع، ولا تزال الأرضية التي استندت إليها تلك العلوم في تطوير مساراتها خلال القرون الماضية.
"الفخري في الجبر والمقابلة".. الضلع الأول في مثلث الإبداع الحسابي، ففي هذا الكتاب تطرّق الكرجي إلى العديد من المسائل التي كانت تشغل الجميع في ذلك الوقت، وعلى رأسها المجهولات الحسابية، فوضع لها تعريفًا لها ولكافة أجناسها ومراتبها، ثم تطرّق إلى مفهوم القوة الجبرية الذي عمّمه بشكل كبير، وشرح عمليات القسمة والضرب والنسبة.
ثم أبدع في طرق حساب الجذر التربيعي والجمع والطرح على المقادير الجبرية، وفيه كذلك وضع الأُسُس والركائز الخاصة بنظريات الحساب الجبري، ما دفع مؤرِّخ الرياضيات المعروف، سميث، إلى اعتبار أن هذا الكتاب من أهم الكتب الجبرية في تاريخ العرب، ونتيجة لمكانته وقيمته قام بنشره المستشرق الألماني فرانتس فويكه في باريس عام 1853، ثم حققه بعد ذلك أحمد سعيدان في الأردن عام 1983.
"الكافي في الحساب".. نُشر هذا الكتاب في ألمانيا بين عامَي 1878 و1880 على يد عالم الرياضيات الألماني هوخهايم، الذي ترجمه إلى الألمانية، ثم نشره سعيدان في الأردن ضمن كتاب "تاريخ علم الحساب العربي" عام 1971، وفيه استعرض الكرجي كل ما يتعلق بالجبر والحساب، الضرب والقسمة والنسبة والكسور، واستخراج الجذور، ومساحات السطوح ومسائل المعاملات، كما تطرّق إلى وزن الأراضي وقياسات ميولها، وهو من الكتب التي تعدّ مرجعًا هامًّا لدى المبتدئين في دراسة علم الحساب.
"البديع في الحساب".. لم يَقِلَّ هذا الكتاب قيمة ومكانة عن سابقَيه، حيث تضمّن ولأول مرة نظريات استخراج الجذر التربيعي لكثير الحدود الجبرية بمجهول واحد، كما تناول بعض الموضوعات الحسابية الأخرى المتعلقة بتحديدات الأعداد والنسبة والتناسب، وغيرها من المسائل الحسابية الشهيرة.
وبجانب تلك المؤلفات هناك أخرى على الأهمية ذاتها، منها "في حساب الهند"، "في الاستقراء بالتخت"، "نوادر الأشكال"، "الدور والوصايا"، "علل حساب الجبر"، "المدخل إلى علوم النجوم"، "المحيط في الحساب"، "الأجذار ونصف الأجذار"، "حول تصنيف الجذور"، وكتاب "عقود الأبنية" الذي يعتبره البعض علامة فارقة في هندسة المياه الجوفية
أما كتابه الممتع "إنباط المياه الخفية"، فيُعتبر من أمّهات الكتب في مجال استخراج المياه الجوفية، وهو المؤلَّف الذي يؤكد مكانة الكرجي كعالم ببواطن الأمور، يمتلك القدرة والمؤهّلات الكافية لأن يستحق وعن جدارة لقب "العالم المهندس"، فالكتاب الذي نُشر لأول مرة في حيدر أباد عام 1940، ثم تُرجم بعد ذلك إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية، تطرّق بشكل تفصيلي إلى عملية استخراج المياه الجوفية وجميع الموضوعات المرتبطة بها.
ويرى الباحثون أن الكرجي وثّق في هذا المؤلف خبرة هندسية اختزنتها وطوّرتها الذاكرة العلمية والعملية للحضارة العربية والإسلامية في مجال الاستفادة من المياه الجوفية، فوصف وحلّل ظواهر هيدرولوجية وجيولوجية تتعلق بهذا المورد المائي وطرق تعرُّف مواضعه، ثم عملية مسح الأرض وتسويتها كمرحلة أولية قبل تنفيذ القناة، مع دراسة الأخطار المحتمَلة وطرق التعامل معها.
واستهلَّ العالم المسلم كتابه بقوله: "لما دخلت العراق، ورأيت أهلها من الصغار والكبار يحبّون العلم ويعظّمون قدره ويكرّمون أهله، صنفت في كل مدة تصنيفًا في الحساب والهندسة، إلى أن رجعت إلى أرض الجبل"، وهي الاستهلالة التي استشهد بها البعض للتأكيد على أن مؤلفات الكرجي في مجال الجبر والحساب كانت الأولى، أعقبها بمؤلفه عن المياه الجوفية، وهي المسألة الجدلية بين الباحثين بشأن أيهما أسبق، حسبما توصّلت باحثة التراث وتاريخ العلوم العراقية بغداد عبد المنعم، في ورقتها البحثية المنشورة في مجلة "التراث العربي" عام 1997.
ومن المتناقضات الغريبة أن الكرجي الذي يتمتّع بشهرة كبيرة لدى علماء أوروبا ممّن يجلّون قيمته ويقدّرون إسهاماته، التي يرونها أحد المآثر الحميدة للحضارة الإسلامية على النهضة الأوروبية الحديثة، يعاني من تجهيل وتسطيح لمكانته لدى أبناء جلدته من المسلمين، ولولا تسليط الغرب الضوء عليه لكان في غياهب النسيان العربي والإسلامي، كغيره الكثير من العلماء.