قد تضطرُّ القافيةُ الشاعرَ أن يضع فيها ما ليس له خَصوصية. كأنْ يتمَّ مرادُه قبل تمام البيت فيستنجد بكلمة لم يقصِدْها ابتداءًا، بل وافقت رويَّ قصيدته، فلو كان الرويُّ غير رويِّه لجاء بغيرها مما يوافق رويه.
ولا يعيبه ذلك ما لم يكن اللفظ المجلوب مستكرَهًا يخدش وجه البيت، أو يفسد معناه.
وقد أولع كثير من النقاد المعاصرين بتكلف استنباط معنًى وراء كل لفظة يقولها الشاعر وكأنه قاصدٌ لها، ومن ذلك الألفاظ التي تضطرهم إليها القوافي، وهم لولا اضطرار القافية ما التجئوا إليها.
ومثل هذا وغيره مما لا يعرفه إلا الشاعر وهو في مصنعه يحلُّ ويعقِد ويفُكُّ ويركّب.
والناقد الذي لم يدفع في مضايق الشعر قد يخفى عليه كثير مما يعترض طريق الشاعر في حَوْكِه ونسِجِه.
وقد وقفت على نص نادر طريف من شاعر يشهد لذلك، وهو حسان -رضي الله- وذلك أنه قال في غزاة ذي قَرَد شعرًا فيه:
ولَسَرَّ أولادَ اللقيطة أننا
سِلْمٌ غداةَ فوارس المِقْدادِ
فأضاف الفوارسَ للمقدادِ، يعني المقدادَ بن الأسود -رضي الله عنه-، ولم يكن قائدَهم في تلك الغزاة، بل جعل عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم- سعيدَ بن زيد النهشلي -رضي الله عنه-
فلقيَ سعيدٌ حسانَ وقال له : (أرأيتَ حيث جعلتَ المقداد رأس السرية وأنت تعلم أن رسول الله استعملني على السرية!). فقال حسان: (يا ابن عَمِّ، والله ما أردت إلا القافية حيث قلت: غداة فوارس المقداد).
ومن طريف ذلك ما صنعه دعبل في قوله يهجو إبراهيم بن المهدي لما طلَبَ الخلافة:
إنْ كان إبراهيم مضطلعًا بها
فلتصْلُحَنْ من بعده لِمُخَارِقِ
يعني مخارقَ بن يحيى المغنِّي، وكان صديقًا لدعبل. فقال لدعبل: (أنا صديقك تهجوني؟)، فقال دعبل: (قعدتَ على طريق القافية).
وفِعْلَهُ فَعَلَ إسحاق الموصلي في قوله يصف سُكْرَه وأصحابَه:
فما ذَرَّ قرن الشمس حتى كأننا
من العِيِّ نحكي أحمدَ بنَ هشام
وأحمد بن هشام صاحبه فعتب عليه، فأجابه بمثل جواب دعبل.
ومثل هذا الصنيع إن لم يحسِّن البيتَ فإنه لا يفسده.
وهكذا الشاعر المحسن، إن اضطُرَّ ركِبَ من الضرورات أحسَنها، أو حسَّن بحِذْقِهِ الضرورةَ أو حاطَها بما يذبُّ عنها.
ومن الشعراء من يضطر فيأتي بما لا يحسن لفظه، أو بما ليس في معناه خَصوصية، دع أن يفيد معنًى زائدًا. كالذي حُكي أنّه عرَضَ على ابن الأعرابي شعرًا له فيه:
فشبّهتُ خدّيها بخدِّ محمدٍ
وبَردَ ثناياها بشعر ابن أحمرا
فاستدناه ابن الأعرابي فدنا منه، فرفع يده فلطمه لطمةً ملأت دوائر وجهه، وقال: أمثلُك يعيب على ابن أحمر شعره؟!
وقد أحسن ابن الأعرابي في لطمه إياه! فابن أحمر، هو عمرو بن أحمر الباهلي، شاعر فحل مقدَّم، وهو جاهلي أدرك الإسلام وأسلم وشارك في الفتوحات رحمه الله.
وأظنُّ هذا الشاعرَ اضطرته القافية فلم يُحسن ركوبَها، فركِب ما كسرَ ثنايا محبوبته التي شبَّبَ بها.
ولا أدري من محمد الذي ذكره في عَروض البيت، ولعله قاعدٌ في طريقها أيضًا.
ومن ذلك أشياء كان يصنعها بشار، فإنه أنشد أبياتًا على لسان حماره يُشَبِّبُ بأتانٍ، فقال فيها:
ولها خدٌّ أسيلٌ
مثل خدِّ الشَّيْفَران
فسأله رجلٌ: ما الشيفران؟ فقال: (ما يدريني! هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فاسأله).
وكان بشارٌ يفعل ذلك في شعره كثيرًا، حكى أبو الفرج بإسناده:
(كان بشّار يحشو شعره إذا أعوزته القافية والمعنى بالأشياء التي لا حقيقة لها، فمن ذلك أنه أنشد يوما شعرا له فقال فيه:
غنّني للغريض يا بن قنان
فقيل له: من ابن قنان هذا، لسنا نعرفه من مغنّي البصرة؟ قال: وما عليكم منه! أَلَكُم قِبَلَهُ دينٌ فتطالبوه به؟ أو ثأر تريدون أن تدركوه؟ أو كفلت لكم به فإذا غاب طالبتموني بإحضاره؟ قالوا: إنما أردنا أن نعرفه، فقال: هو رجل يغنّي لي ولا يخرج من بيتي؛ فقالوا له: إلى متى؟ قال: مذ يوم ولد وإلى يوم يموت. قال: وأنشدنا أيضا في هذه القصيدة:
ووافاني هلال السماء في البَرَدانِ
فقلنا: يا أبا معاذ، أين البردان هذا؟ لسنا نعرفه بالبصرة، فقال: هو بيت في بيتي سميّته البردان. أفعليكم من تسميتي داري وبيوتها شيء فتسألوني عنه!)
ووقع من المتأخرين -وما أكثر ما يقعون- في مثل هذا العقَّادُ في قوله:
قالوا ابن آدم من قردٍ، فقلتُ لهم
كلَّا، ولكنه في النَّجْرِ ثعبانُ
فقال الرافعي: (يعني "في الأصل". وهذا ردٌّ من العقاد على داروين! ولو كانت القافية حاءًا لقال: إنه تمساح!).
والمحسن البارع من إذا اضْطُرَّ تمَّمَ البيت بما يزيدُه حسنًا، كما في الذي يسميه أهل البديع (الإيغال). وقد قال الأصمعي: (أشعر الناس مَن ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى)، كالذي في قول الخنساء رضي الله عنها:
(كأنه علمٌ في رأسه نارُ)
فأرادت وصفه بالشهرة والظهور والهداية، فتم مرادها ذلك عند تشبيهها إياه بالعلَم، وهو الجبل العالي. ثم ملأت فراغ القافية بما تمم المعنى وحسَّنه، فقالت: (في رأسه نار)، ولو لم تأت به لم يختل مرادها، حُسْنًا وإبانةً.
وأمثلة هذا كثيرة في كتب الأدب.
م