لتعريف بنجيب محفوظ :
نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا روائي، وكاتب سيناريو، وكاتب مسرحي مصري، وأول مصري حائز على جائزة نوبل في الأدب. كتب نجيب محفوظ منذ الثلاثينات واستمر حتى 2004. تدور أحداث جميع رواياته في مصر، وتظهر فيها سمة متكررة هي الحارة التي تعادل العالم
عرض الاحداث :
السراب، رواية درامية بشكل كبير، يمكن أن وصفها بأنها رواية تتناول مشكلة، لكن بدون حلول لها، تحولت هذه الرواية إلى فيلم سينمائي يحمل نفس الإسم، استطاع المخرج أنور الشناوي أن ينقل لنا مغزى الرواية، لكن لم يوفي الرواية حقها، جسد نور الشريف شخصية بطل الرواية على حسب القدرة الإبداعية التي يمكن أن تخرج في فيلم سينمائي قصير المدة، رواية "السراب" من الروايات المحيرة بالنسبة لي عند قراءتها، فعهدي على كاتبنا الجرأة في قص رواياته، وبالرغم من ذلك فجرأته هنا لم تنل من الرواية إلا بالقليل، بل غلب عليها الوصف الدقيق لمشاعر البطل مع باقي الشخصيات، وكعادته استطاع كاتبنا أن يجعلنا نتصور كل ما يحدث بل ونصل لحد التصديق لشدة التفاصيل، بالطبع لم تروقني بعض الأحداث التي تعدت حدود المعروف عندي، ولكن المعروف بالنسبة للبعض مباح للبعض الآخر، ولإعتباري نجيب محفوظ من الكتاب المحترفين في فن صياغة المعاني، تقبلت اللغة التي استخدمها هنا في الرواية، لا أدرى إن كان متعمداً إثارة الدهشة فينا من شديد المعاني، أم أن الأمر خارج عن إرادته هو الأديب المخضرم، أما عقولنا نحن فلها أن تفهم ما تشاء، أعيب على جهلي بتعاليم اللغة الفصحى، لكن لازلت على عهدي في عدم القدرة على فك طلاسمها، فوجدت نفسي أمام كلمات مثل وشائج، أروم، الساجي، مهيضة، سجفه، قمطر، الجوذيّ، المصاقع، الجدث، سحية وذؤابة فعند رنينها في أذني قررت أن أسير مع الكلمات الأخرى لعلي أفهم، وفعلت أحياناً، أما ما جذبني هنا هو حرصه على تشديده على الصفات، فعند وصفه للظلام يقول ظلماء، وللحزن يقول محزوناً، وللأسف يقول الأسيف، وكثير مثل: الرطيب، هياب، حسيرة، الأويقات، سهوم، المقدور، المخبوء، حتى نرى المعنى بوصفه الصحيح، راقني أيضا استخدامه للكلمات الدارجة وقتذاك مثل: الحانطور، القلة، الوابور، السلاملك، الباشجويش، دلالة، دورق، وقومسيون، وكثير من الجمل الفكاهية التي يغلب عليها السخرية مثل: "يا فرحة أمك بك" وغيرها الكثير، مما أضفى على الرواية مشاهد كوميدية في بعض الأحيان.
ستبدأ رواية السراب وببطء نوعي في التركيز على فترة الطفولة لكامل، وعلى علاقته بأمه التي طُلِقت من أبيه السكير الذي انعزل عنهم تمامًا بعد أن أخذ في حضانته إخوة كامل وهم ” مدحت” و ” راضية”، هنا سيتعلق كامل بأمه تعلقًا مرضيًا بسبب سلوك أمه، فهي عزلته عن العالم، منعته من الاختلاط بالأطفال، كانت تُلبِسه ملابس النساء صغيرًا، وظل ينام في حضنها حتى سن البلوغ، إنَّ ما أراد محفوظ التأكيد عليه هنا هو ” ثبات جوهر الشخصية عند سن الطفولة” فلم تنضج شخصيته مع نضج جسمه، وهذه النقطة مفتاح فهم الشخصية وأزماتها، وهي مفتاح للرواية كلها بتصوري.
هذه التربية كانت بالأساس هي العقدة التي منعت الصلة بين كامل وبين المجتمع، فالبطل عاجز عن الحياة في هذا المجتمع، ولا تبدو هنا المشكلة في المجتمع كما في روايات نجيب محفوظ الأخرى، بل هنا المشكلة في كامل نفسه.

ويمكن توصيف أزمة البطل في فقدانه للثقة في نفسه مما جعله غير قادر على التواصل مع الناس، وكذلك الخجل الشديد الذي مثَّل عائقًا أمامه للاندماج في المجتمع، وقد سبَّب له هذا الأمر مشكلتين كبيرتين في حياته، الأولى: فشله الدراسي التام، والثانية: فشله الجنسي مع زوجته وحبيبته ” رباب”، لقد ظل كامل يبحث طول الرواية عن سراب الحرية، حرية التخلص من أسر أمه، لكن لم تكن المشكلة في أمه بقدر ما كانت فيه هو شخصيًا، في عجزه عن كسر تعلقه بأمه، وتجاوز فكرة ” الطفولة النفسية” التي بلا مسؤوليات، ولذلك نجح كامل في العلاقة الجنسية مع العاهرة ” عينيات” وفشل مع زوجته ” رباب”؛ فالعاهرة كانت تقود العلاقة تمامًا وتأخذ كل المبادرات، كان تنزع عنه هذه المسؤولية، وفي دلالة لمعاملة العاهرة لكامل كطفل وضع محفوظ كلمة على لسان العاهرة كانت تداعب بها كامل وهي ” كتكوتي”، كدلالة عن بحثه عن الأمومة حتى في صورة تلك العاهرة التي فهمت مدخل كامل تمامًا.
شطر كبير من رواية السراب يدور حول طفولة كامل المرضية السيكولوجية، وتجليات ذلك المرض السيكولوجي ” الرهاب الاجتماعي” على سلوكياته في الجامعة والعمل، وتعلقه برباب وتتبعها ومراقبتها إلى أن يتزوجها، ثم أزمته الجنسية، ثم المفاجأة المدوية التي صدمنا بها محفوظ في نهاية الرواية عن ” رباب”. أثناء ذلك الخط السردي المطول هنا تظهر مشكلة بالنسبة لك كقاريء، أنَّ محفوظ يحاول بكل جهده أن يُفقدِك تعاطفك مع الجميع، حتى مع تلك الشخصيات التي تبدو ظاهريًا متفانية مثل الجد والأم و الزوجة، وفي كل ذلك يضعك محفوظ أمام الحدث مباشرة، بل تتجلى في بناء الشخصيات قدرية نجيب محفوظ حول وراثة المآسي، فهذا كامل يسكر كأبيه وترتمي في حضن العاهرات، بل كامل يتهم نفسه أنه قتل أمه كما حاول أبوه من قبل قتل والده، وعندما يريد أن يبني لنفسه عالمًا جديدًا اختار التصوف، لكن تظهر في آخر الرواية تلك العاهرة مرة أخرى ليبدأ معها كامل الرحلة من جديد، وكأنه ما هرب من أسر أمه البيولوجية إلا ليقع في أسر من تحسسه بالأمومة السيكولوجية، وهكذا يجري كامل عبر صفحات الرواية خلف سراب.
يوجد في الرواية ثلاثة أجيال، الجيل الأول هو الجد الكبير لاظ، يقابله على الجانب الأخر الأميرالاي عبد الله بك حسن، يأتي بعدهم الجيل الثاني وهم: رؤبة لاظ وأخيه، وعلى الجانب الأخر تأتي زينب هانم عبد الله، أما الجيل الثالث وهو محور الرواية الأصلي فيتمثل في نتاج هاتين العائلتين وهم: راضية ومدحت وكامل لاظ، نجد في الرواية شخصيات عديدة منهم الخدم التي تظهر أدوارهم بشكل واضح كعم آدم البواب النوبي صاحب سر رؤبة لاظ، وصباح الخادمة المخلصة، وعم كريم الحوذيّ خادم الأميرالاي، وزوج راضية صابر أمين، وهناك من الشخصيات من كان لهادور أساسي لسير الحبكة الدرامية مثل: رباب زوجة كامل، والدكتور أمين رضا، وما كان لهما من تأثير على حياة البطل
عرض الشخصيات :
شخصيات رواية السراب الهامشية كانت مسطحة بلا أعماق وبعضها غير محدد الملامح مثل والد رباب ” جبر بك” ووصفه بأنه خاضع لزوجته، ومع ذلك لم نجد لهذه الصفة أثرًا في الرواية، وكذلك الزوجة ” رباب ” التي صدمنا فيها محفوظ دون بيان موضوعي لدوافع فعلها الذي قلب الرواية، وهذه مشكلة عامة في روايات محفوظ، وهي فكرة حتمية السقوط تحت دوافع الاحتياج المادي أو النفسي، لكن بشكل عام نلاحظ أنًَ بناء الرواية جاء متماسكًًا، ورغم أن جرعة الديالوج ليست كبيرة فإن محفوظ حاول قدر جهده التخلص من لغة التقارير، فالديالوج على قلته جاء متناغمًا مع تركيب شخصيات الرواية لاسيما ديالوج والد كامل الذي لا يكاد يفيق من الخمر، وكذلك ديالوج الجد والأم والزوجة مناسب بشكل مدهش لتركيب الشخصيات، الرواية ممتازة وإن كانت مرهقة نفسيًا.