تكوين الصداقات "مهارة" بالغة الأهمية يمكن تعلمها وصقلها مع الوقت (غيتي)

"ابني متفوق ويحب دائما تصدر المراكز الأولى، لكنه لا يجيد تكوين صداقات"، ملاحظة رصدتها سارة (أمٌّ في العشرينيات من عمرها) في سلوك ابنها خلال أول عام دراسي له.
كانت تلك الملاحظة صادمة بالنسبة لسارة، وقالت "بعد الشهر الأول من الدراسة، أبلغتني معلمة ابني أنه متفوق في دروسه، ويحترم الجميع، وملتزم بالنصائح التي توجه له، لكن هناك بعض المشكلات مع زملائه لرغبته الدائمة في أن يكون الأفضل بينهم".
وأضافت أن هذا التقييم لسلوك ابنها جعلها تعيد النظر في تربيتها له والأسباب التي تدفعه دائما لتفضيل تفوقه الشخصي على العلاقات الإنسانية الطويلة الأمد، ومن بينها الصداقة، ورغم كونه محبوبا من أفراد عائلته، فلم تلحظ مشكلات في اندماجه مع غيره من الأطفال.
وأكدت أنها لم تختبر مثل هذه المشكلة مع ابنها خلال سنوات ما قبل الالتحاق بالمدرسة.

لا نحتاج إلى الضغط المستمر على الأطفال، بل نحن نحتاج فقط لمساعدتهم على الشعور بالأمان (غيتي)
البحث عن الأمان
في هذا الشأن، رأت الاستشارية النفسية والتربوية، عزيزة البنا، أن هذه المشكلة تنبع من الأهداف الحياتية التي تصل إلى الطفل عبر والديه، مؤكدة أن تنشئة طفل طموح يتمتع بروح القيادة لا تتعارض مع قدرته ورغبته في تكوين العلاقات الآمنة، ومن بينها الصداقة.
وقالت -في حديثها للجزيرة نت- إن "مساحة الأمان التي يمنحها الآباء لطفلهم هي المحرك الأساسي لتصرفاته وقراراته، وفي حال ملاحظة تعارض بين الثقة بالنفس ونمو الجوانب الإنسانية لدى الطفل، فهذا يعني أن ذلك الطفل لا يشعر بالأمان، ويخشى اختلاف الرأي أو التعرض للانتقاد، تجنبا للمقارنة أو العقاب".
وأوضحت أن معالجة مثل هذه الحالات تبدأ من سؤال لا بد أن يطرحه الأهل على أنفسهم، وهو "ماذا نريد من الطفل في المستقبل؟".




وأشارت الاستشارية التربوية إلى أن طموحات الآباء ربما قد توّلد كثيرا من المشكلات الحياتية لدى الطفل، لذا لا بد من التركيز على سلوكيات الطفل في المستقبل والشكل الذي ستكون عليه حياته، لا على التفضيلات الآنية للأهل.
ورأت أن تركيز بعض الآباء على زرع فكرة "لا بد أن تكون متميزا وأن تكون الأفضل" في أبنائهم، تخلق "قدرا من الأنانية لدى الأطفال"، لا سيما إن رافقها مفاهيم الثواب والعقاب والمقارنة.
وأضافت أن "في هذه الحالات، يبدأ الطفل في الاعتماد على إستراتيجيات عمل مختلفة في حياته، حتى يحمي نفسه، ويضمن الحصول على الأمان في المنزل، ومن هنا تتولد الأنانية والمشكلات في تكوين العلاقات الإنسانية".
ورأت أن ظهور هذه المشكلات مع بداية رحلة التعليم المدرسية يعود -بشكل أساسي- إلى الضغوط التي يمارسها الأهل على الطفل في هذه المرحلة.
وتابعت البنا أنه "لا نحتاج إلى الضغط المستمر على الأطفال، أو أن نطالبهم بتحقيق شيء ما، بل نحن نحتاج فقط لمساعدتهم على أن يشعروا بالأمان".




الأهل مصدر ضغط على الأبناء
وفي السياق ذاته، أيدت فجر عبد الناصر (أمّ شابة، ومدونة) ضرورة ألا يصبح الآباء مصدر ضغط متواصل على الطفل.
وقالت -للجزيرة نت- إن نمط الحياة الذي يعتمد على ضرورة تحقيق الإنجازات الرياضية والعلمية جعل الطفل يخشى الكسل أو ارتكاب الأخطاء، فيصبح كل اهتمامه أن يصبح في مكانة أفضل من غيره، حتى لا يتعرض للانتقاد من الأهل في المقام الأول.
وأضافت "نعيش في عالم يحرص الجميع على التباهي بإنجازات أطفاله، واستعراض ما حققوه، ومن هنا يمارس الأطفال التنمر بحق بعضهم بعضا".
ورأت أن بداية حل المشكلة تكون في المنزل، مطالبة الآباء بالتأكيد على فكرة أن "الخطأ وارد، وأن القدرات مختلفة، وأنه لا يوجد شخص مثالي، حتى وإن كان قائدا ومحبوبا ومتفوقا".
وعلى هذا النحو، تحدثت فجر -للجزيرة نت- عن أهمية المدارس التي لا تضع في خطتها التعليمية -ما تسمى- المسابقات الفردية أو لوحة الإنجازات الشخصية أو فكرة المراكز الأولى.




وأردفت "أحرص على أن تكون ابنتي في مناخ تعليمي جيد تقدّر فيه فكرة التشاركية وتبتعد عن الفردية".

نمط الحياة الذي يعتمد على ضرورة تحقيق الإنجازات الرياضية والعلمية يجعل الطفل يخشى الكسل أو ارتكاب الأخطاء (شترستوك)
نصائح لمساعدة ابنك على تكوين صداقات
أما الاستشارية عزيزة البنا، فتنصح الأهل بأن يحرصوا على عقد التجمعات العائلية خارج نطاق المدرسة، لمساعدة الطفل على الإحساس بالأمان في مجتمعه الجديد، وأن تكون هذه التجمعات قائمة على الرغبة في المشاركة والتعارف وتبادل الهدايا، أو حتى التخفيف عن طفل مريض، من دون الحديث عن أي مقارنات أو اختلافات بين الأطفال.
ومن الملاحظ أن عديدا من الخبراء ركزوا على الصعوبات التي يواجهها غالبية الأطفال في عامهم الدراسي الأول، وتحديدا تكوين الصداقات وخلق مساحات من الثقة والراحة مع زملاء الفصل.
نشر "معهد تشايلد مايند" (Child Mind) الأميركي مقالا على موقعه الإلكتروني، لفت فيه إلى أن تكوين الصداقات "مهارة" بالغة الأهمية يمكن تعلمها وصقلها مع الوقت.
إذ استعرض الخبير جيمي هوارد -في المقال- بعض الخطوات التي يمكن للأهل الاعتماد عليها عندما يجدون طفلهم يكافح من أجل تكوين صداقات، أو حينما يتم رفضه من أطفال آخرين.

من الضروري أن يساعد الأهل الأطفال في معرفة قواعد الألعاب الرائجة في مجتمعهم، باعتبار اللعب وسيلة للاندماج (شترستوك)
جاءت في مقدمة هذه الخطوات أهمية "تنمية المهارات الاجتماعية"، ومن بينها المشاركة والتناوب في أثناء اللعب، مع التركيز على أن "الأقران يتوقعون منا نفس السلوك الجيد الذي نريده".
ونصح هوارد أولياء الأمور بقوله "تحدث مع طفلك عما يعنيه أن تكون مضيفًا جيدًا، ماذا يفعل لجعل ضيوفه يشعرون بالراحة، ومتى يعرف إن كان الضيوف يقضون وقتًا ممتعًا، هل يبتسمون أو يضحكون؟".
ولفت الخبير النفسي أيضا إلى أهمية إجراء الأهل مقابلة مع معلمة الطفل، عندما يخبرهم بأن الجميع يكرهونه.




وقال "غالبًا ما يقول الأطفال: يكرهني الجميع، لكنهم ربما لا يتمكنون من وصف ما يحدث، لذا يمكن للمدرسين إعطاء فكرة أفضل عن علاقة الطفل بباقي زملائه، واقتراح زملاء يمكنهم اللعب مع هذا الطفل بعد المدرسة".
في السياق ذاته، نصح الموقع التربوي "ريزينغ تشيلدرن" (Raising Children) -التابع للحكومة الأسترالية والمعني بتنشئة الأطفال- الآباء بضرورة تعليم أبنائهم مهارة التعريف بأنفسهم بشكل جيد.
وجاء في موضوع على الموقع أنه في بعض الأحيان قد يساعد تذكير اجتماعي بسيط في حل مشكلة صعوبة تكوين الأطفال للصداقات، ونصح الموقع الآباء بتشجيع الأبناء على تقديم أنفسهم عندما يلتقون بأطفال جدد.
وأشار الموقع أيضا إلى أنه من الضروري أن يساعد الأهل الأطفال في معرفة قواعد الألعاب المختلفة الرائجة في مجتمعهم، باعتبار اللعب وسيلة مشتركة للانخراط والاندماج مع زملاء الفصل عندما يتشاركون في اللعب.
وتابع "إذا كان طفلك لا يحب الألعاب التي يلعبها الأطفال الآخرون، فيمكنك أن تقترحي عليه بدء لعبة تعجبه، ومن ثم مطالبة زملائه في الفصل باللعب معه".