الديمقراطية الألمانية - فايمار عندما يصبح التطرف فعلاً حراً
في عام ١٩١٩ م بعيد الحرب العالمية الأولى ولدت أول جمهورية ألمانية عرفت باسم جمهورية فايمار، نسبة للمدينة التي أعلنت بها، وقد نتج هذا التحول في ألمانيا عن خسارة الحرب والفشل الذي ألحق بألمانيا القيصرية مما أدى لذلك النزاع المدني وأنتج عما سمي بثورة نوفمبر تلك الجمهورية، ولم يقصِ الثوار الاشتراكيون النخب السياسية التي كانت في الفترة القيصرية، ولم ينضم أو يسلم حزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني البلاد للمجالس السوفيتية كغيرها، بل تغاضى حتى عن ميليشيات قومية لقمع الحراك اليساري المتطرف الذي انتفض به الثوار المتطرفون تحت مسمى "ثورة سبارتاكوس الشيوعية"، وبعد أن هدأت البلاد وضع السياسيون دستوراً ديمقراطياً مفتوحاً، ومن المبرر القول أن ميوعة الديمقراطية والإسراف فيها أدى إلى القضاء عليها بعد ما لا يزيد عن ثلاثة عشر عاما.
كانت ديمقراطية فايمار ناقصة كما سماها المؤرخ الألماني هورست مولر، تأتّى نقصها من عدم قدرتها على مواجهة أعدائها الداخليين، ديمقراطية فايمار لم تكن مسلحة لا داخل البرلمان ولا في المجتمع الألماني، على أن الديمقراطية بحد ذاتها لم تكن غريبة عن الدولة والمجتمع، فلقد كانت هناك ديمقراطية ولو جزئية في ألمانيا القيصرية. لم تكن هناك محددات، أو مبادئ أساسية تضع الديمقراطية في إطار مانع من الذين يرونها أداة للوصول، لكن لا يقتنعون بها كنظام سياسي جامع، ورأى الديمقراطيون أنفسهم عالقين بين موجتين هائلتين من الاستقطاب زادت من حدتيهما الظروف المعيشية الصعبة لفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ونتائجها الكارثية على ألمانيا، وخاصة تلك التي منحت الدول المنتصرة مركز الأعلى في الدولة، ولم تقتصر معاهدة فرساي على إزالة جميع مستعمرات ألمانيا فحسب ، بل استحوذت أيضًا على 13 في المئة من أراضيها وعشرة في المئة من سكانها ، مع 50 في المئة من إمدادات خام الحديد ، و25 في المئة من مناجم الفحم، و17 في المئة من محصول البطاطا و13 في المائة من محصول القمح. خسرت ألمانيا حينها كل شيء، لذلك رأى كثيرون أن الحفاظ على هيكل الدولة القومية إلى حد كبير، هو مكسب بحد ذاته، في الوقت الذي أصابت الهزيمة كرامة الألماني بشخصه بعد تدني مستوى العيش وانتشار البطالة والفقر، مما أدى لنزعة يسارية قوية يدعمها النصر البلشفي في روسيا، وأخرى أشد قوة متمثلة بالنزعة اليمينية تدعمها نداءات شعبوية وديماغوجية ترفض الهزيمة وتحمل الديمقراطيين وجمهورية فايمار وزرها.
لم يكن من الممكن منع أعداء الديمقراطية الداخليين من تدميرها، فلقد جاءت ديمقراطية فايمار عزلاء تماماً
دعمت تلك الظروف استقطاباً راديكالياً في المجتمع الألماني بين اليسار واليمين، وتمثل ذلك الاستقطاب داخل قبة البرلمان، وتمكن الراديكاليون اليساريون واليمينيون أن يعيقوا أي عمل لحكومة ديمقراطية دون أن يقدموا أي بدائل عنه، ولطالما استطاعوا سوية أن يشكلوا أغلبية سلبية وضعت الديمقراطيين بين فكي الكماشة. لم يكن من الممكن منع أعداء الديمقراطية الداخليين من تدميرها، فلقد جاءت ديمقراطية فايمار عزلاء تماماً، في الوقت الذي بات اليسار واليمين المتطرفان اللذان لم يعترفا بالديمقراطية يوماً يخرجان عن إطار الدولة بالكامل لعدم قناعتهم بها، رافعين شعارات تبدأ بسبب الهزيمة بالنسبة لليمين، لتنتهي بالتخلي عن مبادئ ثورة بالنسبة لليسار، وباتوا يشكلون ميليشياتهم العسكرية الخاصة تحت مسميات مختلفة فظهرت ميليشيات "الثورة" اليسارية وفي مقابلها نشأت تلك الميليشيات اليمينية المتطرفة بحجة حماية مناطقها من قوى الثورة اليسارية وأشرف على تشكيلها ودعمها الجمعيات "الشعبية الألمانية" السرية، تلك الميليشيات التي كانت منطلق الميليشيات النازية فيما بعد، والتي للمفارقة كان اسمها قوات حماية الشعب.
مع تلك الأغلبية السلبية لم يكن في الوارد أبداً القدرة على بناء أكثرية ديمقراطية صلبة، مما أدى لحالة من عدم الاستقرار كانت سمة جمهورية فايمار الأساسية، ولعل تقلبات الإدارة السياسية ما بين تاريخ إعلان الجمهورية ١٩١٩ حتى إعلان حالة الطوارئ عام ١٩٣٠ هي الإشارة الأشد وضوحاً على عدم استقرار النظام السياسي، فقد تم ما بين هذين العامين تناوب ١٦ حكومة على الإدارة، أي بمعدل مدة ثمانية أشهر لكل حكومة.
كانت ديمقراطية فايمار مائعة سائلة لا تجد حدوداً تقف عندها ولا أطراً تمنحها شكلها الصلب وشوكتها الدفاعية
انطلاقاً من عام ١٩٣٠ وحتى عام ١٩٣٣ عند تسلم ادولف هتلر منصب المستشار الألماني حُكِمت البلاد تحت حالة طوارئ، والتي تمنح رئيس الدولة الألماني صلاحيات أشبه بالقيصرية، على اعتباره وصي الدستور، وهذه النقطة كانت العيبة الأخرى في ديمقراطية فايمار، لم تقم النخبة السياسية نظاماً جمهورياً بقدر ما أقامت ما يمكن أن نسميه نظاماً أقل قيصرية، حيث كان رئيس الجمهورية هو بديل القيصر، وله صلاحيات وتفويضات "فوق ديمقراطية" في حالات الطوارئ، وكان قد حق له في الحالات الطبيعية حل البرلمان وتعيين المستشار، وفي ضوء رئيس ضعيف واستقطاب قوي بين اليمين واليسار غلبت به قوة اليمين المتطرف ومده الشعبوي حينها جاءت تسمية هتلر مستشاراً، لم ينجح الحزب النازي بأغلبية مطلقة ليتم تسمية هتلر كمستشار، بل لم تصل نسبتهم في البرلمان للثلث. لم يأت صندوق الاقتراع بهتلر، وإنما الاستقطاب والعداوة للديمقراطية هي من جاءت به مستشاراً، حيث رفض اليساريون الراديكاليون التحالف مع الاشتراكيين الديمقراطيين لتسمية المستشار.
كانت ديمقراطية فايمار مائعة سائلة لا تجد حدوداً تقف عندها ولا أطراً تمنحها شكلها الصلب وشوكتها الدفاعية، كانت إسرافا في فتح المجال في الحريات حتى تم اعتبار الفعل اللاأخلاقي على مستوى المجتمعات والسلطة فعلا حراً، لم تتسلح الديمقراطية حينها بمبادئ أساسية ومسبقة، ولم تستطع أن تتخلى بعد سنة من القيصرية عن ظل الحاكم المفوض بالقوة، فباتت مهزومة أمام أعداء يهاجمونها من الداخل.
سوريا اليوم على مفترق طرق تجربته ماثلة ليس في ما حدث لفايمار، بل ما حدث في لبنان والعراق ومصر كتكرار لفايمار، فبناء الديمقراطية غير المحمية بمبادئها الثابتة التي توفر توازناً بين توجهات الأغلبية وهواجس الأقلية، وتضع أطراً واضحة لحدود تعسف الدولة تجاه مجتمعها، تودي بالدولة لما نراه اليوم ماثلاً في العراق، حيث تحتج اليوم الحكومة العراقية على عقوبات فرضت على رئيس ميليشيا تحمل السلاح خارج إطار الدولة، ميليشيا موازية للدولة تتذرع بحمايتها، ميليشيا في دولة لها جيشها، ومع ذلك تعول عليها، ميليشيا بنيت على أساس طائفي راديكالي، لأن ديمقراطية العراق كما كانت جمهورية فايمار منزوعة الأسنان، ولأجل مستقبل ديمقراطي قادر للدفاع عن نفسه في سوريا، وبالتالي للدفاع عن المجتمع، وعدم الانزلاق مرة أخرى في بركة الدم التي ما زلنا عالقين فيها حالياً، فإن علينا كسوريين أن نناضل من أجل أسنان لديمقراطيتنا، مبادئ مسبقة، تحمي الحرية من نفسها، عندما يصبح التطرف فعلاً حراً...