دولة الغساسنة.. آخر ممالك العرب قبل الفتح الإسلامي
عرفت الممالك العربية مبدأ التحالفات السياسية مع البلدان الأخرى منذ قرون بعيدة، ومن أبرز الحضارات التي وثّقت لهذا المبدأ السياسي دولة الغساسنة في بلاد الشام، والتي حكمت أكثر من 4 قرون كاملة فترة 220-638م، وهي حلقة الوصل بين المسيحية والإسلام كونها آخر ممالك العرب قبل ظهور البعثة النبوية، والتي انصهرت في بوتقة الدولة الإسلامية بعد فتحها عبر موقعة اليرموك الشهيرة عام 636م.
والغساسنة إحدى قبائل العرب ذات التمدد العددي الكبير، يعود أصلها إلى الأزد، وعُرفوا بهذا الاسم لأنهم استقرّوا قرب عين ماء اسمها "غسان" بمنطقة "تهامة" جنوب السعودية حاليًّا، فأُطلق عليهم هذا الاسم قبل تأسيس دولتهم في الشام، وهم معروفون عند العرب بعدة أسماء، منها "آل غسان" و"آل جفنة" بجانب "الغساسنة".
وامتدت سلطة هذه المملكة حتى وصلت إلى جنوب سوريا وفلسطين والأردن، ما بين الجولان واليرموك، وهو ما وثّقه المؤرخ أبو الحسن المسعودي حين قال عن دولتهم: "كانت ديار ملوك غسان في اليرموك والجولان وغيرهما بين غوطة دمشق وأعمالها، ومنهم من نزل الأردن"، ومن ثم يُقال إن ملوك الغساسنة حكموا حوران والبلقاء والغوطة، وقد اتّخذوا من الجابية في الجولان قاعدة سلطتهم ومعسكرهم الرئيسي، ومن جلق بالقرب من دمشق مركزًا استراتيجيًّا لهم.
نشأة الغساسنة
يذهب المؤرخون إلى أن الإرهاصات الأولى لنشأة دولة الغساسنة كانت في أواخر القرن الثاني الميلاد، حين هاجر أبناء قبيلة أزد (أصل الغساسنة) من اليمن إثر فيضان "سيل العرم"، حيث خرجوا تحت قيادة شيخهم وزعيمهم عمرو مزيقياء، قاصدين بلاد الشام المستقرة نسبيًّا، وفي طريقهم أتوا بلاد "عك" إحدى بلدان اليمن، فطلبوا من ملكها، سملقة بن حباب، أن يستقروا بها بعض الوقت للراحة، فأذن لهم.
وبعد فترة توفى زعيم الغساسنة واستخلفه ولده ثعلبة بن عمرو، غير أن حربًا نشبت بينهم بسبب مقتل ملك عك، وهنا تفرّق الأزد، وأُطلق عليهم حينها "بني مزيقيا" كناية عن تمزقهم في البلاد، كما قال محمد الكلبي: "سمي مزيقيا، حين مزقهم الله عز وجل، وهو قوله تعالى: "ومزقناهم كل ممزق"".
ثم توجهوا فيما بعد إلى غور السراة بجنوب السعودية وشمال اليمن (بيشة ونجران في الوقت الحالي)، ونزلت طائفة منهم بالقرب من معين ماء يعرَف بـ"غسّان" فنُسبوا إليه، ومن أبرز القبائل التي نزلت بالقرب من هذا المعين خزاعة، والأوس والخزرج، وآل جفنة وآل عمرو بن مازن بن الأزد، ومن ذلك الوقت أُطلق عليهم "الغساسنة".
أقام الغساسنة حول البئر فترة ليست بالطويلة، ثم تقدّموا نحو مكة شمالًا، وهناك افترقوا إلى قسمَين: خزاعة التي اختارت أن تقيم في مكة، فيما أكمل آل جفنة وبطون من مازن بن الأزد ناحية بلاد الشام الجنوبية، وهناك نزلوا بأرض كانت مملكة لعرب اسمهم "الضجاعمة"، فدخلوا في قتال معهم حتى أزاحوهم وأقاموا مكانهم.
واختلف المؤرّخون حول هوية زعيم الغساسنة الذي أطاح بالضجاعمة، فبحسب ابن الكلبي فإنه ثعلبة بن عمرو بن مُجالد بن معاوية بن عمرو بن عديّ بن عمرو بن مازن بن الأزد، وعند حمزة الأصفهاني فهو جفنة بن عمرو، لتبدأ دولة الغساسنة في ترسيخ أركان حكمها في هذا المكان.
المؤرخ العراقي جواد علي في موسوعته "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، يرى أنه من الصعب التحقق من رواية هجرة الغساسنة بسبب سيل العرم وهدم سد مأرب، لافتًا أنه لم يحدد أهل الأخبار زمان حدوث هذا السيل، كما أنه ليس سيلًا واحدًا، ليتمَّ اعتباره مبدأ لتأريخ هجرة الأزد من اليمن إلى الشمال، ومن ثم إن تحديد وقت وصول الغساسنة إلى بلاد الشام يفتقد للدقة إلى حد ما.
وعن سبب تسمية الغساسنة بآل جفنة، يقول المؤرخ العراقي: "فلانتسابهم إلى جد أعلى يدعونه "جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر" أو إلى "جفنة" قبيلة من غسان من اليمن، ويذكر "ابن دريد" أن "جفنة" إما من "الجفنة" المعروفة، أو من "الجفن"، وهو "الكرم"، وجفن السيف وجفن الإنسان، ويذكر أن المثل المشهور بين الناس: "وعند جهينة الخبر اليقين"، هو خطأ تقوله العامة، وأن صوابه: "وعند جفينة الخبر اليقين"".
ويشير المؤرخ محمد بيومي مهران في كتابه "دراسات في تاريخ العرب" إلى قلة المصادر التاريخية التي توثّق تاريخ دولة الغساسنة، وفقدان كثير منها الموضوعية التاريخية التي يمكن الاعتماد عليها، مرجعًا ذلك لعدة أسباب، منها أولًا اختلاط أخبار الغساسنة بالقبائل العربية التي سبقتهم إلى سوريا، وكانت خاضعة لحكم الرومان؛ ثانيًا التزام المؤرخين الذين تناولوا أخبار الغساسنة بالناحية الأدبية وإهمال تاريخهم السياسي؛ ثالثًا التشابه في الأسماء بين حارث ومنذر ونعمان، والاختلاف حول عدد ملوك الدولة، وهو ما يدل على ما يحيط بأسرة آل جفنة من غموض، على حد قوله.
التحالف البيزنطي
تعدّ دولة الغساسنة من أوائل الممالك التي شكّلت تحالفات سياسية مع البلدان الأخرى، وهو ما تمثّل في تحالفها مع الدولة البيزنطية (الرومان)، والتي كانت أحد قطبَي العالم في ذلك الوقت مع دولة الفرس، وقد تمَّ هذا التحالف وفق أرضية براغماتية بحتة، حيث المصالح المشتركة التي يسعى كل طرف للحصول عليها من خلال تلك الشراكة.
المؤرخ عبد اللطيف الطيباوي في كتابه "محاضرات في تاريخ العرب والإسلام" يستعرض بداية العلاقة بين الدولتَين، الغساسنة والروم، فيقول إن منطقة شبه الجزيرة العربية عمومًا تحوّلت إلى مسرح كبير للأحداث السياسية والاقتصادية منذ انهيار سد مأرب، ثم حدوث سيل العرب، فبعد أفول نجم تدمر واضمحلال دولة حمير اضطرت القبائل للهجرة بحثًا عن أرض جديدة، وهنا نشبت النزاعات والصراعات بين القبائل العربية المتنازعة في البحث عن مواطئ أقدام لها.
وفي تلك الأجواء نشطت الجريمة والغزوات، ما هدد دولتَي الفرس والروم على حد سواء، فحاولا تدشين حصون لهما على أطراف الصحراء لتحميهما من غارات قبائل البدو والأعراب، إلا أن تلك الحصون وحدها لم تكن كافية، وكان لا بدَّ من البحث عن قبيلة قوية أو دولة فتية للتحالف معها، بحيث تكون داعمة في مواجهة تلك الغزوات.
وهنا لجأ الروم إلى قبائل من الغساسنة للتحالف معها لتكون حصنًا لهم، فيما اتجه الفرس إلى المناذرة للهدف ذاته، وقد أسفرت تلك السياسة التي انتهجتها الإمبراطوريتان القديمتان، بيزنطة وفارس، دوام الحرب بين دولتَي المناذرة والغساسنة رغم أنهما أبناء عمومة.
رغم علم الغساسنة أن التحالف مع الروم سيكلفهم الكثير من الصراعات والحروب مع جيرانهم وأبناء عمومتهم من المناذرة، فضلًا عن استهدافهم من الأعراب والبدو، إلا أنهم سعوا لتوسيع دائرة نفوذهم من خلال الدعم المقدَّم لهم من الدولة البيزنطية التي قدمت كل ما يمكن تقديمه للغساسنة، لتقويتهم من أجل دعمها في صراعها ضد الفرس الساسانيين الذين دأبوا على تهديد الولايات الرومانية الشرقية.
كانت دولة الغساسنة بمثابة الحارس الرئيسي لطرق التجارة بين الشرق والغرب، والمؤمن على مصالح البيزنطيين التجارية، كما ساعد الغساسنة البيزنطيين عسكريًّا بجيش قوامه أكثر من 30 ألف مقاتل، وهو ما دفع الأمير البيزنطي جستينان إلى منح الملك الغسّاني، الحارث بن جبلة الذي حكم فترة 529-569م، لقب بتريسيوس مكافأة له على هذا الدعم.
واستفاد الغساسنة من هذا التحالف السياسي والعسكري مع البيزنطيين في توسيع سلطتهم التي امتدت على القبائل العربية جنوب سوريا وفلسطين والأردن، وكانت ديارهم تمتدّ ما بين الجولان واليرموك، فيما اتسع نفوذهم التجاري والاقتصادي بصورة أهّلتهم لأن يحكموا هيمنتهم على معظم بلاد الشام في هذا الوقت.
الملوك والحكّام.. جدلية الأرقام
يختلف الباحثون في تحديد عدد الملوك الذين حكموا دولة الغساسنة وفترات حكمهم، فهم عند حمزة الأصفهاني 32 ملكًا، وعند أبي الفداء 31 ملكًا، وعند المسعودي 11 ملكًا، وعند نولدكة 10 ملوك، ولدى هرشفلد 7 فقط، وهو العدد نفسه الذي يميل إليه المؤرخ اللبناني جورج زيدان، كما أورد في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام".
ومن أشهر ملوك الغساسنة وفق الروايات التاريخية الحارث بن جبلة، الملقّب بـ"الأعرج"، ويعدّ أول شخصية متفق عليها في تاريخ الجفنيين، وعاصر الإمبراطور جستنيان وكسرى أنوشيروان والمنذر الثالث ملك الحيرة، وكانت تربطه علاقات قوية معهم، وكان رجلهم الأول في مواجهة ملك الحيرة.
وهناك كذلك المنذر بن الحارث (327-330م)، ويُعرف في المراجع البيزنطية باسم "المنداروس"، وكان أحد أبرز الملوك الذين خاضوا معارك ضارية خلال فترة حكمه القصيرة، ثم جبلة بن الأيهم (623-638م) وكان آخر ملوك الغساسنة.
ومن الملوك التي تم ذكرهم دون تفاصيل كافية: جفنة بن عمرو (220-265م)، عمرو بن جفنة (265-270م)، ثعلبة بن عمرو (270-287م)، الحارث بن ثعلبة (287-307م)، جبلة بن الحارث (307-317م)، الحارث بن جبلة (317-327م)، الأيهم بن الحارث (327-330م)، المنذر الأصغر (327-340م)، النعمان بن الحارث (434-453م)، المنذر بن النعمان (453-472م)، جبلة بن الحارث (512-529م)، الحارث بن جبلة (529-569م)، جبلة بن الحارث (628-632م).
حضارة شاملة
يقول الباحث محمد مبروك نافع في كتابه "عصر ما قبل الإسلام"، إن مستوى الثقافة الذي وصل إليه الغساسنة لم يصل إليه أحد من الممالك العربية في ذلك الوقت، وساعدهم على ذلك مجاورتهم للحضارات الأخرى وعلى رأسها البيزنطية، إذ كانت دولتهم تمتد من الطرف الشمالي الغربي من بلاد العرب إلى الشرق حيث نهر الأردن، بداية من المنطقة الواقعة على مقربة من بطرة في الجنوب، إلى ما يجاور الرصافة في الشمال الشرقي، وهو ما ساعدهم في تنويع منظومتهم الثقافية وثرائها.
ويؤكد نافع أن الحضارة الغساسنية مزيج من العناصر العربية والشامية واليونانية، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من الهندسة المعمارية للدولة، حيث تشييد المدن والقرى والقلاع والقصور، ومن أشهر القصور التي بنوها القصر الأبيض والقلعة الزرقاء وقصر المشتى، بجانب عدة أقواس وحمّامات وقناطر ومسارح وكنائس، كاشفًا أن السفوح الشرقية والجنوبية لحوران الغسّانية كانت عامرة بما يقرب من 300 مدينة وقرية.
ومن مظاهر الحضارة في بلاد الغساسنة الاهتمام بالغناء والموسيقى والشعر، كما كانوا يقتنون الجواري الروميات ولديهم مغنّين من بابل واليونان، وكانوا يضربون العود والقوافي، فيما قرّب ملوكهم الشعراء وأولوهم الرعاية والاهتمام، وقد مدحهم الشاعر حسان بن ثابت قبل أن يصبح شاعر النبي عليه السلام فيما بعد.
كان الغساسنة يدينون بالنصرانية، لكنها كانت على المذهب المنوفستي الذي كان شائعًا في بلاد الشام في ذلك الوقت، والذي عُرف فيما بعد باسم المذهب اليعقوبي نسبة إلى يعقوب البرادعي الرهوي، أما لغتهم الرسمية فكانت العربية، بجوار بعض اللغات الأخرى كالآرامية.
كانت تتمتّع دولة الغساسنة بثقل اقتصادي كبير، نظرًا إلى موقعها الاستراتيجي على خط التجارة الرئيسي بين الشرق والغرب، وكان أهلها يعملون بتجارة البخور والتمور والحبوب، وكانوا يشرفون على قوافل التجارة القادمة من اليمن إلى الشام والعكس، وقد ساعد تحالفهم مع الدولة البيزنطية في دعم قدراتهم الاقتصادية واتساع نفوذهم لمئات السنين.
آخر ممالك العرب قبل الإسلام
مع بداية الفتح الإسلامي لبلاد العرب، حارب الغساسنة إلى جانب الدولة البيزنطية في مواجهة الجيوش الإسلامية الفاتحة لبلاد الشام، إلا أن المسلمين بقيادة خالد بن الوليد قد هزموهم في أكثر من معركة آخرها معركة اليرموك عام 636م، والتي بها سقط الغساسنة في قبضة المسلمين.
دخل كثير من الغساسنة في الإسلام، فيما ظلَّ عدد منهم على دينه وانضموا إلى المجتمعات الملكانية والسريانية (الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان حاليًّا)، ومن دخل منهم شارك إلى جانب جيوش المسلمين في فتح شمال أفريقيا والأندلس، كما اعتمد عليهم خلفاء الدولة الأموية فيما بعد في إدارة الدولة لخبرتهم في إدارة الدواوين ودور المال.
كما أبلوا بلاء حسنًا مع البيزنطيين قبل الإسلام لسنوات عديدة، وساهموا في توسيع دولة الروم، استطاعوا كذلك أن يكونوا إحدى العلامات الفارقة في الفتوحات الإسلامية التي غطّت جزءًا كبيرًا من الكرة الأرضية، لتنتهي بذلك دولة الغساسنة، آخر ممالك العرب قبل الإسلام وأول دولة تتحالف مع جيش الفتح وتساعد في بناء الدولة الإسلامية الحديثة.