خسارة جديدة في القطيف.. الخويلدية تودّع “ندّاف” اْفتيّة العوامية

كتب: حبيب محمود
في دكّان صغير في حي “الفتَيّة” العوامي كان “النداف” الخويلدي يُمضي نهاره، وما إن تتجه الشمس نحو الغروب؛ حتى يؤدّي “السيد” فرض صلاته في المسجد المجاور، ويعود إلى قريته.
كنّا نروح ونغدو، ونمرّ بمحلّ السيد عدنان السادة. نشاهده وهو يضرب بعصاهُ الطويلةِ “دواشگ” القطن، أو “التـّكـَيَاتْ” أو “المساند”. هناك إيقاع ثابت في الطريق: طُمْ.. طُمْ.. طُمْ..!
أو نلمحه حاملاً “نگلةْ” من “بَنْدَلْةْ” قطن متربّعة إلى جانب جدار محله.. في الطريق..!


أو واقفاً أمام آلة غريبة لها بكرة تدور وتُصدر صوتاً عالياً ورتيباً. يضع فيها كُتل قطن لتخرج مفلولة من أسفلها. ومن ثم يأخذها ليحشو بها أكياساً وملاءاتٍ حاكَها من قبل.
محله في فريق “لـِفتَيّهْ”، في الطريق القديم. وهو الطريق الذي يبدأ عند الشارع العام ويصل إلى مبنى المغتسل. بالتحديد؛ يقع محله مقابل بيتيْ “العوّى” و “إسماعيل” الواقعين في فريق “لـِخْضَيْرَهْ”.
هنا، كانت بضعُ محلات بدائية. ضمنها محل “السيد” ومحل آخر لبيع الـ “تِتِنْ” لعجوز آخر عوّامي من عائلة “البدراني”. وفي “العصاريْ” يتحوّل المكان إلى مجلس “شِيّابْ”، أتذكر منهم “الحَمْلَدَارْ” العوّامي المشهور الحاج أحمد العوّى، رحمهم الله جميعاً.
يأتي السيد من قريته “الخويلدية” الواقعة غربيّ مدينة القطيف، ويقضي نهاره كله في العوامية. وحين يلتقي جفنا أفق الليل يغيبُ مع الشمس عائداً إلى أهله في الخويلدية…!
والنّدّاف: كلمة فصيحة، أصلها من “ندف القطن” وهو ضربه بـ “المندفة”. وفي البلاد الخليجية يُطلق الاسم على صانع الفرش القطنية. وهو يصنع الوسائد واللُّحف والمساند والمُتكّآت.. وملحقاتها.
وهي حرفة شعبية انقرضت، ولم يعد السعوديون يمارسونها، تركوها للآسيويين المستقدمين.
في بداية عملي في الصحافة المحلية، كان “السيد” واحداً من الموضوعات الشعبية التي نفذتها ميدانياً ونشرتها. والصور ـ هنا ـ التقطها مصور صحيفة “اليوم” المرحوم علام الصفار. كان ذلك سنة 1993م.
استمر “السيد” في دكانه الصغير إلى ما قبل حلول الألفية، وترك مهنته واستقرّ في قريته “الخويلدية”، إلى أن تُوفي هذا اليوم عن عمر ناهز 90 عاماً.



ندّاف.. ندافة.. حرفة خسرتها القطيف
الـ “ندافة” هي حرفة صناعة المفروشات القطنية. والكلمة عربية صميمة، والمهنة عالمية، تبادلت الشعوب خبراتها عبر القرون المتتالية. وفي القطيف كانت الحرفة محلية، يتولّاها أبناء المجتمع بأنفسهم دون الحاجة إلى الاستعانة بأيدٍ عاملة. كانت الحرفة يدوية خالصة، تبدأ من تقطيع القطن باليد وفصله عن بعضه.
وبعدها نفشه وتنعيمه بالضرب المستمر بواسطة اداة تسمى القوس، وهي عبارة عن عصا منحنية من خشب، تأتي بعد ذلك اداة مهمتها تمليس القطن وفصله عن الوتر ويضرب بها القوس، بعد ذلك يقوم بمهمة تعبئة القطن الناعم داخل قماش، ثم يقوم بخياطته من أطرافه، ويعمل النقوش أو تخطيط أو كتابات على حسب الطلب، والمهمة الأخيرة ترتيب الغرز، وتبعد الواحدة عن الأخرى 20 سم، بحيث تتساوى جميع أطراف المفروشات، حتى لا يتراكم القطن في جهة دون أخرى، ومن ثم وضع قطعة من الحديد لتثبيت القطن تسويته من كل الجهات.


إلا أن التطور والحداثة قد استحوذ، بالإجبار على هذه الحرفة، فبديل للقوس اتت المكائن المستوردة، التي مهمتها ندف القطن بأسرع طريقة وبأقل وقت ومجهود.
وقد استفاد الندافون في القطيف منها كثيراً، وأدخلوها في عملهم. والسيد عمران الشرفاء ـ الذي رحل اليوم ـ واحدٌ من الجيل ما قبل الأخير الذي دخل المهنة وهو ما زال ليّن الجسد.
بلدة الخويلدية اشتهرت بهذه المهنة ربما أكثر من غيرها من قرى القطيف. وهي حرفة أجيال متتابعة، يعملون على صناعة “المراتب، المساند، التكيات، اللحافات، الوسائد” يدوياً.
وقد انقرضت المهنة، وربما كان آخرهم السيد الشرفاء آخر “ندّافي” وقد توفي في 13 نوفمبر 2020. والسيد عدنان السادة هجر المهنة قبل عقود. وقد كان محلّه الأخير في حي “الفتية” ببلدة العوامية.
والمؤسف أن المهنة قد تكون رحلت أمثال هذين، ولا توجد مؤشرات تفيد بوجود جيل جديد يحمل همّ استمرار المهنة التي كان أسلافنا يمارسونها بأنفسهم. جزءٌ من موروث القطيف
.