دار الفكر
لصوص الكلمات في ميزان العدالة

شغلت قضية السرقات الأدبية الرأي العام منذ أيام الجاهلية والإسلام، ولا تزال رقعتها الزمنية ممتدة حتى اليوم، وقد اكتسبت القضية بعداً جديداً مع تطور تقنيات الاتصال والتواصل ولاسيما محركات البحث الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعية. فماذا عن السرقات الأدبية في عصرنا الراهن؟ هل هي محصورة على صغار الكتاب أم أصبحت ظاهرة لدى الكاتب المتمكن من أدواته أيضاً؟ وما السبب الذي يدفع كاتباً كبيراً للسرقة من سواه؟ كيف أثرت محركات البحث الإلكترونية على قضايا السرقة والكشف عنها؟ وماذا عن حقوق الملكية الفكرية ضد لصوص الكلمة. هواجس تشغل الفكر تجيبنا عنها الصفحات التالية.
يقول د.صالح زياد أستاذ الأدب والنقد الحديث بجامعة الملك سعود عن السرقات الأدبية والفكرية: «ليست السرقات محصورة على صغار الكتاب والأدباء والمفكرين دون كبارهم، فالكبار يسرقون كما الصغار. والمقصود بالكبار هنا، أولئك الذين عرفهم الناس بامتلاك زمام القول واشتهروا بمقولات وطروحات ومؤلفات عديدة في مجالات الكتابات المختلفة. وقد تأخذ صفة الكبار معناها من السياق الاجتماعي وليس من سياق الكتابة، فالكبير هنا كبير لأنه في مقام اجتماعي عال لسبب أو لآخر. ودعني أقول إن السرقة المقصودة هنا هي السرقة الفكرية أو الأدبية أو العلمية، وهي الاستيلاء على ممتلكات الآخر المسجلة باسمه في هذه المجالات. وهنا تبرز أهمية هذا النوع من السرقة وخصوصيته قانونياً، فسرقة أشياء الناس المادية جريمة جنائية لها صفة عموم، أعني أنه لا يختص بها فئة من الناس دون غيرهم، أما النوع المقصود بالسرقة هنا فله صفة خصوص قائمة في موضوعه وفي سارقه إذ المجال هنا مجال إنتاج بالعقل ومجال علم وفكر وأدب. وهذا يعني أننا بصدد نوع من السرقة فيه ما هو خفي وغامض وما هو فاضح، ومن الصعوبة بمكان أن يدعي أحد على سبيل القطع أنه لم يسبق إلى هذا القول أو هذه الفكرة أمام بحر لا حدود له من الإنتاج الفكري والأدبي منذ القدم، وهنا تأتي ألوان من السرقة غير الجنائية، وأعني بها ترافد الأفكار والنصوص وتلاقحها وتناصها بحيث نغدو أمام شبكة تترصد الجميع ولن يفلت منها أحد. أما السرقة الفاضحة فهي تعمد سرقة نتاج الغير وإدعائه أو انتحاله على سبيل الإخفاء. فهناك نوع من هذا السرق العامد يكون علناً، وفي تاريخنا الأدبي أمثلة لهذا النوع الأخير ترويها كتب التراث -كما في العمدة لابن رشيق- ومنها ما فعله الفرزدق بجميل بثينة حين سمعه ينشد بيته:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
فقال: متى كان الملك في بني عذرة؟ إنما هو في مضر وأنا شاعرها، فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل ولا أسقطه من شعره.
فإذا كان الصغار يسرقون من كتابة غيرهم ومن الكبار تحديداً من باب الادعاء والرغبة في الظهور بمظهر يجاوز قدراتهم، فإن الكبار يسرقون على نحو عامد للسبب نفسه أي للادعاء والرغبة في الازدياد من الترويج لذواتهم وتأكيد أن قدراتهم لا تعجز وقرائحهم لا تنضب. وقد تبدو سرقة الكبار مسببة عن وهم لديهم يحيل على تعويلهم على ثقة جمهورهم بهم وعدم التفتيش والبحث عن مصدر لما يكتبون، أو لعدم وجود قوانين تحارب السرقة وتعاقب السارقين.
أما محركات البحث على الشبكة العنكبوتية في أيامنا هذه فهي تحمل الجانبين معاً جانب الزيادة في حجم السرقات نتيجة لما تتيحه من مدونة ضخمة يمكن البحث فيها والانتقاء منها. وجانب المساعدة على تعقب مصادر النصوص والكشف عن جرائم السرقة».
ويتفق أحمد اللهيب مع د.صالح زياد حيث يعلق بقوله: «تبدو كلمة (السرقة) ذات بعد أخلاقي، يستحضر في الذهن (الحد) الذي يكون جزاء في سرقة الأمور المادية، لكن عندما نتعامل مع هذه الكلمة أو ننقلها إلى معنى آخر (معنوي) وهو (الأفكار) التي تتشكل بصورة مادية (الكتابة) فإننا نقف أمام أمرين مهمين:
الأول: يتمثل في سرقة المعنى دون اللفظ، وهنا يحضرني قول الشاعر:
ما أرانا نقول إلا معادا
أو معارا من قولنا مكرورا
دليل عن أن الأفكار مطروحة في الطريق، يعرفها من يعرفها ويجهلها أو يتغاضى عن معرفتها من شاء ذلك. وفي تراثنا العربي القديم، وبخاصة في مجال الأدب والثقافة، أو قل في مجال العلوم الإنسانية كاملة يمكن لنا أن نجد عذراً في بعض الأفكار عندما تكون من باب (وقع الحافر على الحافر)، لأنها أفكار عامة ترد لكل ذي عقل واع، وتولد مع الإنسان من خلال تجربته وممارسته، ويخرج من هذه القاعدة تلك المعاني التي تحاماها الشعراء والكتاب من قبل ومن بعد كما هو معروف في وصف الذبابة لعنترة، ولعل تراثنا حافل بمجموعة من الكتب التي تحدثت عن السرقات بجميع تفاصيلها، وامتدت حتى تشكلت نظرية أدبية في ذلك تقاطعت فيما بعد مع نظريات حديثة تمثلت في (التناص).
أما الأمر الثاني فهو (النقل العمد) أو (السرقة العمد) من نص لكاتب وهي (السرقة) معنى وشكلاً، فكرة ومادة، وهذا يستلزم (حداً) ليكون جزاء وردعاً!. وعلى هذا لا يمكن حصر مفهوم (السرقة الفكرية أو الأدبية) على كاتب صغير أو كبير، بل هما بذلك متساويان، بيد أن من علا شأنه وارتفع صوت قلمه، وأصبح له مريدون يجب عليه أن يكون أكثر التزاماً وصدقاً مع القارئ فيما يكتب وفيما ينقل!. ويكون بعيداً عن تهمة السرقة، والأمر يكون أكثر تعقيداً وألماً حين تصدر هذه السرقة ممن يكون سبيله الدعوة أو الالتزام الديني. على أن الأمر في جميع حالاته يجب أن يكون جرماً يستلزم عقاباً. ولا فرق إن حدث ذلك من كاتب كبير أو صغير، فالعمر الثقافي ليس مقياساً في هذه القضية. ولكن العتب واللوم يزداد لمن يدعي في العلم سبقاً!. ولست أجد عذراً لأي شكل من أشكال (السرقة الفكرية) سواء سهلت محركات البحث وأدوات التقنية الحديثة ذلك أم لم تسهل!، وسواء ساعدت في الكشف عن السرقات أم لم تساعد!. ولعل مصدر السرقة عجز وكسل، واعتماد على الآخرين في تسطير الكتب أو تشكيل فرق عمل يبحثون له ويقيمون له ولائم العلم فيأتي إليها وهي ماثلة أمامه دون أدنى جهد ويبسمل عليها باسمه دون جهد أو قراءة أو تمحيص، فيقع في المحظور ويصدق عليه المثل (يداك أوكتا وفوك نفخ) وهذا إنما يكون من باب تكثير (النسل الكتابي)، ففي كل عام يولد له كتاب جديد أو كتابان، بغية الشهرة والمال، وهو لا يدرك ما فيها ولا من أين أتت؟!».
ويرى الإعلامي والأديب عبدالحفيظ الشمري أن منشأ السرقات الأدبية يأتي من تسلط الشعراء حيث يقول: «المستقصي لحقيقة السرقات الأدبية والفكرية والإبداعية وتاريخها يدرك أنها حالة ترافقت مع بزوغ فن الشعر منذ أمد بعيد، حيث عرفت أكبر السرقات وأقواها لدى الكثير من الشعراء الفحول الذين يسطرون وبقوة القاعدة الجماهيرية لهم على كل فكرة أو مذهب فني متجدد بل ويسرقون ويلبسون في نقل أي معلومة أو صورة معبرة وكأنها من بنات أفكارهم، بل ويقترفون أي خطيئة لنقل الفكرة أو محاكاتها دون أي اعتبار لمن سبقه فيها. ونذهب أكثر من ذلك حينما يقول شاعر عربي فحل كعنترة بن شداد في وصفه الاستحواذي على المعاني:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
أي أننا في مخاض التجارب التي تكشف تدوير الفكرة من واحد إلى آخر في زمن كانت فيه منابع الشعر صافية ومتدفقة، فما بالك اليوم إذاً حينما تغشى الشعر والإبداع عموماً غاشية النهب والترادف ووضع الأثر على الحافر -كما تقول العرب- في الكثير من الصور الشعرية والأفكار الجديدة.
ففي هذا الزمن الحديث اتسعت رقعة التطابق والاقتفاء والنقل بأمانة أو بغيرها، فبات الناقل غير محرج إلا فيما ندر مما يستشعر أنها أفكار ملقاة على قارعة الطريق.. من وجدها فله أن يأخذها حتى اختلطت الفكرة بما سواها من هواجس وتفاعلات وتداخلات.
وما يزيد الطيب بلة -حسب رأي العرب أيضاً- أن النقاد هم من أججوا هذه الأفكار التي قد تشرعن للشاعر أو حتى الكاتب أن يتقمص دور البطل المطلق لنقل الفكرة وإبداع الصورة وهو في الأساس بعيد عنها وغير قادر على خلق فكرة أخرى جديدة مما جعل المشروع الإبداعي في حالة من الشد والجذب، حتى تسبب في تراخي مفاصل النقد الذي يمكن أن يكشف لنا الفكرة ومكنونها ويعمق الحس المبدع، والذائقة الفذة بعيداً عن تتابع الخطو دون جديد يذكر.
وفيما يتعلق بمفهوم السرقة الأدبية، يجب أن نفرق بين سرقة الفكرة أو نقلها أو تطويرها بما يتسق وطروحات الكاتب أو المبدع وبين السرقة التي تنقل الفكرة والمضمون والأسلوب بل وحتى صفحات كثيرة من كتاب سابق، فالتطابق في نقل الفكرة أو التناول قد يكون هناك ما يبرره أما النقل الحرفي أو التصوير فهذا هو الخطأ الفادح الذي يرتكبه البعض».
وتضيف الكاتبة والأكاديمية البروفيسورة ليلى بنت صالح زعزوع: «يسرق كبار الكتاب مجهودات غيرهم المؤلفة، ولعل قرار وزارة الإعلام الأخير الذي نشر في الصحف عن قضية الدكتور عائض القرني وسلوى العضيدان أنموذج، والجميل فيه أن هناك قرارات أصبحت تفعل، ونقرأ عن الحماية الفكرية وهو ما نعاني منه جميعاً في العالم العربي.
أما عن صغار الكتاب فحدث ولا حرج ولأنهم مغمورون لا ينفضحون مع الأسف إلا قليلاً. وللسرقات صور مختلفة، وكلها من اللصوصية العلمية، مثل: النقل بدون نسبة إلى الكاتب، والاقتباس الكامل للفكرة دون الإشارة إلى الكاتب وذلك بأخذ فكرة كاملة من الكاتب، والنقل الكامل بلا إضافة أو تعديل، أو تنقيح، بل أحياناً ينقل الأخطاء المطبعية أيضاً، والنقل مع إضافة أو تعديل أو تنقيح، والكتابة الكاملة وشراء ما يكتب عند أصحاب الثراء أو أصحاب النفوذ، وقد يكون مقابل ما يكتب مادياً أو معنوياً، بالترغيب أو الترهيب.
ويجد الكاتب الكبير نفسه مع الشهرة الإعلامية وبخاصة مع الفضائيات التي أصبح لها دور فاعل في ذلك محاصر ومطالب بجديد، فالهالة الإعلامية مرهقة في عصرنا مع مواقع التواصل الاجتماعي والشبكات الاجتماعية، ولعل سؤال ما الجديد لديكم يكون عبئاً ثقيلاً على الكاتب أو المؤلف.
إن سرقة مجهود الغير سهل في ظل وسائل متوفرة للكاتب، فهناك كتب منسوخة على الشبكة العنكبوتية سرقت ووضعت مجاناً، فسهل للقارئ الحصول عليها بتحميلها والنقل منها، ولذا نجد كتباً مؤلفة معتمدة على جمع ولصق من كتب وأبحاث الغير. وكذلك الآن بدأ المجال العربي في العرض على الوسائط الأخرى مثل الهواتف على سبيل المثال الآيفون، الآيباد فكل شيء أصبح بين يديك، والذي يحكمنا هو المصداقية والأمانة من المؤلف أياً كان كاتباً أو باحثاً.
لقد أسهمت محركات البحث بدرجة مخيفة في الكشف عن السرقات، ولتتأكد بنفسك يمكنك زيارة موقع (نادي لصوص الكلمة)
وهناك مواقع بلغات العالم تكشف ذلك وأخرى تبيعك ما تريد للكتابة بمقابل، ولكن اللغة العربية لا تتوفر لها مع الأسف هذه الخدمات رغم أهميتها لضعف المحتوى العربي على النت، ولأن الصرف والإنفاق على خدمات النت في العالم العربي ضعيف مقارنة بغيرنا، وهذا عيب فينا نحن العرب وتقصير في لغتنا الخالدة العربية لغة القرآن.
وفي غير الدول العربية في الدول المتقدمة هناك حماية فكرية، ولدينا الأمر يحبو نحو التطبيق، ولعل قضية القرني والعضيدان تبشر بخير فلعل وعسى أن تستمر، ولنتذكر دوماً أن هذه سرقات يحاسب عليها السارق أمام الله، فحق المؤلف عنصر أساسي في تشجيع الإبداع الإنساني».