أخاف من الحب، هذا الاحساس الذي لم امتحنه سابقاً ولا أرغب في امتحانه أبداً. لم أكن أعلم حقيقة ما يشاع عن معصومة ، صدق كان أم كذب. كانوا يقولون أن معصومة عشقت شاباً ولم تتزوجه فأصيبت بالجنون.
كانت النسوة تحكين قصتها، فسمعت أميّ تقول : (عشقت شب بيجنن طول ووسامة)، فاعتقدت لفترة طويلة إن النساء يعشقن فقط الرجال ذوي القامات الطويلة والشوارب الجميلة والحواجب العريضة والسمات الرجولية، إلى ان قالت لي أميّ أنها أحبت أبي فتزوجته، عندها أصابني الشك، فأبي كان مثل كرة اللعب. أو عندما رأيت زوج عمتي وهو أشبه بقصبة النرجيلة، ادركت حينها أن معشوق معصومة المجنونة ربما لم يكن يستحق هذا العناء.
أمي كانت تقول: ( معصومة معلقة صورة لحبيبها على الحيط وكل يوم بتتأمل فيها)، الجميع في قريتنا كان يقول ذلك. منزل معصومة كان في آخر القرية وجميع الأولاد يخافون الذهاب إليه، كانوا يقولون إنه مسكونٌ بالجن الذي يقيم في كل ليلة عرس لمعصومة، أبي كان يقول: ( مين حكى هالخرافات)، وأنا كنت أصدق كلام أبي، صحيح له شكل كرات اللعب، لكن هذا الأمر لا يعني أن من هم كرويّ الشكل ولهم شوارب تشبه المكانس ليسوا ذوي شأن. لقد كان شخص محترم، وعندما علم أنني أخشى الذهاب إلى الدكان التي تقع آخر القرية، قال:(روح جبلي علبة دخان من عند عمك رحمان)، والذهاب إلى دكان العم رحمان يعني العبور من خط الرعب ليلاً، لكنني ذهبت وبسرعة البرق رجعت وعبرت إيضاً من أمام منزل معصومة المجنونة. وصلت إلى أبي فقال: (نسيت ما تجيب معك كبريت) فعدت مهرولاً إلى الدكان ومرة أخرى إلى البيت.
لكني تعلمت ان على الانسان أن يركض كي لا يفكر، واذا صعب عليه الركض عليه أن لا يفكر بأشياء مخيفة. في اليوم التالي رأيت معصومة المجنونة وهي تعبر ساحة القرية بهدوء وتتجه نحو منزلها، لحقتُ بها تاركاً مسافة للامان بيننا، عندما دخلت بيتها لم تغلق الباب المكسور خلفها. أحياناً تسير الأمور دون وعي، فأبي لم يدرك أنه حرق لي كل المراحل وجعلني أكره الحب، كان الباب مفتوحاً.
دخلت معصومة المجنونة إلى باحة الدار، طردت ديكها ودجاجاتها بطرف عباءتها وصعدت نحو الدرج الطيني، تبعتها إلى باحة الدار، ما قمت بفعله لا يجرؤ على فعله أي ولدٍ في قريتنا إن كان يخاف الظلمة أم لا، الأمر الذي زاد شجاعتي ودفعني لأصعد الدرج وذهبت معصومة إلى غرفتها وتبعتها لكي أرى صورة حبيبها التي كانت على الرف أو على الحائط، بحثت في الغرفة فلم أجد لا صورة ولا إطار، ومعصومة اختفت، أصابتني القشعريرة، أين ذهبت تلك المجنونة؟ أردت العودة إلى الخلف واذ معصومة خلفي، جف الدم في عروقي. كانت معصومة تجلس القرفصاء أمامي مباشرةً أمسكت بيديها الكبيرتين وجهي وقالت: (شو هالعيون الحلوة يا ابن الحرام). شعرت بحرارة يديها على وجهي لم اتمكن من الصراخ كانت فقط تحدق بعيني بشكل مرعب.
أزالت يديها عن وجهي وعادت مرة ثانية إلى الغرفة متجاهلةً وجودي. فهمت أن الغرف في بيتها كانت مفتوحة على بعضها البعض. قالت من وسط عتمة الغرفة: (وقف لا تروح رح جبلك جوز) بالطبع لذت بالفرار وركضت لاهثاً نحو البيت ولم أخبر أحد بما حصل معي. صباح اليوم التالي أتى أبي من عمله وهو يضحك وكان يخبر أمي أمراً ما وهي تضحك إيضاً. نادى لي أبي عندما رآني وقال : (بالأخير لاقت معصومة حبيبها)، فرحت لذلك، أكمل أبي (واليوم العرس)، وانفجر ضاحكاً ثم ذهب إلى الغرفة ليتناول فطوره ويعود ثانية إلى العمل كعادته كل يوم لكنه اليوم متردد في ذلك. في النهاية لم يستطع إمساك نفسه عن الكلام وقال: (شو هالعملة اللي عملتها) قالت له أمي: (تركك من القصة). عندما عاد أبي إلى العمل قالت لي أمي: (معصومة المجنونة قال مغرومة فيك) وضحكت. وقفت مذهولاً، ثم لحقت بأبي راكضاً إلى أن توقفت أمام المعسكر وإذ بمعصومة المجنونة فرشت بساطاً وسط ساحة القرية وضعت عليه مستلزمات سفرة عقد الزواج من شمع ومرآة إلى جانب المكسرات من فستق وجوز ولوز، والأولاد تجمعوا حولها وهي ترقص وتطلق الزغاريد وتقول: (اليوم عرسي أنا وابن الرئيس) رفع أبي قبعته العسكرية ومضى مسرعاً إلى المقر، فيما كانت معصومه ترشق الملبس في الهواء وتقول: (مبروك مبروك) وتجمع الأولاد من كل حدب وصوب ليجمعوا الملبس. خرج أبي من جديد من المقر ووقف أمام الباب فيما رافقه عسكريين لمّوا سفرة عرس معصومة المجنونة وأخذوها هي أيضاً. عندما ذهبت معصومة المجنونة كان الجميع يحدق بيّ اعتراني الخجل وهربت راكضاً واخفيت نفسي خلف حائط بستان بين أغصان أشجار التفاح المثمرة وأخذت بالبكاء كنت أتمنى أن لا يحبني أي شخص بعد اليوم.