المجتمع العراقي يحاول الحفاظ على تراثه من خلال هذه الأماكن التي تمثل صورة مصغرة عن طبيعة الحياة البغدادية القديمة، بما يؤكد تمسك الشعب بثراثه.
أحد المقاهي وسط العاصمة العراقية
بغداد- تحتل المقاهي الشعبية مكانة بارزة في الحياة الاجتماعية البغدادية منذ بداياتها، دفعت العديد من المؤرخين إلى تناول تاريخها مثل كتاب "مقاهي بغداد الأدبية، ومقاهي بغداد القديمة".
وتعد المقاهي في وقتنا الحالي من أهم مراكز التجمعات الشبابية، ويطلق عليها محلياً القهوة وجمعها قهاوي، ويلفظ حرف القاف في بدايتها مثل الجيم المصرية.
الجبوري: بغداد أولى مدن العراق التي عرفت المقاهي إبان العهد العثماني
أصل التسمية
ويرجع أصل التسمية لعادة تقديم القهوة السائدة وقتها في هذه الأماكن، قبل أن يستحوذ الشاي على ذوق العراقيين أواخر القرن الـ 18 بحسب الباحث في التاريخ عماد الجبوري.
وقال الجبوري -في حديثه للجزيرة نت- إن بغداد أولى مدن العراق التي عرفت المقاهي إبان العهد العثماني، حيث شيد والي بغداد جغالزادة سنان باشا عام 1590 أول مقهى خلف المدرسة المستنصرية، وسمي باسمه قبل أن يختزله العراقيون إلى خان جغان.
ويضرب في هذا المقهى المثل الشعبي "هي الجنة خان جغان ياهو اليجي يدخل بيها؟" دلالة على صعوبة الدخول إلى بعض الأماكن بسبب ازدحامها.
أحد أقدم المعالم التراثية في العراق
ويرى الجبوري أنه بسبب كثرة الإقبال على هذا المقهى، انتشرت المقاهي داخل جميع أحياء بغداد بدايات القرن الـ 17، وتحولت مع منتصف القرن الـ 18 إلى مركز اجتماعي مهم حيث اختص بعضها بمهن معينة وسمي باسمها مثل مقهى التجار ومقهى العمال، ثم تطورت لتصبح مجالس للمناقشات الفكرية والفلسفية والأدبية التي أثرت على العقلية الثقافية والسياسية في البلد.
وأشار إلى أن دور المقاهي الوقت الحالي يختلف تماماً عما كان عليه سابقاً، حيث كانت منابر للعلم والأدب وتناقل علومها ثلة من المثقفين، وأسهمت في تغيير بعض السياسات والواقع مثل انطلاق المظاهرات من أمامها أو التنديد بقرارات البرلمان وقتها، في حين يقتصر دور المقاهي الحالية على الترفيه وقتل الملل حصراً.
مقهى الزهاوي كانت قبلة للعديد من الشخصيات البارزة أمثال رئيس الوزراء بالعهد الملكي نوري السعيد وغيره
المقاهي التراثية
ولا تزال العديد من المقاهي التراثية تفتح أبوابها حتى هذا اليوم، مثل مقهى الزهاوي الذي تأسس عام 1917، ويعتبر من بين أقدم المعالم التراثية في العراق.
وعرف هذا المقهى سابقاً باسم مقهى البولنجية، ولكن نتيجة وجود الراحل جميل صدقي الزهاوي الدائم فيها، تناسى الناس اسم المقهى الأصلي لينسب بعدها إلى هذا الشاعر المعروف.
وكان المقهى قبلة للعديد من الشخصيات البارزة وقتها، أمثال رئيس الوزراء في العهد الملكي نوري السعيد وجعفر أبو التمن الذي يعد أحد أبرز قادة الحركة الوطنية، ومن زعماء ثورة 1920 ضد الاحتلال البريطاني، كما كان منتدى للنقاشات الأدبية والثقافية التي يشارك فيها نخبة المجتمع العراقي.
خريبط: لمقهى الزهاوي جمهوره ورواده الدائمين الذين يمثلون مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية
وحاليا يعاني المقهى -الذي تعود ملكيته لأمانة بغداد- من الإهمال وعدم العناية بصيانته، ويديره حيدر خريبط المكنى بأبو الزهاوي الذي يؤكد محافظته على التقاليد التراثية القديمة في تقديم المشروبات الساخنة والأرجيلة، كما يعتني بتزيين جدرانه بصور تشكل بانوراما من حقب تاريخية مختلفة من التراث.
وأضاف خريبط للجزيرة نت أن للمقهى جمهوره ورواده الدائمين الذين يمثلون مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، يجذبهم لذلك رخص المقاهي التراثية مقارنة بغيرها من المقاهي الحديثة.
وفيما يخص محافظتها على تراثها، يؤكد المحامي علاء البياتي أن هذه المقاهي تحيي عبق الماضي بنقاشاتها الفكرية وأجوائها الصاخبة المصاحبة للألعاب التقليدية مثل الطاولي والدومنة، ويصفها بالمكان الجميل للقاء الأصدقاء وللراحة النفسية.
من جانب آخر انتقد الخطاط فهد محمد أصحاب المقاهي التراثية في إدخال الحداثة لجوانبها بغية كسب الزبائن دون الاكتراث لأصل معنى التراث، مثل إدخال التلفزيون والأغاني الحديثة وحتى طريقة تحضير الشاي، ومن ثم نفي تميزها عن المقاهي الشعبية الأخرى.
مقهى شعبي مشهور في شارع المتنبي وسط بغداد
المقاهي الشعبية الحديثة
وللمقاهي الشعبية حضور بارز في مختلف مناطق بغداد، يحاول بعضها الاقتباس من طريقة ترتيب المقاهي التراثية مع إضافة بعض الحداثة لها، والتي تجذب بدورها شريحة الشباب على وجه الخصوص.
يقول عمار عماد، صاحب مقهى الأفندي الواقع في منطقة العامرية غرب بغداد، إن سبب تفضيل الشباب لهذه المقاهي هو قلة أسعارها مقارنة بالمقاهي الحديثة، وباعتبارها المتنفس الوحيد لهم.
وينوه عماد إلى أن صعوبة إيجاد فرص العمل تدفع أيضاً لإقبال الشباب نحو هذه المراكز، أملاً بالتعرف على من يساعدهم في هذا الشأن.
ومن الصعب تحديد تأثير المقاهي الشعبية السلبي أو الإيجابي بسبب تعلق هذا الأمر بطبيعة الفرد والمكان، بحسب الباحثة الاجتماعية سجى خالد التي توضح أن من إيجابياتها المساهمة في إخراج الشباب من عزلتهم الاجتماعية وإبعادهم عن حياة الشارع.
ولكن هذه الباحثة الاجتماعية تؤكد في الوقت ذاته أن بعض هذه التجمعات أصبحت بؤرة للجريمة المنظمة وتداول المخدرات، إضافة إلى زيادة المشاحنات والمشاكل داخلها.
وتدعو إلى توخي الدقة في اختيار المقهى والأصدقاء الموجودين فيه، وحصر سبب وجودهم ضمن الحدود الترفيهية والتعلم الإيجابي فقط، مشيرة إلى أن المجتمع ما زال يحاول الحفاظ على تراثه من خلال هذه الأماكن التي تمثل صورة مصغرة عن طبيعة الحياة البغدادية القديمة، بما يؤكد تمسك الشعب بتراثه.