-المتنبي حمل راية اليائسين، الفاقدين للأمل، و قال نيابةً عنهم:
"بِمَ التَعلّلُ؟ لا أهلٌ ولا وطَنُ"
-والمتنبي أيضًا حملَ راية المستكبرينَ على الوداع، والثابتين في الأيام التي تفتقد فيها القلوبُ ما تهوى، فقال:
"إذا ترحّلتَ عن قومٍ و قد قَدِروا
أن لا تفارقَهُمْ فالراحلونَ هُمُ"
-و هو الذي أودعَ الله فيه الكثيرَ من الحكمة، وأجراها على لسانه، ثُمّ انسابتْ بكل ما فيها في بيته القائلِ فيه:
"ولم أرَ في عُيوبِ الناس شَيئًا
كنَقصِ القادِرِينَ على التَّمامِ"
-وهو الذي اختصر الأنفَةَ، والكبرياء، وأصول الهياط، وصيَغِ المبالغة ومجازاتها في قوله:
"سيعلمُ الجمعُ ممنْ ضَمَّ مجلسُنا
بأنني خيرُ مَنْ تسعىٰ بهِ قَدَمُ!"
-وهو أيضًا مبهرٌ في الرثاء .. فبعد وفاةِ "خولة" أخت سيف الدولة، اجتمعت أحزانهُ وثُلِمَ قلبهُ، ولعلَّ مرارةَ فقدها تتبدّى ليَ في بيته القائل فيه:
"وَلَيْتَ عَينَ التي آبَ النّهارُ بهَا
فِداء عَينِ التي زَالَتْ وَلم تَؤبِ"
وفي الرثاءِ أيضًا
بعد وفاة "جدّته" التي أحبّهَا، كتب ما كتبَ عنها في نَعْيِهَا .. و لكنّي أتوقّفُ دائمًا عِنْدَ أسَـاهُ وعبرَته عندما قال عنها:
"وما اشتَدّتُ الدنيا عليَّ لضيقها
و لكنَّ طَرْفًا لا أراكِ بهِ أعمىٰ"
-وهو الذي اختارَ أقسى المجازات لوصفِ أوجاعهِ وضياعهِ وتقلّبات الدنيا عليه، فقال:
"أنا الغَريقُ فما خَوفي من البَلَلِ"
المتنبي ما زال عندي قائدًا للأدباءِ الذين استطاعوا وصف القلق وهلعه بدقّة فاجعة، وتصوير مُحكم، بعد أن استدعى كل المخاوف في شطرٍ واحد فقال:
"على قَلَقٍ كأنَّ الريحَ تحتي"
- يُشعِرك بهولِ قلقه.