تقدم أمير لخطبة جميع فتيات حارتنا، أول حب له كانت ابنة بائع اللبن في الحي، لا أعلم متى وأين رآها وأحبها كل هذا الحب، كتب لها الكثير من الرسائل لكنه لم يرسلها، بكى في الخفاء حبها ولم يقل لها وحزن واكتأب لدرجة اقترحنا عليه أن نتدخل نحن ونرافقه لخطبة الفتاة من أبيها، لكن العاشق رفض خشية أن نفسد له القصة.
عند الظهيرة يقف العاشق على ناصية الشارع ينتظر “ريحان” لتعود من مدرستها، يلقي بنظره عليها وحسب، يسرح شعره بالماء ويكوي ملابسه القديمة المهترئة ويقف الأنيق على باب منزله منذ الساعة الثانية عشر ظهراً يراقب مدخل الحارة، على الرغم من أن ريحان لن تنتهي من مدرستها حتى الساعة الثانية ظهراً. كنا نقول له أمير لدينا وقت كثير حتى الساعة الثانية هيا بنا إلى الحديقة ونعود ثانية فيجيبنا (لا بلكي طلعوهم من المدرسة بكير؟ ) وكنا نذهب ونعود ولازال أمير ينتظر على باب الحارة. في أيام الشتاء وتحت الثلج كان ينتظر ريحان لتأتي وتذهب. كل ما كان يقوم به امير هو أن يحملق بالفتاة دون أن ينبس ببنت شفة أو يخطو بأي حركة. كان متوهما بأن ريحان تدرك محبته وتقدره لأنه عاشق ينتظرها تحت المطر والثلج، حتى أن قدمي أمير تثلجت في إحدى المرات لأن نعل حذاءه كان مثقوبا بحجم قطعة نقدية معدنية، لكن ريحان لم تقدر ذلك وتزوجت ابن عمها السمين صاحب الدراجة النارية والسرج المتسخ. صُدِم أمير ولكنه أدرك منذ ذلك اليوم أن عليه أن يكون صياداً ماهراً ينصب الشباك للنساء ويقتنص فريسته في الوقت المناسب.
بعد زفاف ريحان اختفى أمير لعدة أيام، ولأنه كان يتيم الأم وأبوه سكير، لم يفتقده أحد سوى أخته مريم التي كانت تجوب الشوارع بحثاً عنه وتسألنا “ما شفتولنا أمير”، كنت أعرف أين يختبئ وحاولت عبثاً أن لا أخبرها لكنها أصرت وقالت لي “بغلاوة أمك ما بتعرف وينو، هذا أمانة أميّ” وغرقت بالدموع، لا أعلم لماذا تبكي النساء بهذه السرعة ودموعهم تليّن القلوب، لكن الحقيقة أنا أفشيت مكان أمير من أجله هو، فقد اختبئ في وكرنا السري فوق ورشة العم رجب ووضعه مقلق، في النهاية ذهبت مريم واخرجت أخاها من مخبئه وأخذته إلى البيت بعد أن كسر لي أنفي بلكمة قوية.
بعد ريحان، أحبَّ أمير ابنة جيرانه، وكانت عائلتها على اطلاع على أوضاع أهله، ويعرفون والده الفقير ذو السمعة السيئة، لذا كان مصيره الرفض. مجددا حزن أمير واعتكف في وكرنا فوق ورشة العم رجب عدة أيام ثم عاد مرة ثانية للحي. لكنه أصبح هادئاً هذه المرة محتاطا خجولا، كنا نلتقي حينها مع بعض الأصدقاء.
تقدم أمير لخطبة إحدى بنات الحاج هاشم وكنَّ قبيحات عملاقات وجوههن سمينة شديدة السمرة، ولكن والدهن غني، وصديقنا أمير لم يكن يعلم أنهن رفضن العديد من الخطّاب ممن تقدموا طمعاً بالحاج هاشم. لكن أمير كان معجباً حقاً بابنته الصغرى وتقدم لخطبتها، مجددا كان مصيره الرفض.
هذه المرة صُدمنا جميعا، لم نكن نعرف ماذا سيفعل الحاج هاشم ببناته الأربع القبيحات وكيف سيدبر أمرهن، لكن صدمة صديقنا كانت كبيرة جداً، واجتمعنا معاً لنخفف مصابه الجلل، لا أعلم من قال في هذه الجلسة (أمير انت واحد عَشيق، ما تهتم اذا ما زبطت هي بتزبط غيرها الله كبير والا ما توقع شي وحدة بشباكك)، ومن ذلك اليوم وأصبح اسم أمير “أمير العَشيق” لكنه لم يتقدم لخطبة أي فتاة بعدها ولم يحبّ من جديد بل اختفى من الحيّ سنوات ونسيه الجميع، حتى أنه لم يأتي لزفاف أخته، ولم يظهر بعد طلاق ريحان من ابن عمها حيث أصبحت تتعمد المرور من أمام بيته لعله يعود ولكنه لم يعد. إلى أن جاء يوم ورأيت صورة “امير العَشيق” في الجريدة وكتب عليها انه سيعدم في الساحة العامة، تجمد الدم في عروقي ولم أرغب في رؤية إعدامه لكني ذهبت لأراه هو فقط، كان نحيفاً جداً حليق الرأس لا يشبه ذلك الأمير أبداً، وعندما رفع الحبل رأيت في حذاءه ثقباً بحجم قطعة النقود المعدنية، لم يمض وقت طويل وسقط من قدميه وسط المتجمهرين واختفى. ذات يوم كنت أجلس أمام بيت “أمير العشيق” و جاءت ريحان تسألني (صحيح استاذ أحمد، ما ظهر رفيقك؟) لم أنظر في عينيها خشية أن أبكي وتراني، كانت الساعة الثانية ظهراً، وموعد أمير القديم لم بمنفذ مر عليه سوى خمس دقائق فقط.