الانتحال ظاهرة أدبية عامة لا تقتصر على أمة دون غيرها من الأمم ولا يختص بها جيل من الناس دون غيره من الأجيال. فقد عرفها العرب كما عرفتها الأمم الاخري التي كان لها نتاج أدبي وعرفها العصر الجاهلي كما عرفها العصر الأموي والعصر العباسي، بل لا يزال يعرفها عصرنا الحاضر الذي نحيا فيه مع شيوع الكتابة وانتشار الطباعة. ولم يكن الوضع والانتحال مقصوراً علي الشعر وحده بل شمل كل ما يرتبط بالأدب كالنسب والأخبار وحتي بدأ الكذب والانتحال في الحديث النبوي في حياة رسول اللّه صلي الله عليه و آله وسلم ويدل علي ذلك قول النبي صلي الله عليه و آله وسلم : (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
والذي يهمّناهو قضية الانتحال في الشعر الجاهلي، بمعني هل كل ما وصل الينا من الشعر الجاهلي صحيح ام تطرق اليه الوضع والانتحال والذي نقصده من هذه السطور هو اجابة هذا السؤال.
انتحال الشعر الجاهلي عند الأقدمين :
ثبت ان العرب لم يدوّنوا شعرهم في الجاهلية في ديوان أو سفر وانما كان محفوظاً في الصدور تعيه حافظتهم وقلوبهم وأذواقهم وملكاتهم الأدبية الفطرية، ومع هذه الرواية والحافظة القوية فقد ضاع الكثير من الشعر العربي الجاهلي، وأصيب الشعر الجاهلي مع الضياع بالافتراء والاختلاق عليه من قبل بعض الرواة لأسباب كثيرة.
وحمل ذلك النقاد القدامي علي نقد الرواة، وتجريح الوضاعين والتنبيه علي الشعر المنحول ومنهم المفضل الضبي الذي نقد حماد الراوية وبين أكاذيبه، والأصمعي حين نقد خلف الأحمر وتابعهم بعد ذلك ابو الفرج الاصفهاني في رفضه روايات ابن الكلبي عن دريد بن الصمة وبعض اشعاره، فقد تنبّه الي أنها مكذوبة ملفقة من قبل ابن الكلبي نفسه.
كما ان أبا عمرو بن العلاء بعد ان ذكر أبياتاً من ذي الاصبع العدواني، نصّ علي انه لا يصح من أبيات ذي الاصبع الا الأبيات التي انشدها، وان سائرها منحول.
وكان من أهم النقاد القدامي في هذا الجانب محمد بن سلام الجمحي، فقد دوّن في كتابه (طبقات الشعراء) كثيراً من ملاحظات أهل العلم والدراية في رواية الشعر القديم واضاف الي ذلك كثيراً من ملاحظاته الشخصية. وقد ردّ مشكلة الانتحال في الشعر الجاهلي الي عاملين: عامل القبائل التي كانت تتزيد في شعرها لتتزيّد في مناقبها، وعامل الرواة الوضاعين، يقول في ذلك: (لما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا ان يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا علي ألسن شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار).
وقد اشار ابن سلام مراراً الي ما زادته القبائل في شعر شعرائهم كما يقدم لنا طائفتين من الرواة كانتا ترويان منتحلاً كثيراً وتنسبانه الي الجاهليين، طائفة كانت تحسن نظم الشعر وصوغه وتضيف ما تنظمه وتصوغه الي الجاهليين، ومثل لها بحمّاد، وطائفة لم تكن تحسن النظم ولا الاحتذاء علي أمثلة الشعر الجاهلي ولكنها كانت تحمل كل غثاء منه وكل زيف، وهم رواة الأخبار والسير والقصص من مثل ابن اسحاق راوي السيرة النبوية. ورفض ابن سلام والأصمعي وأضرابهما رواية الطائفتين جميعاً فلم يقبلوا شيئاً مما يرويه أشباه حماد الا ان يأتيهم من مصادر وثيقة، وكذلك لم يقبلوا شيئاً مما يرويه ابن اسحاق الا ان يجدوه عند رواة اثبات.
فهؤلاء اثبات حين جرحوا الرواة وكذبوا الوضاعين وبيّنوا الشعر الفاسد المصنوع، وثقوا من ناحية ثانية الشعر الصحيح وعدلوا الرواة الثقاة وشهدوا لهم بالدقة والامانة والعلم. فأبن سلام مثلاً حينما فتح الطريق امام النقاد لجرح الرواة ورد المنحول ومعرفة الحق من الباطل، فانه كذلك حذر الباحثين ونبّههم الي ان: (ما اتفقوا عليه، فليس لأحد ان يخرج منه).