تناول الأديب المصري طه حسين أمورا عديدة عن المعري أبرزها "سجنه الفلسفي" ونظرته للبلاء والألم والفن والعالم
لم يكن طه حسين مجرد أديب عربي أو وزير مصري، بل كان دون خلاف، أحد أبرز الأسماء في عالم الثقافة العربية خلال أواسط القرن الميلادي العشرين، وبقدر ما كان مثار إعجاب الكثيرين بقدر ما أثار أيضا جدلا كبيرا بشأن بعض أفكاره وكتاباته ومواقفه.
وإذا كانت سيرته الذاتية التي حملت اسم "الأيام" وكتب مثل: في الشعر الجاهلي، الشيخان، الفتنة الكبرى، مستقبل الثقافة في مصر، هي الأكثر شهرة، فإن كتابه عن أبي العلاء المعري يبدو محطة خاصة في حياة الأديب العربي تستحق التوقف، وتثير كثيرا من المتعة والشجن لدى من يقف عندها.
"مع أبي العلاء في سجنه" ليس سيرة ذاتية كالأيام، وليس كتابا يثير جدلا كثيرا ويحرك مياها راكدة مثل "في الشعر الجاهلي" لكنه تجربة فريدة يكتبها عميد الأدب العربي بقلبه ووجدانه عن شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء الذي أعجب به أشد الإعجاب وتأُثر به أشد التأثر.
ورغم أن هذا لم يكن الكتاب الوحيد الذي كتبه طه حسين عن المعري، حيث كتب "تجديد ذكرى أبي العلاء" وكذلك "صوت أبي العلاء" فإن له مذاقا خاصا، تدركه عندما تقلب الصفحات وتكتشف أنك لست فقط بصدد أديب يكتب عن أديب وإنما عبقري يدافع عن عبقري، ومبتلى بفقد البصر يكتب عن شبيه له في الابتلاء.
وفي الحقيقة، فإن التشابه بين الرجلين كبير، ليس فقط في النشأة وفقد البصر مبكرا وما يستتبعه من صعوبات، أو حتى في أن كلا منهما عاش على ظهر هذه الأرض 84 عاما، ولكن أيضا في النظرة النقدية والفلسفة الوجودية، وهو أمر يظهر جليا في كتابنا هذا.
حوار مع النفس
ورغم مرور ألف عام كاملة بين ولادة المعري في معرة النعمان (973م) ووفاة حسين في القاهرة (1973) فإنك تشعر وأنت تقرأ الكتاب أن الأخير قد تخطى حجب الزمان وكتب عن صاحبه وكأنه يعيش معه ويشعر بما يشعر، بل ويبرر له مواقفه أحيانا، وعلى طول الوقت يبدو معجبا بشخصيته وكذلك بأشعاره.
ومن السطر الأول في الكتاب يصارحك طه حسين بأنه لن يكون إلا "نحوا من حديث النفس تعرض فيه كما تريد" الذكريات والآراء التي كونها في شخص ممتاز فنان عظيم قاس قوي الإرادة قبل كل شيء، له ذكاء نادر يقظ دقيق قلق".
وتبدأ إثارة الحوار المفترض بين الرجلين مبكرا مع الفصل الأول، حين يقول طه حسين إنه أدار في نفسه حوارا مع أبي العلاء موضوعه الرضا عن الحياة والسخط عليها، وأنه حدثه بأن تشاؤمه لا مصدر له في حقيقة الأمر إلا العجز عن ذوق الحياة والقصور عن الشعور بما يمكن أن يكون فيها من جمال وبهجة ومن نعيم ولذة.
لكن طه حسين ما يلبث سريعا أن يصطف إلى جانب المعري، ويقول في الفصل نفسه "وإذا أنا بعد ساعات كأبي العلاء رهين سجون ثلاثة لا سجنين، أليس أبو العلاء يقول:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيـــــث
لفقدي ناظري ولزوم بيتــــي وكون النفس في الجسم الخبيث
أبو العلاء المعري لقب برهين المحبسين وحبس نفسه في عزلة اختيارية في معرة النعمان التي ينسب إليها (مواقع التواصل)
الوفي الأمين
وفي الفصل الثاني، يصارح طه حسين قارئه بأنه وإن كانت له آراء في المعري إلا أنه يريد في هذا الكتاب أن يسير معه سيرة الصديق الوفي الأمين "فلا أسوؤه في نفسه ولا في رأيه.. أفلو كان أبو العلاء حيا معاصرا وكنت له صديقا معاشرا أتراني كنت أظهر من أمره ما يقتضي العلم إظهاره وأجهر من سره بما يفرض العلم على العلماء أن يجهروا به؟" ثم يضيف أنه سيتحدث عن صاحبه بالقلب الذي يحب ويعطف ويرحم لا بالعقل الذي يمحص ويحلل ويقسو.
ثم يستعرض طه حسين سجون صاحبه في الفصل الثالث من الكتاب، ويقول إنه لم يكتف بسجن العمى، وإنما فرض على نفسه سجنين آخرين، أحدهما ظاهر محس يراه الناس جميعا وهو البيت الذي أقام فيه لا يغادره، والثاني سجن فلسفي تخيله كما يتخيل الشعراء واشتقه من حقائق الأشياء كما يفعل الفلاسفة.
وبعد أن يستعرض حيرة المعري بشأن الإنسان وهل هو مسير أم مخير، والأديان والفلسفات هل هي صحيحة أم متناقضة، يخلص طه حسين إلى أن العلة الحقيقية التي شقي بها صاحبه 50 عاما إنما هي الكبرياء الذي دفعه إلى محاولة ما لا يطيق وإلى الطمع فيما لا مطمع فيه وإلى الطموح في ما لا مطمح إليه، وكذلك الإسراف في الإيمان بعقله والثقة فيه ورفض كل شيء سواه، رغم أن العقل كما يقول طه حسين هو إنساني وبالتالي محدود مهما يكن جوهره ومهما تكن طبيعته.
طه حسين اعتبر أن أبو العلاء المعري فرض على نفسه سجن فلسفي تخيله كما يتخيل الشعراء (الجزيرة)
بشار والمتنبي
وفي الفصل الرابع، يستفيض طه حسين في الحديث عن "السجن الفلسفي" الذي قضى فيه المعري نحو 50 عاما من عمره، ويقصد به الكاتب هنا مشاعر الاضطراب والحيرة والقلق التي سيطرت على صاحبه، فضلا عن طبعه الذي كان يعده للعزلة ويهيئه للانفراد، على حد قول الكاتب.
ويرى طه حسين أن ظروف المعري قوت في داخله عاطفتين هما الحياء وسوء الظن، ودفعته بعد ذلك إلى التشاؤم.
ثم ينطلق حسين إلى مقارنة المعري باثنين من الشعراء قال إنهما شاركاه التفوق والنبوغ والامتياز والكبرياء، وهما بشار بن برد وأبو الطيب المتنبي.
الأول -كما يقول طه حسين- كان كفيفا مثل المعري وكان مثله أيضا ذكي القلب دقيق الحس عميق الفلسفة، لكنه مع ذلك سار سيرة أقل ما توصف به أنها مناقضة لسيرة أبي العلاء، فقد ذهب نحو إشباع الشهوات، بينما كان أبو العلاء نموذجا في تعذيب نفسه وجسمه وأخذه لهما بأشد القوانين وأصرمها وصرفا لهما عن أيسر اللذات وأهونها.
أما الثاني فقد شارك أبا العلاء في ذكاء القلب وفي النبوغ والاعتداد بالنفس، بل إنه ربما كان مثل الأستاذ له في مجال الشعر، لكن الفارق بينهما كبير في رأي طه حسين "فقد كان أبو الطيب عبدا لشهوات الثروة والاستعلاء على الناس وأنفق حياته في إرضائها وباع شعره في سوق الكساد، ومدح من كان يحتقرهم وتملق من كان يزدريهم، بينما أبو العلاء لم يدع لنفسه شهوة إلا أذلها ولا عاطفة إلا أخضعها لسلطان عقله، وفي مجال الشعر كان المتنبي مهووسا بمدح الرؤساء وأصحاب السلطة وهو ما أعرض عنه المعري القائل:
توحّد فإن الله ربك واحدٌ ولا ترغبنّ في عشرة الرؤساء
ولحديث طه حسين مع أبي العلاء في سجنه، بقية…