لم تكن مجرد مدينة سافر إليها الأصدقاء الثلاثة لقضاء حياة جديدة ومختلفة، وإنما كانت "أمستردام" رمزًا لكل جميل في حياتهم، للحب والصداقة التي جمعت بينهم، للحظات رائعة وذكريات تشاركوها سويًا، قبل أن تمضي بهم الحياة، كل في طريقه. فيلم Amsterdam من أكثر الأفلام التي انتظرها الجمهور وبقوة هذا العام، ولعل أبرز أسباب ذلك هو القائمة الطويلة من النجوم الذين شاركوا به.
بداية من كريستيان بيل، وروبرت دي نيرو، وجون ديفيد واشنطن، ومارجو روبي، ورامي مالك، وتايلر سويفت وغيرهم الكثير، بالإضافة إلى الحقبة الزمنية التي تدور خلالها أحداث الفيلم، والتي تحمل بطبيعة الحال ثراءً بصريًا كبيرًا، على مستوى الديكور والأزياء والملابس وأماكن التصوير، وحتى أسلوب التصوير والإضاءة في الفيلم، وغيرها من النماذج الجاذبة لأي مشاهد.
الفيلم يدور في إطار تاريخي درامي كوميدي، وتُسرد أحداثه على خطين زمنيين، الأول في فترة الحرب العالمية الأولى في أوروبا وبالتحديد في عام 1918، وتلك الصداقة التي نشأت بين الطبيب "بيرت" والمحامي "هارولد"، وكلاهما مُشارك في الحرب، حيث يتعرضان لإصابات خطيرة في أثناء المعارك، حتى يلتقيان ب"فاليري"، الممرضة التي تقوم بعلاجهما، فيصير الثلاثة بمرور الوقت أصدقاء، وينتقلون للعيش في "أمستردام"، حيث تجمعهم الصداقة والحب واللحظات الرائعة فيما بينهم، حتى يقرر "بيرت" العودة إلى الولايات المتحدة، حيث عمله في الطب، وزوجته التي لا يستطيع قضاء الوقت معها.
أما الخط الثاني للأحداث فيكون بعد مرور عدة سنوات لنصل إلى عام 1933، حيث "بيرت" و"هارولد" اللذان تستمر علاقة الصداقة فيما بينهما، إلى أن يُتهمان بقتل ابنة الجنرال "ميكينز"، فتبدأ رحلتهما في إثبات براءتهما، والفيلم من تأليف وإخراج "ديفيد أو. راسل"، الذي يعود بعد غياب سنوات منذ آخر أفلامه Joy عام 2015، وقد حقق الفيلم أرباحًا تجاوزت ال 30 مليون دولار أمريكي، منذ طرحه في مطلع أكتوبر الماضي.
في مقال اليوم، نستعرض معًا أهم ما تناوله الفيلم، ونقاط الضعف وكذلك نقاط القوة به، التي جعلته يحظى باهتمام ومشاهدة من الجمهور حول العالم.
قدم الفيلم صورة بصرية مميزة واستثنائية بمختلف أشكالها ومفرداتها، سواء على مستوى الملابس والأزياء، أو الديكور وشكل المباني والسيارات، أو استخدام الاكسسوارات، ولعل السبب في ذلك هو ثراء تلك الحقبة الزمنية، وتميزها بالعديد من الأنماط والأشكال التي جعلتها جاذبة جدًا للجمهور.
أيضًا هناك عنصر هام جدًا لا يمكن إغفاله وهو الماكياج، والذي ظهرت دقته وبراعة القائمين عليه من خلال شكل الإصابات للمحاربين القدامى، والتي بدت حقيقية وواقعية بشكلٍ كبير، سواء في شكل الجروح، أو في مشاهد العمليات الجراحية والعلاجية داخل المستشفى، ومشهد تشريح الجثة وغيرها، وهى وإن كانت صادمة وقاسية بعض الشيء، إلا أنها كانت من عناصر القوة والتميز في الفيلم على المستوى البصري، ناهيك عن كادرات التصوير، والإضاءة والألوان داخل الفيلم، جميعها جعلت منه تحفة بصرية، تتأملها في إعجاب، ولا تريدها أن تنتهي.
أداء متميز للممثلين في الفيلم Amsterdam
الممثلون في الفيلم قدموا أدوارًا متميزة جدًا، على مستوى التجسيد والأداء التمثيلي، ولعل أبرزهم كان النجم "كريستيان بيل"، والذي جسد شخصية "بيرت"، الطبيب المحارب الذي تعرض لإصابات بالغة مثل: فقدانه لعينه، والاستعانة بعين زجاجية، في صورة من صور استخدام الواقعية السحرية والغرائبية في الفيلم، بالإضافة إلى الإصابات الجسدية الأخرى التي تعاني منها شخصية "بيرت"، لتظهر عبقرية "بيل" في المجهود البدني الذي بذله في أداء الدور، إلى جانب المجهود الذهني والنفسي في رحلته لتجسيد الشخصية.
أيضًا الأداء الرائع الذي قدمه كل من "جون واشنطن"، و"مارجو روبي"، والتي قدمت واحدًا من أفضل أدوارها التمثيلية، وأظهرت به مجهودًا كبيرًا على مستوى التجسيد، وحتى الأدوار الثانوية في الفيلم، على الرغم من قلة مشاهد أبطالها، إلا أنها كانت حيوية ومؤثرة في القصة، خاصة وأن الذين يقدمونها نجوم لامعون ولهم تاريخهم الفني الطويل مثل النجم "روبرت دي نيرو"، الذي قدم أداءً متميزًا، أو حتى الممثلون ممن لمع نجمهم في سماء هوليوود في السنوات الأخيرة، مثل "رامي مالك" الذي قدم بدوره دورًا استثنائيًا على الرغم من صغر مساحته نوعًا ما، إلا أنه كان مؤثرًا وقويًا بكل المقاييس.
لمحات الغرائبية في سرد الأحداث بشكل ساخر لواقع الحرب
استخدم الفيلم العديد من المفردات التي يمكننا القول بأنها تنتمي للغرائبية أو الواقعية السحرية، والتي كان أبرزها عين "بيرت" الزجاجية، التي استعان بها بعد فقدانه لعينه في الحرب، لنراها كثيرًا ما تسقط منه، ويظل يبحث عنها حتى يلتقطها، ويُعيدها إلى وجهه مرة أخرى، فهو على الرغم من ذلك كان قادرًا على رؤية الواقع وحقيقته، وبنوع من الإسقاط الساخر على الفساد، الذي لا يراه الآخرون على الرغم من وضوحه الشديد، وحتى لقطاته وهو يُصلح وجوه المصابين في الحرب، وغيرها من أشكال الغرائبية التي ظهرت في الفيلم، بطريقة ساخرة من الواقع الذي عاشه هؤلاء المحاربون في فترات الحرب.
الفيلم في كثير من مشاهده مزج بين الواقع والخيال، وذلك بطريقة سلسلة وانسيابية وأحيانًا استعراضية، وأيضًا بلمحاته الغرائبية على مستوى الشخصيات، وردود أفعالهم في المواقف المختلفة، وإن كان هناك بعض الملل في سرد أحداث الفيلم، الذي تجاوزت مدته الساعتين و14 دقيقة، وأيضًا الأداء غير المنطقي والمبالغ فيه أحيانًا من الشخصيات، دون منطقة ذلك في سياق الفيلم.
فيلم Amsterdam: تقنيات سردية متعددة ومستويات مختلفة لفهم القصة
استخدم الكاتب في سرده للفيلم ما يُسمى بالسرد غير الخطي، وهو الذي لا يكون بتسلسل الأحداث المنطقي للقصة، وإنما بدأ بالزمن الحاضر للفيلم وهو في 1933، وظلت الأحداث تتوالى حتى لحظة بعينها، ليتوقف الفيلم فجأة، ويعود بعدها لزمن أسبق وهو فترة عام 1918 والحرب العالمية، ليحكي معه المخرج الخط الدرامي الآخر المرتبط بتاريخ الشخصيات، وهذه الطريقة وإن كانت مُربكة نوعًا ما للمشاهد، خاصة وأنه اتجه في سرده إلى حكاية مختلفة عن التي بدأ بها الفيلم، ولكن عدم التغيير الكبير في ملامح الشخصيات ساعده كثيرًا، بالإضافة إلى استخدامه للراوي المشارك في الأحداث، لتوضيح الكثير من الأمور، وحالة الشخصيات.
الفيلم أيضًا استخدم بعض اللمحات التي جاءت في منهج المخرج المسرحي "بيرتولد بريخت" في الدراما، والذي اهتم بكسر الإيهام لدى المشاهد، وظهر ذلك من خلال بعض الأمور البسيطة مثل أسماء الشخصيات التي ظهرت على الشاشة في أثناء حديثهم، أو توجيه الشخصيات حديثهم للكاميرا في بعض المشاهد، فضلًا عن الأداء التمثيلي الأقرب للاستعراضي، سواء الأداء المبالغ فيه، أو المقاطع الغنائية للشخصيات في حوارهم في بعض أحداث الفيلم.
الفيلم في مجمله لم يكن سلسًا بشكلٍ كبير في عرض فكرته، فعلى الرغم من الرسائل الكثيرة التي قدمها الفيلم حول مفاهيم الحب والصداقة، والبحث عن الحياة المستقرة السعيدة، خاصة لمن عانوا ويلات الحروب والدمار، وكيف انخرط هؤلاء المحاربون في المجتمع، وكيف يتعامل المجتمع بدوره معهم، وهل يمنحهم التقدير الذي يستحقونه أم لا، إلا أنه في رأيي جاء غير واضح المعالم في صراعه الأساسي وفي كثير من أحداثه، فيما عدا الدقائق الأخيرة من الفيلم، التي أظهرت بصورة أو بأخرى رسالة الفيلم للجمهور، ما يجعل فهمه بشكل عام مهمة ليست سهلة على المشاهدين.
بالإضافة إلى المستويات المختلفة لفهم القصة، وهو أمر وإن كان إيجابيًا في بعض الأحيان ولصالح قصة الفيلم، إلا أنه في هذا الفيلم لم يخلق تلك الحالة الإيجابية عند مشاهدته، ما زاد من حالة الملل خاصة مع المدة الزمنية الطويلة لأحداث الفيلم، وزاد من الارتباك والحيرة، ولكن مع المشاهد الأخيرة منه، تدرك حقيقة ما كان يريد المخرج ومؤلف العمل "ديفيد.أو. راسل" الحديث عنه، وتبدأ الأمور بالتكشف والظهور رويدًا رويدًا، حتى تجد نفسك أمام معنى إنساني مميز وذي قيمة عالية.
سارة خليل - أراجيك