تتنوّع مفاهيم الأسلوبية وآليّات اشتغالها، والانزياح من أشهر هذه المفاهيم، إذ إنّه ظهر بظهور الشعرية الحديثة؛ وذلك لاختلاف اللغة الشعرية عن غيرها، فاللغة العلمية أسلوبها تقريريّ مباشر، ولا مجال فيه للتأويل فيكون المتلقي أمام دلالة واحدة فقط مهما اختلف المستوى الثقافي للمتلقين، أمّا الشعر وإن كان يعتمد لغةً فيها شيء من التقريرية، إلّا أنّ حظَّها من الإيحاء كبير، وممّا هو جديرٌ بالذّكر أن الانزياح هو وسيلةٌ من وسائل هذا الإيحاء، فهو من الظواهر المُهمّة في الدراسات الأسلوبية التي تميز النص الأدبي عمومًا، والنص الشعري خصوصًا؛ وذلك لما للنص الشعري من ميزات تجاوز المألوف وتخطّيه، وفيما يأتي تفصيل تعريف الانزياح لغة واصطلاحًا.
تعريف الانزياح لغة واصطلاحًا :
الانزياح في اللغة هو زوالُ الشّيء وتنحّيه، ويكون بمعنى ذهب وتباعدَ، وبذلك يكون في اللغة له علاقة بالذهاب والتباعد والتنحّي، أيْ تغيير حال معينة وعدم الالتزام بها، وقد ترتبط الدلالة اللغويّة بشيء غير المكان كقول: زاح عنه المرض أيْ زال عنه، أمّا اصطلاحًا يُشبه دلالتَه اللُّغويّة فهو الخروج عن المألوف والمُعتاد، والتنحّي عن السائد والمتعارَف عليه، وهو أيضًا إضافة جماليّة ينقل المبدع من خلالها تجربته الشعوريّة للمتلقي ويعمل على التأثير فيه، وبذلك فإن الانزياح إذا حقق قيمةً جمالية وتعبيرية يُعدّ خروجًا عن المألوف، وتجاوزًا للسائد، وخَرقًا للمتعارف عليه، ولمّا كان الانحراف اللُّغوي مرتبطًا بالنص، فيمكن تقسيمه إلى نوعين واضحين: الأوّل هو الانزياح الدلاليّ، ويكون في البلاغة أو الصور أو التّشبيه أو المجاز، وهو من الأنواع المؤثّرة تأثيرًا كبيرًا في القراء، والنوع الثاني هو الانزياح التركيبيّ، وهو مرتبطٌ بقوانين اللغة والنَّظم وتركيب العبارات كالتقديم والتأخير مثلًا.
يقول جون كوهن:
"الأسلوب هو كل ما ليس شائعًا ولا عاديًّا ولا مَصُوغًا في قوالبَ مستهلكة...، هو مجاوزة بالقياس إلى المستوى العادي، فهو إذًا خطأٌ مُراد".
ومن أكثر التعريفات الواردة تعريفُ فاليري، الذي قال: "إن الأسلوب في جوهره انحرافٌ عن قاعدةٍ ما".
يرى ريفاتير أن الانزياح "يكون خرقًا للقواعد حينًا، ولجوءًا إلى ما ندر حينًا آخر، فأما في حالته الأولى، فهو من مشمولات علم البلاغة، فيقتضي إذًا تقييمًا بالاعتماد على أحكامٍ معيارية، وأما في صورته الثانية، فالبحث فيه من مقتضيات اللسانيات عامة، والأسلوبية خاصة"
الانزياح والأسلوبية الأسلوبُ يعكس فكر الكاتب وشخصيّته بناءً على اختياراته الواعية، ولذلك يعمد الكاتب في كثير من الأحيان إلى مراعاة اختياراته حسب أصناف المتلقّين الذين يخاطبهم، وسيسعى لجذب الانتباه إليه، وتلك الاختيارات تكون في أغلبها مُنزاحة عن الأصل كالتقديم والتأخير، أو الحذف والذِّكر، وبذلك يكون الكاتب قد خالف المألوف وتفنّن في إبداع نصّه. وقد وصلتْ معظم الدرسات التي قامت حول علم الأسلوب إلى أنّه يقومُ على الانزياح، أو ما يطلق عليه الانحراف، حتى إنّ الكثيرَ من الباحثين رَبَطوا بين مفهوم الأسلوب بوصفه انحرافًا عن القاعدة العامة وبين التصور القديم له القائم على أنه طبقة زخرفية تزين النص بالأساليب البلاغية، وهذا ما يساعد على التمييز بين المحسنات الموجودة في النص وبين الأساس العادي المألوف للغة المستعملة، وبناء على ما ذُكر فإنّ علم الأسلوب هو انحراف عن القاعدة المألوفة في نصّ ما، ومحاولة العثور على تلك الانحرافات وتحديد مستواها وتحليلها.
جذور ظاهرة الانزياح كان تركيز علم البلاغة فيما مضى يعتمد على الفروق القائمة بين الوسائل الشعريّة مثل الكناية والاستعارة وغيرها من الأساليب البلاغية، في حين تبحث النظرية الأسلوبية عن العامل الشعريّ والذي يتحقّق من خلال استعمال الكاتب أو المبدع أو الشاعر لمجموعة من الصور والأساليب البلاغيّة مثل التشبيه والاستعارة والكناية، أو الانحراف عن قاعدة مألوفة مثل: التقديم والتأخير أو الحذف والذكر أو غيرها من ظواهر الانحراف التي يركّز عليها علم الأسلوب، وبناءً على ما تقدّم يكون علم البلاغة -حسب رأي بعض العلماء- مفيدًا للأديب و الناقد والمخرج، ولكلّ كاتب أو متكلم أو خطيب، أما الدراسة الأسلوبية في ظل ما سبق تُبين أن الأسلوب هو انعكاس للشخصية، وكذلك للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للعصر الذي يعيش فيه الكاتب، طالما أن الأدب هو كلام يعبّر عن العقل والعاطفة بالتالي فإن الأسلوب هو الوسيلة اللازمة لنقل هذه الفكرة والعاطفة بالإضافة إلى عدّ عملية الابداع الأدبي عملًا أسلوبيًا.
أما فيما يتعلّق بمصطلح الانحراف أو الانزياح فهو من اقتراح ستيفن أولمان وهو عالم أسلوبيّ، فقد حدّد مجال علم الأسلوب في الانزياحات التي يلجأ إليها مستعمِل اللغة، أمّا شكري عياد فقد عمل على تحقيق التوافق بين العنصرين الرئيسين للأسلوب وذلك بالنظر إلى عنصر الاختيار على أنّه قائمٌ وسط اللغة، وعنصر الانحراف على أنه قائم خارج اللغة، وممّا هو جديرٌ بالذّكر أنّ الانحراف أو العُدول يكاد يكون خاصًا بلغة الأدب والتي لا يعني انزياحها خروجًا عن دائرة اللغة، إنّما يعني إثارة المتلقّي وتحفيزه، لذلك تدرُسُ الأسلوبيّة الخصائص اللغوية التي تحوّل الخطاب عن سياقه الإخباري إلى وظيفته التأثيريّة.
وظيفة الانزياح:
وظيفة الانزياح تخدم- في المقام الأول – النص ومتلقي النص.
ولا حرج في أن نسارع إلى القول أن الوظيفة الرئيسة التي أكثرت الدراسات الأسلوبية من نسبتها إلى الانزياح، إنما هي " المفاجأة" . وغني عن البيان أن مفهوم المفاجأة مرتبط أصلاً بالمتلقي، وهو الذي أولَتْهُ الأسلوبية وغيرها من المدارس النقدية عناية خاصة، بل أدخلته ضمن دائرة الإبداع، بعد أن لم يكن له في العصور السالفة كبيرَ اعتبارٍ للمتلقي.
ويمكننا القول أن النقّاد القدماء قد عرفوا أهمية هذا المصطلح –في وجوهه القديمة-، وما يُنتجه من مُفاجأةٍ للمتلقي، ولكنهم لم يعرفوه كما عرفناه نحن، وإنما عرفوه بمصطلحات عديدة مجزّأة مبعثرة.
إذاً إن اليونانيين القدماء، ومن بعدهم العرب، وأخيراً الغرب قد عملوا خلال هذه الآلاف من السنين، لتطوير هذا المصطلح حتى غدا على هذا الشكل؛ أي أنه نتاج حضاري ثقافي شاركت فيه جميع الأمم، وليس مخصوصاً بأمَّةٍ
معيّنة دون أخرى
والانزياح اللُّغوي يرتبط بالنص، وينقسم بدوره إلى نوعين اثنين:
1- الانزياح الدلالي (الاستبدالي):
وهذا النوعُ مِن الانزياح هو الأشهر والأكثر دلالةً وتأثيرًا في القارئ، يقول عنه صلاح فضل - رغم أنه يسميه انحرافًا -: "الانحراف الاستبدالي يخرجُ على قواعد الاختيار للرموز اللُّغوية؛ كمثل وضع الفرد مكان الجمع، أو الصفة مكان الاسم، أو اللفظ الغريب بدل المألوف".
وهذا النوع يُعرَف في البلاغة بالصورة الشعرية أو البلاغية، ويُعَد التشبيه والاستعارة والمجاز مِن أهم أشكال هذا الانزياح الدلالي.
2- الانزياح التركيبي:
يرى صلاح فضل أن هذا النوعَ مِن الانزياح يتصل "بالسلسلة السياقية الخطية للإشارات اللُّغوية، عندما تخرج على قواعد النظم والتركيب؛ مثل الاختلاف في ترتيب الكلمات".
فإذا كانت اللغةُ تفرِضُ نمطًا أو قانونًا تركيبيًّا مُعينًا، فكل خروجٍ عن هذا القانون يُعَدُّ انزياحًا تركيبيًّا، سواء كان الخروج يَمَسُّ ترتيب السلسلة الكلامية؛ أي: التقديم والتأخير؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ [مريم: 40]؛ ففي الآية تقديم الجار والمجرور (إلينا يرجعون)؛ لإفادة القصر؛ أي: لا يرجعون إلا لله، أو الحذف، أو كان يمس نظام اللغة النَّحْوي.
المصادر :
صلاح فضل، علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته (الطبعة الأولى)، القاهرة: دار الشروق، صفحة 87-208، اطّلع عليه بتاريخ 1-6-2019، بتصرّف. ↑ د. أحمد غالب الخرشة، أسلوبية الانزياح في النص القرآني (الطبعة الأولى)، صفحة 13-16، اطّلع عليه بتاريخ 1-6-2019،
عبدالسلام المسدي، الأسلوب والأسلوبية، الدار العربية للكتاب، ط3، 103
صلاح فضل، علم الأسلوب ومبادئه وإجراءاته، دار الشروق، القاهرة، 1998، ص 212